كلنا نعلم أن التلوث البيئي وصل إلى مستويات قياسية في كل أوساط البيئة، في الهواء الداخلي والخارجي وفي الغلاف الجوي للأرض، في البحار والمحيطات مهددا الثروة السمكية وأحياء البحر، والسلسلة الغذائية لعموم البشر، في الأنهار والبحيرات والجداول والمجاري المائية السطحية، في الأحواض الجوفية وفي كثير من الينابيع والآبار الأرتوازية، في التربة والنباتات والمنتجات الزراعية، في أنسجة الحيوانات والمواشي والدواجن ومنتجات البيض والحليب، في المنتجات الصناعية واسعة الاستعمال، المحتوية على المعادن الثقيلة عالية السمية، وعلى مركبات كيميائية سامة وخطيرة، وفي المنتجات البلاستيكية التي اقتحمت كل مجالات حياتنا وقطاعات الإنتاج والإستهلاك للسلع والخدمات، وفي منتجات الاستعمال الشخصي والعناية البدنية ومستحضرات التنظيف والتجميل والزينة واسعة الاستعمال، التي تحتوي على مواد كيميائية ضارة وسامة، وكذلك في كثير من الأدوية والمستحضرات الصيدلانية.
كلنا نعلم أيضا أن هذا التلوث البيئي الواسع يسبب تراجعا كبيرا في الأمان الصحي لعموم البشر، ويزيد من تعرضهم للأمراض من كل الأنواع، ولا سيما منها الأمراض المزمنة، وصعبة ومستعصية العلاج. نلاحظ أيضا، أنه على الرغم من التقدم الهائل، الذي حققته البشرية في العلوم الطبية والعلاجية والجراحية، وفي فعالية الأدوية والمستحضرات الصيدلانية، أن نسبة التعرض للأمراض قد زادت في كثير من البلدان، ونسبة الوفيات أيضا، وخصوصا حالات الوفاة المبكرة، في كثير من المجتمعات الإنسانية، في مختلف البلدان والمناطق.
وكلنا نعرف، ومنذ زمن، أن بعض الملوثات الكيميائية تتمتع بسمية خاصة تستهدف الوظيفة التناسلية والإنجابية عند الرجال والنساء، وتعرض حياتهم الجنسية والإنجابية لكثير من التهديدات.
تزداد معارفنا باضطراد، ولا سيما في السنوات الأخيرة، عن التأثيرات الكبيرة لمجموعة المواد المُخِلَّة بالغدد الصمَّاء Endocrine Disrupting Chemicals EDCs، وهي مواد تخرب المنظومة الهرمونية في جسم الإنسان، وتثير اضطرابات وإخلالات متفاوتة الخطورة في منظومة الهرمونات الجنسية، مما يؤثر بشكل كبير على سلامة مورفولوجيا (الشكل والتكوين) وفيزيولوجيا (وظيفة) الجهاز الجنسي الإنجابي عند الرجال والنساء، ويضعف الوظيفة التناسلية بدرجات مختلفة، وصولا للتسبب بالعقم الكامل عند الرجال والنساء.
هذه المواد موجودة في عدد واسع ومتنوع من المنتجات، التي نتعرض لها خلال إنتاجها واستعمالها، أو خلال التخلص منها، أو هي تنبعث بصورة ملوثات في الهواء من منشآت معالجة النفايات بالطرق الحرارية (المحارق في كل أنواعها، وتحت كل تسمياتها)، وكذلك محمولة مع المواد والمنتجات البلاستيكية عالية الاستقرار في البيئة.
دراستان حديثتان، أوراق بحث علمية، على درجة عالية من الأهمية، نشرتا في أواخر الشهر الماضي، تموز (يوليو) 2017، تطرحان بكل جدية مخاطر تهديد التلوث لاستمرار الجنس البشري.
طرح هاذان البحثان إمكانية أن يؤدي التلوث البيئي، وخصوصا بالمواد المخلة بالغدد الصماء (المخلة بالمنظومة الهرمونية)، إلى القضاء كليا، وبشكل تدريجي، على الخصوبة عند الرجال.
