طغت مقولات على الواقع الاقتصادي اللبناني خلال العقدين الماضيين، حتى صارت مسلمات بديهية تبنّاها أشدّ المعترضين على المقاربة الاقتصادية المعتمدة، والتي أوصلت البلد الى مستنقع الديون والهاوية، لا بل صارت أساس ومنطلق إجباري للتصحيح، علماً أنها مخالفة لأبسط القوانين الاقتصادية الرأسمالية، وقد لفظتها أزمة عام ٢٠٠٨، وأرجعت بعض العقلانية للاقتصاد.
١) مقولة أن لا إنفاق دون إيراد، وهي نقيض فكرة الموازنة العامة، ومنع إيجاد مزاريب للصرف، والتهرّب من الضوابط، وخلق دويلات مالية خارج الدولة.
٢) الدين ليس مهماً، بل المهم التعامل مع فوائده والإلتزام بالإستحقاقات، وهو ما برّر وفسّر طريقة استخدامه، أي الإستدانة للإستهلاك، أو لتمويل الطبقة السياسية، بحجة تثبيت النقد، أي عدم توظيفه لتحويله الى قيمة مضافة وثروة، وبالتالي خلقه للعمل والمال، وهو ما سقط أيضاً في الأزمة العالمية إياها، وجرى لفظه من المؤسسات الدولية التي طالما بشرت به قبل العام ٢٠٠٨.
٣) أهمية “المستثمرون” والأرباح على الانسان نفسه، مما سمح بتجميد الرواتب لعقد ونصف من الزمن، فيما الثروات كانت تتكدّس بشكل مجنون وغير متناسب مع نمو الاقتصاد، وعلى حساب الدولة والمالية العامة والأجير، أي الإنسان كهدفٍ أخير.
ما يجري الْيَوْمَ في بعبدا من دعوة منطلقها إيجابي وهادف، تقع في تطبيقها ومقاربتها في نفس أسباب المشكلة، وعقم إيجاد حل لها، أي سلوك المسار عينه الذي أوصل البلاد الى ما وصلت اليه.
فمن قال أصلاً، وعلى سبيل المثال، إن المطلوب إيجاد تمويل لسلسلة الرتب والرواتب حصراً، أي أن كلفة التمويل المطلوب هو المبلغ المقدّر للحاجات المالية للدولة، الذي يشمل الرواتب وتصحيحها، وخدمة الدين، والاستثمارات المطلوبة، والعجز اذا وجد. أما العكس، أي التجزئة والتفرقة، فعندها يكون الباب قد فتح امام كلّ أنواع الموازنات ومزاريب التمويل كما الهدر.
وإذا كانت المشكلة بنظام التقاعد الضاغط الْيَوْمَ وغداً، على سبيل المثال أيضاً، فالحل لا يكون رقمياً أو ضمن الموازنة، بل الحل هو حل اقتصادي أولاً وأخيراً، كما هو حل يرتبط بخلق نظام إداري جديد، ونظام ضمان شيخوخة وبطاقة صحية، وغيرها من الحلول المعتمدة، وآخر نقطة للبحث هي الأرقام المجردة، التي لا يرتبط الوصول لها بسنوات، بل بقرار قد لا يستغرق تنفيذه العام الواحد، أي قبل الوصول الى السنة الثالثة المخيفة لدى البعض.
حين يصل الامر الى اعادة فتح نقاش حول الأرقام والتمويل والإمكانية، يصبح النقاش الأجدى والأفعل هو اتخاذ قرارات توقف الصرف غير المبرر الذي يستنفذ الخزينة، كذلك وقف الصفقات والتلزيمات التي حصلت خلافاً للقانون والأنظمة والتي توفر ملياراً ونصف المليار من الدولارات، هي أكبر من كلفة السلسلة أو العجز الذي يتخوف منه البعض.
القضية ليست قضية سلسلة، على أهمية ارتباط ثلث الشعب اللبناني بها، بل هي قضية خطوة أولى لإعادة بناء الدولة وتصحيح المسار الاقتصادي والمالي المدمّر، وإعطاء أمل للبنانيين أن عهد الإصلاح قد بدأ، وأن هناك إمكانية فعلية لإصلاح البلد، وأن الفساد فيه او الخيارات الخاطئة ليست قدراً، وأن للوقت قيمة كبرى، وأن كل يوم يمر دون إصلاح جدي هو تراكم لصعوبات واعوجاجات يصعب إصلاحها فيما بعد.
التهويل قائم منذ ١٩٩٣، وتحت هذه الحجة مرت كل التشريعات والخيارات الاقتصادية والمالية، وكل الإعفاءات، من سوليدير الى غيرها. ولتاريخه لم يجرب خيار آخر، اي الانتاج والاقتصاد الفعلي.
اما الحديث عن عدم إمكانية ضبط الدولة لمواردها، او تحكمها بالقوانين الناظمة لأسعار السلع والخدمات، من البضائع حتى اقساط المدارس، فهو مضحك -مبكٍ، بقدر الكلام عن ضبابية تقديرات دقة الأرقام، أو انعكاسها على الاقتصاد والمالية العامة.
الخروج من الأزمة الراهنة، كما بدء حل أزمة الاقتصاد، هو في مقاربة مختلفة، كلية، يسبقها إجراءات بديهية وقانونية وتصحيحية، موضعية وقطاعية. أما مقاربة انعكاس الأزمة العامة في كل جزء وتفصيل وبند، يجعل الأمر أشبه بالإعجاز والتيئيس.
شكل الحوار ومكوناته ومضمونه المباشر، رغم صدق النوايا، لا يمكن ان يصل الى حلول، أو أن يلامس جوهر الموضوع، بل سيكون في أحسن حالاته تقدم تحت السقف المرسوم والخيارات الموروثة، وإن كانت مقدماته والقوى الضاغطة وميزان الواقع لا تشي حتى بذلك.
منطلقات الرئيس ميشال عون وأهدافه ونواياه الإصلاحية ليست موضع تساؤل أو تشكيك، ولكن إدارة الأزمة منذ البداية، وبعض المقاربات ممّن يحسبون عليه، تجعل النقزة مبررة، سواء لناحية القدرة والتحكم، أم لناحية المصلحة والاستسهال.