أصبح لبنان معنيا مباشرة بالتفكير على الأقل، في المرحلة الراهنة، بإشكاليات قطاع النفط والغاز بعلاقته بالبيئة، بأبعادها الكلية والإقليمية المناطقية والمحلية الموضعية.
أولى هذه المسائل، تتجلى في الإجابة على السؤال: هل نسير في إجراءات استخراج ثرواتنا الوطنية من النفط والغاز، التي دلت الدراسات على وجودها في أرضنا ومياهنا الإقتصادية مقابل شواطئنا في البحر الأبيض المتوسط؟ أم أن قطار استثمار هذه الثروة قد فاتنا بعدما استقر رأي كبريات الدول، وأقوى إقتصادات العالم على أن القرن الحالي هو نهاية عصر استخدام الوقود الأحفوري كمصدر للطاقة؟
هذه الأسئلة تبدو للوهلة الأولى عبثية، وغير واقعية، ولا تستحق التوقف عندها ومناقشتها. ولكننا نرى الحاجة الموضوعية لمحاولة وضع حدود دنيا وقصوى لفعاليتها، ومدى تأثيرها على استراتجياتنا الوطنية حيال ثروتنا من النفط والغاز، التي لا تزال على أعماق مئات وربما آلاف الأمتار تحت قاع البحر.
سلسلة من المواقف والقرارات الاستراتيجية الكبرى والمخاوف والمطالب حكمت الميل العام لتطور التفاعل بين مصادر الطاقة الأحفورية المسببة لانبعاثات، ساهمت تاريخيا وتساهم اليوم بتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ. ونحن شهود في السنوات الأخيرة على تطورات هامة، ونشوء ميول لإحداث تغييرات عميقة وجذرية على بنى الإقتصاد العالمي. ونشهد تناميا مضطردا لمقولات ورؤى على درجة عالية من الجدية والإتساع تتحدث عن “الإقتصاد الدائري” و”الإقتصاد الأخضر” و”الإقتصاد اللا كربوني”، وإلى ما هنالك من مصطلحات مستحدثة دخلت لغة التخطيط الاقتصادي الاستراتيجي للعديد من كبريات إقتصادات العالم في أوروبا (المانيا، فرنسا وبريطانيا)، وأميركا (الولايات المتحدة وكندا)، وكذلك في الإقتصادات الناشئة الكبرى في الصين والهند والبرازيل.
ونشهد واقعيا أيضا استثمارات وتوظيفات تقاس بألوف مليارات الدولارات عبر العالم في المصادر المتجددة للطاقة، وميلا واضحا في جديته لتخفيض انبعاثات غازات الدفيئة في أكبر دول واقتصادات العالم، وبالتالي تخفيضا ملحوظا في نسب الاعتماد على الوقود الحفوري، من فحم ونفط وغاز، كمصادر وحيدة لإنتاج الطاقة.
ونشهد أيضا، وبخطى متسارعة، وضع استراتيجيات طموحة جدا في تخفيض الانبعاثات المسببة لتغير المناخ، والتدرج في التخلي الواقعي عن استخدام المصادر الأحفورية للطاقة، مترافقة مع تدرج متسارع لاستخدام المصادر النظيفة والمتجددة للطاقة.
محطتان كبيرتان حدثتا في العام 2015، وسميتا بالحدثين التاريخيين. المحطة الأولى تمثلت باتفاق الدول الصناعية الكبرى، في إطار اجتماع “مجموعة السبعة” G7 في حزيران (يونيو) 2015، على القطع الكامل والنهائي لانبعاثات غازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري وتغير المناخ، عبر التخلص النهائي من استعمال الوقود الأحفوري مع نهاية هذا القرن، أي فيما تبقى من سنوات حتى العام 2100. والعمل على “نزع الكربون” Decarbonize من الاقتصاد العالمي الكلي خلال سنوات هذا القرن.
والمحطة الثانية تمثلت بالتوقيع على اتفاقية باريس لتغير المناخ في كانون الأول (ديسمبر) 2015، والتصديق عليها ودخولها حيز التنفيذ بسرعة قياسية لم تشهدها الاتفاقيات الدولية من قبل. في هذه الاتفاقية جرى التوافق على وضع خطط واستراتيجيات تنفيذية مرحلية وطنية لتحقيق الهدف الاستراتيجي الكبير بتخفيض الانبعاثات بحيث لا يتجاوز احترار الأرض الدرجتين مئويتين، والتحكم الكامل بالتغير المناخي وتفادي مخاطره الكبرى واحتوائه عبر سياسات عالمية طويلة المدى للتخفيف والتكيف، أي تخفيف انبعاثات غازات الدفيئة المسببة للتغير المناخي، والتكيف مع آثار هذه الظاهرة، التي بتنا نشهدها كأمر واقع في العديد من مناطق العالم، وعلى مدار فصول السنة.