الدراسة الأولى، نشرت في 20 تموز (يوليو) 2017، في مجلة Journal PLOS Genetics، قام بها الباحث تيغان هوران Tegan Horan، بمشاركة الأستاذة والباحثة المعروفة باتريسيا هانت Patricia Hunt وفريقها في جامعة الدولة في واشنطن Washington State University، بعنوان “تزايد التأثيرات على الجهاز التناسلي والوظيفة الإنجابية لذكور الجرذان عند تعرض أجيال متعاقبة منها للإستروجين”. قدَّمت هذه الدراسة تفسيرا ممكنا لما وجدته، بأن تَعرُّض ذكر الجرذان، في المراحل المبكرة من حياته، لنموذج بيئي للإستروجين، الإثينيل إيستريديول Ethinyl estrediol، يسبب تخريبات (أخطاء) في نمو الجهاز التناسلي عندها، ما يؤدي إلى تراجع كبير في عدد الحيوانات المنوية.
هذه الدراسة العلمية الهامة قدمت تفسيرا ميكانيكيا Mechanistic explanation للإنخفاض التدريجي لعدد الحيوانات المنوية عبر الأجيال.
الأمر الجديد، الذي انفردت به هذه الدراسة، هو أنها درست ماذا يحصل عند تَعرُّض أجيال ثلاثة متتالية من الذكور لهذه المواد، بدل الإكتفاء بالنظر لماذا يحصل عند الجيل الأول فقط.
أما الدراسة الثانية، نشرت يوم 25 تموز (يوليو) 2017 في مجلة Human Reproduction، قام بها الباحث هاغاي ليفين Hagai Levine وفريقه في جامعة Icahn School of Medicine in New York، بعنوان “ميول تغيُّر عدد الحيوانات المنوية مع الزمن: مراجعة منهجية وتحليل الانحدار التلوي” Temporal trends in sperm count: a systematic review and meta-regression analysis.
تضمَّنت هذه الدراسة التأكيد الأكثر قوة حتى الآن، بأن تركيز وعدد الحيوانات المنوية عند الإنسان في ميل نحو التراجع والإنخفاض مع مرور الزمن. يسجل إنخفاض أكثر من 50 بالمئة من العام 1973 حتى العام 2013، مع عدم وجود أي مؤشر لتباطؤ هذا الإنخفاض. هذا ما جعل الدراسة تخلص إلى القول “أن البشرية موجودة في حلقة موت حلزونية من عقم الرجال”.
التراجع والإنخفاض في تركيز الحيوانات المنوية وعددها الإجمالي، كان وفق الدراسة، على درجة عالية من الدلالة، ومهم للغاية Highly significant عند العينات من أميركا الشمالية وأوروبا وأستراليا ونيوزيلندا.
إن معطيات هاتان الدراستان وتحليلها يدلان على أن هذا الأمر يصبح أكثر سوءا مع تقدم الأجيال المعرَّضة للملوثات والمواد الكيميائية المخلة بالغدد الصماء وبالنظام الهرموني عند الإنسان.
إن التغيرات الهامة في عدد الحيوانات المنوية وتركيزها عند الإنسان، التي أظهرتها هاتان الدراستان، تشير إلى أننا فعلا على طريق الإنقراض.
و بينتا أيضا، أن العدد المتناقص للحيوانات المنوية مترافق مع معدلات عامة متزايدة للإصابة بالأمراض Morbidity، وبوتائر الوفيات Mortality.
قالتها الحكمة الشعبية، عند شعبنا، وعند كل شعوب العالم: “درهم وقاية خير من قنطار علاج”. وهنا تتأكد هذه الحكمة، حيث تظهر الحاجة لأن تكون هي بالذات استراتيجية المواجهة مع تأثيرات التلوث عموما، ومواجهة هذا الأمر بالتحديد، ما يتهدد الجنس البشري بأكبر المخاطر.