يقال ان الديمقراطية حكم الشعب. لا يستطيع الشعب ان يحكم نفسه. يوكل من ينوب عنه للحكم باسمه. يشكل هؤلاء طبقات عليا تتفرغ للسياسة، أو بالأحرى تصادر السياسة وتضع الشعب على الهامش. تصير الوكالة المؤقتة تراتبية مجتمعية دائمة تنشأ عنها طبقات تتوارث الحكم والسلطة، وطبقات دنيا تقوم بمهام العمل ويتراجع وضعها الى ان لا تستطيع الاحتفاظ من انتاج عملها الا بما يكاد يكفيها للعيش والتوالد.
يفترض بانتخابات اعطاء الوكالة ان تكون دورية، وان تكون مواعيدها محددة. لكن طبقة الحكم تتذرّع بحجج شتى كيلا تجري الانتخابات في مواعيدها، وأهمها الذرائع الامنية، علماً بأن انتخابات بلدية أجريت في نفس الظروف الامنية، ان لم تكن أسوأ، من دون حدوث خربطة أمنية واحدة. تخاف الطبقة السياسية دائماً من أن تخسر وكالتها عن الشعب، فتحتمي وراء التعتيم والمناقشات الجانبية التي لا تهم أحداً. وهي أيضاّ تحتمي وراء الطبقة المالية، بالاحرى تميل لصالح هذه الطبقة لأسباب معروفة لا لزوم لشرحها. بين مطالب الناس بالعدالة والحرية وعناد الطبقة المالية التي ترفض اعطاء ما يمكن اعطاؤه للطبقات العاملة لتخفيف الهوة بالمداخيل، تجد الطبقة السياسية احياناً أنها لا تستطيع الا ان تنحني امام أوامر الطبقة العليا. تصير مهمتها الاحتيال على الطبقات الفقيرة، تمرر سلسلة الرتب والرواتب مرغمة، لكنها تطلب من السلطة القضائية ان تجد الثغرات للنفاذ منها وتعطيل التطبيق. جعلوا من الراسمالية طبيعة (وهي ليست كذلك) ليبرروا موقفهم بالانحناء امامها. لا أحد يستطيع معارضة الانواء وهيجان الطبيعة.
جوهر الراسمالية انها تصادر فائض العمل الاجتماعي وتريد في الوقت ذاته التوسع باستمرار، وهي لا تستطيع التوسع ومراكمة الثروة الا عن طريق تكديس الفوائض الاجتماعية لاستثمارها مرة أخرى او لتكديسها، اي اكتنازها، خاصة في الملاذات الضريبية المنتشرة حول العالم (اوفشور) حيث لا تخضع الثروة لأي ضريبة سواء في البلد المضيف او البلد المهربة منه الاموال. مع هروب الثروات الى الملاذات الضريبية حول العالم يقع عبء الضريبة على الفقراء وحدهم تقريباً. الطبقات المتوسطة والدنيا تُقتطع الضريبة من رواتبها عند دفعها، اما الطبقة العليا فهي تفاوض السلطة البيرقراطية حول ما يتوجب دفعه. في التفاوض تكون اليد العليا للراسمالية. وخلال التفاوض أو قبله، يحدث تهريب رؤوس الاموال لخفض الضرائب على الطبقات العليا. وسيلة أخرى للتهرب الضريبي هي انشاء عدة شركات تابعة لشركة واحدة، وهذه الشركات تتآمر فيما بينها، وأحياناً كثيرة تظهر في حساباتها خسائر تستوجب الخفض الضريبي. تعقيد المسألة يساعد في التعمية لاضاعة الصورة الحقيقية.
وسائل أخرى للتعمية هي الطائفية والجماعات العصبية التي تتبع زعماءها لاسباب غير اقتصادية. يستفيد هؤلاء من روح القطيع عند الطوائف كي يسلّموا رقبتها للطبقة الراسمالية، فتمعن هذه في الاستغلال.