في مرحلة ما بعد “اتفاقية باريس”، لاحظنا أيضا، جدية استثنائية، لم نشهدها من قبل مع بروتوكول كيوتو وغيره من الاتفاقات في السنوات السابقة، بوضع الدول أهدافا طموحة جدا لتخفيض انبعاثاتها، وتخفيف نسب اعتمادها على الوقود الأحفوري في توليد حاجاتها من الطاقة، واستثمار أموالا طائلة في برامج تطوير وإنتاج الطاقة من مصادر نظيفة وتجددة، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الحرارية الجيولوجية وطاقة أمواج البحر والمحيط والطاقة الكهرومائية. والبعض ذهب لاستخدام مصطلحات مغايرة لتدل على التخلي عن استخدام الوقود الأحفوري الكربوني، ولكن دون حصر المصادر الجديدة للطاقة بالمصادر النظيفة والمتجددة التي أشرنا إليها. فلجأ هذا البعض لاستخدام مصطلح “مصادر لا ترتكز على الكربون”، لكي يشمل الطاقة النووية. وهناك البعض يزج زجا بالطاقة المتولدة عن حرق النفايات في هذا الأمر، وهو ما لا يتوافق مع مضمون الطاقة النظيفة والمتجددة. فهذه الطاقة، وإن تولدت بكميات محدودة، فهي ليست نظيفة، أي مترافقة بتلوث كبير ذي أثر سلبي هام على البيئة والصحة العامة. وهي ليست متجددة، بمعنى أنها لا تتسم بالديمومة، إذ أن الميل العالمي الحديث والمعاصر للإدارة البيئية السليمة للنفايات يبدأ بمقولة التخفيف من تولد النفايات، وصولا إلى تصفيرها.
وتتالت الوعود والإلتزامات بعد هاذين الحدثين، حتى وصل معدل تخفيض الانبعاثات العالمية لغازات الدفيئة إلى ما يتراوح بين 40 و70 بالمئة مع حلول العام 2050 بالمقارنة مع العام 2010 كأساس للمقارنة. ويمكن القول بموضوعية ان ذلك الإعلان التاريخي والاتفاقية التاريخية شكلا عن حق إعلانا بـ “نهاية عصر الوقود الأحفوري”.
لم يشكل قرار الرئيس الأميركي ترامب بانسحاب الولايات المتحدة الأميركية من اتفاقية باريس بشأن التغير المناخي، إسقاطا لها، بل أثار موجة من الاحتجاجات والاستنكار شملت قطاعات واسعة من الشعب الأميركي نفسه، ومن القطاعات الاقتصادية والشركات الكبرى وأصحاب الاستثمارات الضخمة في المصادر المتجددة للطاقة، وكذلك طبعا في كل بلدان العالم من أوروبا، بما فيها الحليف التاريخي للولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، التي أعلنت مع كل دول الاتحاد الأوروبي، الاستمرار في الزاماتها باتفاقية باريس. وكانت ألمانيا أكثر الدول صلابة في رفض قرار الرئيس ترامب، وفي الإصرار على التمسك باتفاقية باريس والعمل على تحقيق التزاماتها في مواعيد أقصر من التعهدات السابقة. وهذا طبعا ما أكده الرئيس الفرنسي الجديد أيضا، في شهر حزيران (يونيو) 2017، حين قال أن “فرنسا لن تعطي إجازات جديدة للحفر والتنقيب عن النفط والغاز والمواد الهيدروكربونية بشكل عام”.
توالت الإعلانات عن استراتيجيات الدول الصناعية الكبرى تباعا، فالإتحاد الأوروبي أعلن التزامه بتخفيض انبعاثات الكربون بنسبة 40 بالمئة في المهلة الفاصلة حتى العام 2030 مقارنة مع مستويات العام 1990. وتوليد 27 بالمئة من حاجاته للطاقة من مصادر متجددة. وهذا ما تبنته أيضا بريطانيا، على الرغم من توجهات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. أما ألمانيا، وهي في طليعة بلدان العالم في العمل الجاد على تخفيض الانبعاثات وتطوير الطاقة النظيفة والمتجددة، فأعلنت عن هدفها في تخفيض انبعاثاتها إلى 80 – 95 بالمئة دون مستويات الانبعاثات في العام 1990، وذلك حتى العام 2050، وزيادة إنتاجها من الطاقة النظيفة والمتجددة بنسبة 80 بالمئة حتى العام 2050.
