من المتوقع، وفقا لسيناريوهات أعدها خبراء ومراكز أبحاث دولية، أن يواجه العالم أزمة غذاء بدءاً من منتصف القرن الجاري، وثمة أسباب عدة، لعل أبرزها زيادة عدد سكان الأرض بنحو تسعة ملايين نسمة، واستنزاف الموارد الطبيعية ولا سيما منها البحار والمحيطات، دون أن ننسى تأثير الاحتباس الحراري على كافة أشكال الحياة، والتي باتت من الآن تمثل تهديدا حقيقيا على مستوى الدول لجهة تحقيق أمنها الغذائي.
وتعتبر جمهورية مصر العربية في قلب هذه التحديات، خصوصا وأن بعض الخبراء توقعوا أن يزداد عدد السكان في “دول حوض النيل” Nile Basin countries بحلول عام 2050، مرجحين أن يتخطى المليار نسمة، وتؤكد دراسات جديدة أن هذه الزيادة تعني تنامي الطلب على مصادر المياه والغذاء، خصوصا وأن العالم يشهد العديد من الأزمات الحادة كالإحتباس الحراري والتصحر واالحروب المقبلة على الموارد الطبيعية والمياه، وكذلك أزمات الغذاء الحادة ومشكلات التلوث بأنواعها، وتعرض الحياة البرية والبحرية بكافة اشكالها لخطر الانقراض ـو التحول البيولوجي للكائنات الدقيقة والذي ينعكس مباشرة على صحة وسلامة كوكب الارض، وبالتالي الإنسان بصفته وبدوره كأحد عناصر النظام البيولوجي لكوكب الارض.
مشاريع المزارع السمكية
إزاء هذه التحديات، انتشرت في مصر خلال الأعوام الماضية مشاريع المزارع السمكية، بغرض تعويض النقص الحاد في الموارد الغذائية، ومع حاجة المواطن المصري الملحة للبروتين الحيواني، وفي ظل فقر البحار والمصايد الطبيعية، كان لا بد من اللجوء للاستزراع السمكي لرفع الإنتاج وسد تلك الفجوة الغذائية.
وتحققت طفرة كبيرة في مجال الاستزراع السمكي، فعلى صعيد الأرقام والحسابات تجاوز إنتاج المزارع السمكية 50 بالمئة من إجمالي إنتاج الأسماك، إلا أن أكثر من 90 بالمئة من هذه المزارع تعتمد على مياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي المحملة بالأمراض والمبيدات الحشرية والأسمدة والمخصبات عالية السمية والرصاص والمعادن الثقيلة، والتي تستقر جميعها في أجسام الأسماك، وأصبحت بمثابة “قنابل بيولوجية” موجهة إلى الشعب المصري وبيئته، وذلك بحكم القانون الذي يحظر إقامة المزارع السمكية على مياه الري الطبيعية، ويقر إقامتها على مياه الصرف دون النظر إلى معالجة هذه المياه، ومدى سلامة إنتاجها وخلوها من الأمراض التي قد تدمر صحة المواطنين، وتدمر البيئة المحيطة بها ايضا، من مساحات خضراء وزراعات وطيور وحيوانات اقليمية تميز الطبيعة المصرية منذ القدم.
