لا يقتصر التلوث على ثالوث البيئة المقدس (الهواء، المياه والتربة) فحسب، وإنما يطاول التلوث المتواري أيضا، ذاك الذي يؤرق حياتنا، كالتلوث البصري أو السمعي، ولذلك على الإنسان أن يواجه كل أشكال التلوث، لينعم بما يبقي صحته بعيدة من الأمراض العضوية، وبما يبقي حالته النفسية متوازنة، لا يكدرها ما لا طاقة له على احتماله.
محمد أبرش ابن منطقة التبانة في مدينة طرابلس، كرس إبداعه لفن الـ “غرافيتي” Graffiti، ليواجه التلوث البصري ويحلق بنا في فضاء اللون والضوء والظل، وفي مساحات نابضة بالحياة، سحرا وجمالا و”إيقاعا لونيا” فيه الكثير من متعة بصرية، خصوصا في بعض أحياء مدينته طرابلس الملقاة على ضفاف الحرمان والإهمال.
مزاوجة رائعة بين الفن والعلم
يمسح محمد أبرش بريشته الكثير من مشاهد نافرة، وقد بات “الغرافيتي” ميدانه الرحب، أتقنه دون دراسة وأبدع، حتى أن الناظر إلى لوحاته المشهدية يظن للوهلة الأولى أن فنانا عالميا ذائع الصيت نفذ هذه الأعمال، ولا يخطر ببال أحد أن اليد التي رسمت اكتسبت المهارة والحرفنة بالتجربة، لا سيما في لوحات لا يمكن لمن لم يتقن فن الرسم تنفيذها، خصوصا لوحات غاصت في أبعاد هندسية، لا يتقنها إلا من درس وأتقن الـ perspective علم الأبعاد أو فن المنظور، في مزاوجة رائعة بين الفن والعلم.
وتتميز لوحاته بروح شرقية عندما يأخذنا إلى فن الـ “أرابسك” Arabesque (المنمنمات)، حتى لنظن أننا نستعيد ألق هذا الفن العربي وكأننا في ميادين الأندلس القابعة في حنايا الذاكرة أو في أحياء الشام والعراق العتيقة.
العودة إلى الجامعة
وللوقوف على تجربته كان لـ greenarea.info حديث مع الفنان الغرافيتي محمد أبرش، وفتح لنا قلبه، وتحدث بشغف عاشق لمدينته، وكأنه يصبو لتصبح مدينة الجمال، لينتشل بيدين خبيرتين وريشةٍ مطواع أحياء وساحات ومدارس من الإهمال والنسيان، ويعيدها إلى جغرافيا الدولة بسحر لوحاته، وقد نأت عنها، ليجعل منها معالم قد تؤسس يوما لسياحة ثقافية في لبنان والمنطقة.
وقال أبرش بدايةً: “أزخرف مدارس مدينتي وجدران شوارعها بالرسوم التي تعطيها جمالا وإشراقا”، وأشار إلى أن “هذه الموهبة من فضل ربي وحمده، أرسم الغرافيتي منذ أن كنت في التاسعة من عمري، وكنت من أوائل الذين بدأوا بهذا الفن في لبنان عام 2000”.
وأضاف: “بدأت أطور رسوماتي لتكون أجمل، ولأمحو الإهمال الذي تعاني منه المدينة، وكنت قد تركت دراستي والآن عدت إلى الجامعة، ساعدني في الإستمرار القبول العام لأعمالي، وجعلني أنتقل من مدرسة إلى مدرسة، إستعملت كلمات عربية مثل (أكتب، تعلم، أدرس، أرسم)، والهدف كان نشر الوعي بين الطلاب بصورة لافتة للانتباه وجميلة، وهذه الطريقة جعلت الطلاب أكثر قبولا لشكل مدارسهم المهملة والفقيرة، وجعلهم يلتفتون إلى أهمية هذه المبادرة والمحافظة عليها وعدم تلويث اللوحات لاحقا”.
وقال أبرش: “بعد أن أصبح لدي رصيد من اللوحات، حصلت على بعض الدعم من بعض الاشخاص من غير السياسين، وعن استعمال الحرف العربي”.
التلوث البصري يفتك بنا
وتابع: “في كافة بلدان العالم يرسمون الغرافيتي ويستعملون الخط اللاتيني، ولكنني أحب لغتي العربية، ويشدني سحر وجمال حروفها، وهو جزء من ثقافتنا وحضارتنا وانتمائنا، ولذلك آثرت استعماله لنبدع بلغتنا الجميلة ونبتكر ونعدل ونصنع ما هو خاص بنا، بعيدا عن التقليد، حتى أن هذه اللوحات أصبحت محط اعجاب الأجانب وتستوقفهم غالبا”.
وعن مدة اتمام جدارية، أشار أبرش إلى أن “كل جدار حسب حجمة، وقد يستغرق العمل من أربعة أيام إلى أسبوع”، أما عن الدعم والتمويل فقال: “يؤسفني أنني لا أجد دعما لأعمالي، بعض الشباب والشابات يرافقونني ليتعلموا بعد ما تواصلوا معي ورأوا أعمالي”.
وعن إختيار اللوحات، قال: “أرسم شخصيات طريفة قريبة لقلوب الناس أحيانا، شخصيات يحبها الأطفال، أدخل رسائل بالكلمات والأحرف التي أخطها، وأستوحي من كل ما نتأثر به ويحيط بنا، اشعر بالسعادة عندما أرسم، وبأنني أفيد وأجمِّل مدينتي، بدأت بمدارس طرابلس، رسمت على جدران 40 مدرسة، وأحلم بأن أرسم على جدران مدارس لبنان كافة، وطلب مني أن أساعد برسم على إحدي الأبنية في “أوزفيل” الأوزاعي جنوب بيروت، وكنت سعيد جدا بإنجاها، أستطيع أن أحول شوارع لبنان إلى جنة، ولكن ما احتاجه هو الدعم، عملي بسيط هو الرسم على السيارات والدراجات النارية، وما أوفره من عملي أرسم به لاحقا، لذلك أتمنى من الجميع أن يقوموا بمبادرات بقدر إمكانياتهم لنحسن صورة مدننا، وأحلم بإتمام ما بدأته، ونحن في هذا المجال، بحاجة للفتة رسمية من البلديات والمعنيين”.
وختم قوله: “الفن يجمِّلنا يبعدنا عن بشاعة الحروب والإختلافات، يوحدنا في زمن الإنقسامات، وهو غير منفصل عن البيئة، فالتلوث ليس نفايات وفوضى وانبعاثات سامة فحسب، التلوث البصري يفتك بنا، وما أردته تجميل ما شُوِّه من جدران برسومات جميلة للحد من هذا التلوث، وبرأيي من يقدر الفن ويدعمه يحترم البيئة”.