والصين أيضا، التي كانت متهمة حتى الأمس القريب، بإدارة الظهر لدعوات تخفيض الانبعاثات والعمل على الحد منها، وتخفيف مصادر التلوث بشكل عام، قد عبرت في السنوات الأخيرة عن تطور كبير في سياساتها الطاقوية، وأعلنت بكل جدية عن أهداف طموحة في هذا السياق. ففي خطتها الخمسية للفترة ما بين العام 2016 و2020، تعهدت بأن تصل الطاقة النظيفة والمتجددة غير المعتمدة على الوقود الأحفوري إلى 15 بالمئة من مجمل حاجتها للطاقة، وذلك بتطوير حقول طاقة الرياح والطاقة الشمسية.
وكذلك الهند، وهي من البلدان الناشئة وذات اقتصاد متسارع النمو والحاجة للطاقة، فأعلنت أنها اليوم تتمتع بقدرة إنتاج 32 بالمئة من طاقتها من مصادر غير مرتكزة على الوقود الأحفوري، وأنها ستزيد هذه النسبة إلى 57 بالمئة مع حلول العام 2027. وهي بذلك ستحقق نسبة أعلى من تلك التي حددتها الإلتزامات العالمية المتمثلة بـ 40 بالمئة بحلول العام 2030.
بالإضافة إلى كل الجهود العالمية والإلتزامات المعلنة والمدرجة في خطط واستراتيجيات الدول بتخفيض نسب الانبعاثات وزيادة نسب الطاقة النظيفة والمتجددة، نشهد جهدا علميا كبيرا لتطوير طرق وتقنيات احتجاز الكربون وتخزينه Carbone capture and storage CCS، وكذلك العمل على إدارة انبعاثات غاز الميثان، وهو واحد من غازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري وتغير المناخ بقدرة تقاس بأكثر من عشرين ضعف قدرة ثاني أوكسيد الكربون. وهذا بالطبع سيساعد على تحقيق أهداف تخفيف انبعاثات الكربون، حتى وإن كانت مصادر الوقود الأحفوري، ولا سيما الغاز الطبيعي، لا تزال باقية جزءا من منظومة إنتاج الطاقة. وبهذ الطريقة، يمكن اعتبار الوقود الأحفوري “جزءا من الحل” أكثر من اعتباره “جزءا من المشكلة” البيئية الكلية المتمثلة بتغير المناخ. إن الوقود الأحفوري يشكل حاليا 80 بالمئة من منظومة الطاقة الأولية العالمية، أي ما يساوي حوالي ثلثي الانبعاثات العالمية لثاني أوكسيد الكربون. وهنا من المفيد التذكير أن صناعة إنتاج الغاز الطبيعي وحدها تترافق بانبعاث حوالي 8 بالمئة من الغاز الضائع في الجو.
هذا هو الميل العالمي، وهو مرشح للتسارع في التراجع عن الاعتماد على الوقود الأحفوري، من فحم ونفط وغاز، وتسارع في زيادة الاعتماد على المصادر النظيفة والمتجددة. هذه الحقيقة الراهنة، تشكل أرضية لبعض الاستراتيجيات القائلة بضرورة وقف الاستثمار في الحفر والتنقيب في حقول جديدة لاستخراج النفط والغاز في كل أنحاء العالم. هذا هو الرئيس الفرنسي ماكرون قد عبر عن نية فرنسا بعدم إعطاء إجازات جديدة في هذا المضمار. وهذه أيضا منظمة السلام الأخضر العالمية Green Peace International تتبنى موقفا واضحا في هذا الأمر، تعبر عنه بشعار: “النفط والغاز، إتركوها تحت الأرض”، مؤكدة في تقاريرها ومواقفها العالمية على أن البشرية ترى أن النفط والغاز، هذان الملوثان الكبيران، ليس لهما أي مستقبل في نظام طاقوي نظيف وآمن وسليم يرتكز على 100 بالمئة طاقة نظيفة ومتجددة، الذي يجب أن نحققه.
وعلى المستوى الوطني اللبناني، نرى بعض المقولات والمواقف والقراءات الجادة، التي تسوق عددا من المحاذير والتحديات، البيئية والاقتصادية، وتلك المتعلقة بالأمان البيئي والصحي، وبالقدرة على التعامل مع التحديات والكوارث المحتملة، في بلد لا يزال يتخبط في إيجاد حلول مستدامة وآمنة في قطاعات أقل من قطاع النفط والغاز تعقيدا وخطورة على البيئة والصحة، مثل ملف معالجة مختلف أنواع النفايات، وحماية البحر والأنهار من التلوث، وحماية هواء المدن والمناطق السكنية عموما من التلوث. فكيف ستكون حالتنا مع هذا المستوى من غياب الرؤية والاستراتيجية والسياسة السليمة، والاستهتار بالقوانين والمراسيم والأنظمة والآليات، التي تهدف إذا ما طبقت، إلى حماية البيئة والصحة العامة، وإلى تفادي لائحة طويلة من التهديدات والمخاطر الواقعية التي يعاني منها لبنان اليوم.