الدورة الغذائية
وفي هذا السياق، أشار الخبير المصري والاستشاري في شؤون البيئة والمنشآت المائية الدكتور سامح فاروق مقلد لـ greenarea.info إلى هذه المشكلة ونتائجها البيئية والصحية، فأشار بدايةً، إلى أنه “على على مدى نحو ثلاثين عاما من الفساد السياسي في مصر والذي كان له بالغ الأثر السلبي على القطاع الزراعي والحياة النباتية والذي تمثل في تجريف مساحات هائلة من الاراضي الزراعية بغرض تحويلها لتجمعات سكنية، كذلك استخدام المبيدات الزراعية والحشرية المحظورة دوليا، واستخدام انواع من الاسمدة المسرطنة والمعدلة وراثيا، ومع قلة الموارد المائية واستخدام مياه الصرف الصحي بغرض الري، أدى ذلك في نهاية الامر إلى القضاء على العديد من المحاصيل والاصناف النباتية والزراعية، وكذلك القضاء على العديد من السلالات النباتية الاقليمية النادرة والكثير من مظاهر الحياة النباتية في مصر، وظهور اجيال من الكائنات الدقيقة نتيجة اختلاف تركيب الوسط البيئي”، لافتاً إلى أن “ذلك انعكس سلبا على الثروة الحيوانية وعلى صحة الانسان وموارده الغذائية، وأدي لخلل في الدورة الغذائية والبيولوجية، تمثل في أزمة الغذاء الحادة التي تعاني منها مصر منذ اعوام وإلى اليوم”.
وقال مقلد: “بينما تتجاهل الحكومة النظر إلى ترخيص إقامة المزارع السمكية على مياه الري الطبيعية بحجة ترشيد استهلاك المياه، تقوم الحكومة بإجراء تعديلات وزارية من أجل توصيل المياه إلى منتجعات رجال السلطة والمال لإقامة البحيرات الصناعية، ولري ملاعب الغولف التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، والتي بسببها أيضا تم القضاء على مساحات هائلة من المحميات الزراعية والبرية الطبيعية لإنشاء مثل تلك المنتجعات”.
وعرض لعدد المزارع السمكية السامة في محافظات مصر، متوقفا عند أهم المشاكل التي تواجهها.
محافظة كفرالشيخ
وقال مقلد: “المشكلة الأساسية التي تعاني منها كفرالشيخ هي مشكلة المياه المستخدمة في ري المزارع السمكية، حيث إنها جميعها مياه صرف صحي وزراعي وصناعي من مصارف عدة، وأكثرها خطورة مصرف الزهيري – مصرف كوتشينرلة الكبرى (صرف صناعي)، فضلا عن مصرفي 7 و 8 (صرف صناعي وزراعي مشترك) تنتشر على جانبيهما المزارع السمكية بكثرة”.
وأضاف: “تعتبر هذه المياه بما تحمله من الأمونيا ومركبات الفوسفور والمبيدات الحشرية السبب في نفوق كميات كبيرة من الأسماك في المزارع، وقد أدى ذلك إلى خسارة كبيرة لأصحاب المزارع السمكية، وترتب علىه انخفاض إنتاج كف الشيخ من الأسماك من 60 إلى 50 بالمئة من هذا الإنتاج، كما أن هناك فاقدا كبيرا في الأسماك بسبب هذه المياه الملوثة، وخصوصا في موسم زراعة الأرز، حيث تزداد نسبة تركيز المبيدات الحشرية في المياه، بسبب استخدام الفلاحين للمبيدات بكثرة للقضاء على حشائش الأرز، حيث لا توجد بكفرالشيخ مياه ري نيلية غير هذه المياه، والتي تستخدم في ري الأراضي الزراعية أيضا”.
منطقة العباسة – محافظة الشرقية
وتوقف الدكتور مقلد عند “مصرف بحر البقر”، ورأى أنه “من أخطر المصارف تلوثا في مصر، وتقام عليه آلاف المزارع السمكية التي تصدر آلاف الأطنان من أسماكها يوميا إلى الأسواق، وتعد منطقة العباسة نموذجا لتلك الكارثة، حيث يعتمد أصحاب المزارع هناك على السبلة (مخلفات الاخراج العضوي للحيوانات والطيور) في تغذية الأسماك، والمصدر الرئيسي للمياة هو مياه الصرف الصحي من مصرف بلبيس مختلطة بمياه الصرف الزراعي وصرف المزارع السمكية الاخري، وهو ما يسبب نفوق كميات كبيرة من الأسماك بسبب المياه الملوثة، وكذلك تلوث المساحات الخضراء والتي تعتمد ايضا على تلك المياة في عملية الري” .
