دأبت وزارة البيئة على إطلاق التقارير الوطنية، التي يتم تحضيرها من قبل مكاتب إستشارية. وفي كثير من الأحيان، بمشاركة خبراء وطنيين وخبراء أجانب، منتدبين من الجهات الدولية التي يشارك لبنان في إتفاقياتها، مثل “إتفاقية ستوكهولم” بشأن الملوِّثات العضوية الثابتة. وهذه الملوثات، هي مجموعة من المواد الكيميائية عالية السُمِّية، البيئية والبشرية. وعالية الاستقرار والثبات الكيميائي، لعشرات السنينن في مختلف الأوساط البيئية. وعالية القابلية للتراكم الحيوي، في الأنسجة الحيوانية والنباتية، بحيث تدخل السلسلة الغذائية للإنسان.
تعتبر مركبات “الديوكسين والفوران” Dioxins/Furans من أخطر المواد في هذه المجموعة، المسمَّاة “الملوِّثات العضوية الثابتة”. وهي تتكوَّن وتنبعث بشكل غير مقصود، نتيجة المعالجة الحرارية وحرق العديد من خلائط المواد، أو خلال عمليات صناعية إستخراجية وتعدينية مختلفة. وتعتبر كل أنواع عمليات الحرق لكل أنواع النفايات، مصدراً رئيساً لإنبعاث وإطلاق هذه المركبات، عالية النشاط المسرطن وعالية السمِّية البشرية، لأنها تهدِّد الأمان الصحي بأكبر المخاطر.
أطلقت وزارة البيئة، يوم 9 أيار (مايو) 2017، كما العادة، في حفل مهيب في فندق “فينيسيا”، عالي الفخامة، في العاصمة بيروت، “الخطة التنفيذية لإتفاقية ستوكهولم بشأن الملوثات العضوية الثابتة”، حيث تم التأكيد على “التزام لبنان بمبدأ التنمية المستدامة وإدارة الملوثات العضوية الثابتة، قولاً وفعلاً…”.
إذاً، تم الإحتفال بنجاح. وأُطلق التقرير الوطني عن تحديث الخطة التنفيذية الوطنية. وشُربت الأنخاب و”كفى الله المؤمنين القتال”. فقد تم الإعلان والتأكيد على الإلتزام بالتنمية المستدامة، فلا تقلقوا أيها اللبنانيون، فهناك من يلتزم “قولاً وفعلاً” بإدارة الملوثات العضوية الثابتة.
أما ماذا عن المصدر الرئيس لإنبعاث وإطلاق الديوكسين والفوران، أخطر الملوثات العضوية الثابتة، على الإطلاق؟ وماذا عن سيل إنبعاثاتها وإطلاقاتها المستمرة، المتزايدة يوما بعد يوم، في الهواء، في التربة وفي السلسلة الغذائية؟ إن هذا أمر لا يستحق الحديث عنه ولا إعتماد السياسات والإستراتيجيات والخطط والبرامج والأنشطة والإجراءات، للحد منه أو تخفيفه ومعالجة مصادره. فهذه لا تدخل في المراسم الإحتفالية، لإطلاق التقارير الوطنية وتوزيع الابتسامات، أمام كاميرات وسائل الإعلام. فلماذا القلق وقد سلَّم لبنان التقرير لسكرتارية الإتفاقية، خلال إنعقاد مؤتمرها في جنيف، في شهري نيسان وأيار (إبريل – مايو) 2017؟
ماذا تقول “إتفاقية ستوكهولم” عن مصادر هذه الملوثات عالية الخطورة؟ وماذا تقول “علبة الأدوات” Toolkit 2013؟ وهي الدليل التقني لإحتساب الجردة الوطنية لإنبعاثات وإطلاقات الديوكسين والفوران، في مختلف الأوساط البيئية، من المصادر المختلفة.
في الجزء الأول من هذا “الدليل” وتحديداً في الفصل الثاني منه، يتم تحديد مصادر الديوكسين والفوران وطرق تقدير الإنبعاثات والإطلاقات.
في الجزء الثاني منه، يتم تعداد العمليات الرئيسة التي يصدر عنها، بشكل غير مقصود، إنبعاثات وإطلاقات الديوكسين والفوران. وتأتي في مقدمة هذه العمليات، عمليات حرق النفايات Waste Incineration، وتصنف في سبع فئات من المحارق التقنية للنفايات، حيث تحدد عوامل التقدير لكل فئة منها. وتأتي في المرتبة السادسة، عمليات “الحرق في الهواء الطلق” Open Burning Process. ويقصد فيها كل عمليات الحرق غير المراقب، من دون إستخدام تقنيات خاصة بالحرق، في الهواء الطلق. وهي تعنى بعمليات الحرق في الهواء الطلق، للكتل الحيوية، النباتية والحيوانية، وللنفايات، من دون تجهيزات تقنية، وتحديد عوامل تقدير إنبعاثات كل فئة. وفي المرتبة التاسعة، يتم ذكر التخلص من النفايات والطمر. وتعنى بخمس فئات من المصادر، تتعلق بالتخلص من النفايات وطمرها وتحديد عوامل تقدير إنبعاثات وإطلاقات الديوكسين والفوران، من كل منها.