شكلت مقالات وتقارير المفكر والصحافي البيئي اللبناني حبيب معلوف، ونحن نوافقه على قراءته واستنتاجاته ونتفق معه في مخاوفه، تعبيرا جادا عن هذه المخاوف والهواجس الواقعية، التي يسوقها بكل موضوعية، وبالارتكاز على تقييم واقعي لوقائع السياسات اللبنانية الممارسة فعلا، وما تعانيه بيئة لبنان وصحة شعبه من تهديدات ومخاطر، وافتئات للأمان البيئي والصحي في مختلف المناطق.
أخذا لكل هذه الحقائق بعين الاعتبار، نحن نرى أن السير قدما في التحضير لأعمال الحفر والتنقيب واستخراج ثروتنا الوطنية النفطية والغازية، يتطلب الانتقال بالدولة إلى مرحلة جديدة تتيح لها التعامل مع التهديدات والمخاطر التي ترافق هذا المسار، على المستويات كافة، التشريعية، والتنظيمية، والبيئية والصحية، وعلى مستوى الشفافية المطلوبة في الممارسات كافة ذات العلاقة بإدارة وتنظيم هذا القطاع، وبكل المعلومات ذات العلاقة بمداخيل الدولة من هذه الاستثمارات، وحقوق الدولة من الشركات، وحق الشعب اللبناني والمجتمع المدني غير الحكومي بالاطلاع بشفافية كاملة، ومراقبة حقوق الدولة وآليات الحصول عليها.
إن السير قدما في مسار استخراج ثروتنا النفطية والغازية، يتطلب تغييرا جوهريا في طريق إدارة الدولة والحكومات لشؤون البلاد كافة، ومكافحة حقيقية للفساد المتفشي في كل مستويات الإدارة والمؤسسات والسلطة السياسية في لبنان. وتتطلب مشاركة واسعة في تحديد اتجاهات استعمال الموارد المالية النفطية والغازية، وفعالية استخدامها خدمة لمصالح الشعب اللبناني في أجياله القادمة.
على الرغم من الميل العالمي العام لتخفيض الاعتماد على الوقود الأحفوري كمصدر للطاقة، نحن نرى أن لبنان، يتمتع بهامش زمني كاف للاستفادة من ثروته النفطية والغازية خدمة للتنمية المستدامة في كل مجالات الاقتصاد الوطني وكل الخدمات، التي تمس حياة اللبنانيين وأمانهم البيئي والصحي والاجتماعي والاقتصادي، مما يساهم حقا في رفاه عيشهم والحد من معاناتهم، التي ترافقهم منذ عقود طويلة من السنين. نعتقد أن لبنان يتمتع بهامش زمني، يتيح له الاستفادة الكاملة من ثروته، ورفع الإنتاج بوتائر تأخذ بعين الاعتبار تخفيضات دول العالم لاعتمادها على الوقود الأحفوري حتى العام 2050، وبعدها بإمكانه مرافقة نسب التخفيض العالمية حتى آخر القرن 2100، حيث يمكن الاستفادة من عوائد هذه الثروة لتطوير قطاع طاقة نظيفة ومتجددة، يؤمن حاجات شعبنا للطاقة في المستقبل، بما يضمن تقدمه ورفاه حياته.
تدل الدراسات على أن ثروة لبنان الرئيسية هي من حقول الغاز الطبيعي، وليس من النفط، وهذا يعني، أن الهامش الزمني لاستخدام هذه الثروة أكثر أهمية لناحية المدة ولناحية الفعالية، حيث أننا نتوقع مع تطبيق سياسات تخفيض الاعتماد على المشتقات النفطية لتوليد الطاقة، سيزيد الطلب على الغاز الطبيعي ليحل محلها، في المدى القريب والمتوسط، في مرحلة انتقالية تفصل البشرية عن عصر التخلي الكامل عن الوقود الأحفوري، باعتبار الغاز وقودا أحفوريا أقل تلويثا للبيئة. وما تشهده منطقتنا العربية من حروب وأزمات دامية، إلا دليلا على ارتباطها بما ينتظر الغاز الطبيعي من سوق واسعة، وطلب متزايد عليه في العقود القادمة.