وقال: “مع ارتفاع اسعار الاعلاف والمغذيات السمكية، يلجا أصحاب المزارع إلى استخدام المخلفات في تغذية الأسماك مثل (اللانشون) الفاسد من مخلفات المصانع، وكذلك الطماطم والخضروات الفاسدة، الأمر الذي يؤثر على الأسماك، وبناء على هذا القدر من الثلوث يقوم الكثير من أصحاب المزارع السمكية باستخدام المضادات الحيوية في مزارعهم، وهو أمر خطير جدا، حيث تتركز في أجسام الأسماك، وتنتقل إلى الإنسان بعد ذلك، مما يؤدي إلى حدوث مناعة ضد المضادات الحيوية في جسم الإنسان، وبالتالي لا يستجيب للعلاج وفي النهاية تقضي على صحة الإنسان”.
محافظة الاسماعلية – القنطرة غرب
وأشار مقلد إلى أن “تقريرا رسميا صادرا عن الوحدة المحلية لمركز ومدينة القنطرة غرب التابعة لمحافظة الإسماعيلية كشف أن أكثر من 1000 فدان من مزارع الأسماك التابعة لهيئة الثروة السمكية، تتغذى أسماكها على مياه الصرف الصحى ومياه الصرف الزراعي، من خلال مصرف محطة تكرير المياه والذي يصب موادا كيمأوية في المزارع، بالإضافة لمصرف نوارة للصرف الزراعي بخلاف رشح مياه قناة السويس، وهو ما يعرض حياة 500 ألف نسمة للخطر”.
وقتا أن “كل ذلك أدى إلى انتشار العديد من الامراض القاتلة والكثير من أمراض السرطانات لدي الانسان، وكذلك انهيار مساحات كبيرة من الحاصلات الزراعية وخصوصا الفواكه، نتيجة لتلوث التربة الزراعية هناك، وانعكس ذلك بالسلب على الثروة الحيوانية ايضا”.
محافظة الجيزة – كارئة ترعة المريوطية
وأضاف: “تجسدت إحدى الكوارث البيئية بشكل مخيف عندما فوجىء الاهالي والمارة في صباح أحد الايام بطفو عشرات الأطنان من الأسماك النافقة على ترعة المريوطية – بمحافظة الجيزة، جنوب العاصمة المصرية، فيما تدافع مئات المواطنين ومراكب الصيد إلى داخل الترعة للتنافس في انتشال أكبر قدر من هذه الأسماك لبيعة أو لاستخدامه، حيث تم طرحها بالاسواق مجمدة بعدها بأيام وخاصة مع غياب الرقابة على عمليات الصيد”.
ورجح أن يكون “السبب في نفوق هذه الكميات الكبيرة من الأسماك استخدام الصيادين لماده سامة تسمى (السينور) التي تعمل على امتصاص الأوكسجين من المياه، مما يدفع الأسماك إلى الطفو فوق سطح المياه، ويؤدي إلى نفوقها مختنقة”.
حلول مقترحة
وعن الحلول المقترحة، قال مقلد: “بمنتهي البساطة يمكن التغلب على تلك المشكلة بإنشاء محطات معالجة مياة الصرف الصحي والزراعي، وإعادة تدويرها لتصبح صالحة للاستخدام، سواء للاستزراع السمكي أو لري المساحات الزراعية، وذلك للحفاظ على الانسان والبيئة الزراعية والحياة البيولوجية للكائنات”.
وختم: “إن تكلفة إنشاء محطات المعالجة يقل كثيرا جدا عن تكاليف تصنيع الدواء المعالج لتلك الامراض، ويقل كثيرا عن تكلفة استيراد الغذاء لتغطية العجز في الانتاج المحلي من الطعام، والأهم من كل ذلك الحفاظ على طبيعة البيئة المصرية الغنية بالنباتات والكائنات”.