في عمليات حرق النفايات، يتم الحديث عن محارق النفايات الصلبة البلدية (المنزلية)، محارق النفايات الخطرة، محارق النفايات الطبية، محارق الأجزاء الخفيفة من النفايات المفرومة، محارق وحول محطات معالجة المياه المبتذلة (الصرف الصحي)، محارق نفايات الخشب والكتل الحيوية ومحارق الجثث الحيوانية.
أما عمليات الحرق في الهواء الطلق، فيتم الحديث عن مصدرين رئيسين لها: الحرق العشوائي للكتل الحيوية والحرق العشوائي للنفايات وكوارث الحرائق.
سوف نكتفي في مقالتنا اليوم بالحديث عن عمليات “الحرق العشوائي للنفايات في الهواء الطلق”، في المكبّات العشوائية، المنتشرة في مختلف المناطق اللبنانية، التي تتزايد أعدادها بشكل مستمر، حيث وصلت، وفق معطيات وزارة البيئة، إلى ما يزيد عن 1350 مكباً عشوائياً، حسب ما أُعلن في مؤتمر نقابة المهندسين بشأن النفايات، يوم 7 آذار (مارس) 2017. ونحن نعتقد أن هذا العدد هو اليوم أكبر بكثير، حيث نشهد إنتشاراً مقلقاً للمكبات العشوائية، في مختلف المناطق، لا سيما في الجنوب والنبطية والبقاع. وهناك معلومات موثوقة، تشير إلى أن عدد المكبات العشوائية في قضاء النبطية وحده، تجاوز الـ 30. أما عمليات الحرق التقني للنفايات Technical Incineration of Waste، فستكون موضوع مقالات مقبلة.
من بين عمليتي الحرق العشوائي (الكتل الحيوية ومكبات النفايات العشوائية)، سوف نكتفي بالحديث عن المكبات العشوائية، نظراً للخطورة التي أصبحت تمثلها هذه الفئة، كمصدر رئيس لإنبعاث وإطلاق الديوكسين والفوران. هذه الملوثات عالية السمية والخطورة، على الصحة البشرية. وعالية النشاط المسرطن، تحديداً.
كل عمليات الحرق العشوائي، التي تتم في مكبات النفايات، العشوائية غير المراقبة وتلك المراقبة أيضاً، هي عمليات تتم خارج التحكم بأي من شروط الإحتراق. ولا بتلك المتعلقة بتركيب النفايات المعرضة للإحتراق.
التهوئة الضرورية لعملية الإحتراق تتم عشوائياً، حسب الظروف الطبيعية المرافقة للعملية. فتكون هذه التهوئة من سيئة إلى سيئة جداً، في الأجزاء العميقة للمكب العشوائي (إحتراق غير كامل). وذلك، حسب تركيب النفايات وغناها بالمواد المشتعلة. وكذلك، حسب مستوى الرطوبة وسرعة الرياح.
يتم إنبعاث كميات كبيرة من الديوكسينات والفورانات، تؤدي إلى تلويث الهواء الجوي والتربة. ويمكن لها أن تلوث المياه وأن تتراكم في الرماد المتبقي عن عمليات الإحتراق.
تصنّف في المرتبة الأولى، بين فئات هذه المجموعة، عمليات إحتراق المكبات العشوائية للنفايات، التي تستقبل نفايات تضم نفايات المنازل، المكاتب، المعامل، ورش العمل الصغيرة والمطاعم. وفي كثير من الحالات، تحتوي على تراكيز عالية من المواد الكربونية وبعض مكونات النفايات المصنفة خطرة، مثل البطاريات، الدهانات، المنتجات الكهربائية والإلكترونية والبلاستيكية، المكونات الكيميائية والصيدلانية والمعدنية. ولذلك، يعتبر “عامل الإنبعاث” Emission Factor مرتفعاً، فيكون وفق “دليل” إتفاقية ستوكهولم toolkit 2013، “عامل الإنبعاث” مقاساً بـ “الميكروغرام سمي متكافئ” لكل طن من النفايات المحترقة μg TEQ/t material burned، في الهواء 300 وفي التربة 10. ومستوى الثقة بدقة القياس “متوسطاً”.
هذا ما يجعل من حرائق المكبات العشوائية، مصدراً عالي الخطورة على الصحة البشرية والبيئية، نظراً للكميات المعتبرة من الديوكسينات والفورانات المنبعثة منها، ملوثة الهواء الجوي والتربة. وبالتالي، مهددة كل الأوساط البيئية والسلاسل الغذائية بالتلوث الكبير؛ واضعة صحة عموم الناس في خطر التعرض الحقيقي لآثارها السمية والممرضة.
السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن يطرح على وزير البيئة وكل المسؤولين، في الحكومة والدولة اللبنانية، هو: ما هي “خطتكم التنفيذية” للتحكم بهذا التلوث الخطير؟ وللحد من إنبعاثات وإطلاقات الديوكسين والفوران، من هذا المصدر تحديداً، باعتباره، مع مصادر الحرق التقني في أنواع محارق النفايات المختلفة، المصدر الرئيس لتلوث البيئة بهذه الملوثات العضوية الثابتة، شديدة السمية وعالية النشاط المسرطن، التي تمثل تهديداً جدياً مقلقاً حقاً للآمان الصحي للبنانيين.