تقوِّض الراسمالية أسس الديمقراطية فتجعل منها طريقاً للاستتباع والاخضاع، ناهيك عن الاستغلال، لا طريقاً للحرية. تعتمد الراسمالية اساساً العمل بالسر او بالتعتيم او بالتشويش كي تضيع الحقائق وراء ستار من التعمية فلا يفهم المقترعون ماذا يجري؛ وكي يصوت هؤلاء في الدورة الانتخابية، حين تحدث، حسب انتماءاتهم الطائفية أو ما يشابهها. وهذه غالباً ما تكون أشبه بالغرائز لعمق تاثيرها في اصحابها.
نقيض الرئيس المنتخب (ديمقراطياً ولفترة محدودة) هو الطاغية الذي يجدد أو لا (يجدَد) انتخابه حتى الابد. على كل حال، في هذه الايام جميع الحكام يتبنون مبدأ الانتخابات ليظهروا بمظهر الديمقراطية. مبدئياً، صارت الديمقراطية قاعدة عامة لدى الانسانية. لكن نقيض الديمقراطية هو دائماً العمل بالسر. أجهزة الدولة من البيروقراطية الى الامنية الى الدبلوماسية، وحتى مداولات البرلمان في معظمها، ومداولات مجلس الوزراء، يجري معظمها في السر. يجري معظمها بمعزل عن المجال العام.
الديمقراطية هي المداولات في المجال العام، من دون ان يشعر أحد من المتداولين انه معرض للعنف او للاعتقال لقاء اي رأي يقوله، او لقاء أي مسلك يختاره. تعني المداولات الحرة في المجال العام ان المجتمع مفتوح وان السلطة مهما كانت لا تخشى المجتمع، وان المجتمع او الشعب يمارس السياسة، وان السياسة بما في ذلك النقاش او الحوار هو الذي يقود السياسيين في البرلمان او الوزارة الى أخذ القرار؛ ويكون القرار حصيلة مداولات الجمهور، وتكون ولاية السياسيين او ولايتهم عن الجمهور استنابة حقيقية سياسية لا يدخل فيها الطغيان او الاستبداد.
الديمقراطية هي العلانية في الحوار، والاستبداد هو العمل بالسر. وعندما تعمل أجهزة الدولة الديمقراطية بالسر، فإنها تقوم بعمل الاستبداد، ولو كانت التسمية غير ذلك.
الديمقراطية نظام انتخابات. هي الوسيلة الافضل لاعطاء الولاية عن الشعب لمن يحكم. من دون هذه الوكالة المحققة في انتخابات نزيهة تكون الولاية مزورة، ويكون الحكم أشبه بالاستبداد. طبعاً تبذل الراسمالية مما لديها من المال للرشوة عند تركيب اللوائح الانتخابية، والرشوة المباشرة للمقترعين، كي تأتي الى البرلمان بمن يناسبها. يحدث ذلك في السر لا في العلن. تستخدم وسائل غير ديمقراطية لحجبها وتعطيلها، ولمنعها من تمثيل وتنفيذ ارادة الشعب.
سر الديمقراطية هو السياسة. السياسة الجدية لا تكون الا علانية. تخاف أنظمة الاستبداد من العلانية. المتآمرون والسراقون والحرامية ومصادرو ارادة الشعب يعملون عادة في الليل، في العتم، في غرف مغلقة، لا في العلانية. يخافون العلانية لأنهم يخافون الناس ويخشون أصحاب الحقوق. وهم يعلمون ان كثيراً من الحقوق، حقوق الفقراء، مسلوبة. يكون السلب والنهب قانونيين أحياناً، وغالباً ما يكونان في السرّ.
تفرَغ الديمقراطية من مضمونها التحرري بالعمل السري الذي تمارسه الطبقة السياسية، ومن ورائها الراسمالية. بذلك يتحول الشعب الى مقولة. عندما يزال الشعب من المجال العام، وعندما يهمَش المجال العام، لا يبقى الا القطيع الذي تحركه السلطة. القطيع هو جمهرة الناس التي لا تتحرك الا بأمر وقيادة من يرعاها. يتشكل القطيع بالقمع أو بالطائفية وما شابههما. الناس أنفسهم الذين كانوا جمهوراً ديمقراطياً يملأ المجال العام يتحولون الى قطيع يساق بالاستبداد. تفقد الديمقراطية مضمونها. يتحول الشعب الى مقولة وتتحول الديمقراطية الى هيكل يابس فاقد الحيوية.