أخذنا على وزارة البيئة، باعتبارها الوزارة المعنية بوضع السياسات والتشريعات البيئية وبالعمل الجاد على تطبيقها، أنها على مدى عهود عدد كبير من الوزراء المتعاقبين على حقيبتها، تخلَّفت عن القيام بهذه الوظيفة، وتخلَّت عنها، طوعا أحيانا، وتحت الضغوط أحيانا أخرى. بل وتحولت في بعض الحقب إلى بوق لتبرير وتغطية السياسات والممارسات المؤدية إلى هدر وتخريب أوساط البيئة وعناصرها، هواء وبحرا ونهرا ومياها جوفية و تربة، وتدميرا لمعطياتها الطبيعية، جبالا وسهولا وغطاء أخضرا.
والأمثلة كثيرة، نكتفي بإيراد الأشد أهمية بينها، الدالَّة على هدر الوقت وإضاعته من عمر التنمية الحقيقية في لبنان. صدر قانون حماية البيئة الرقم 444 في العام 2002، بعد عمل وجهد تحضيري استمر لعدة سنوات. نعتبر إقرار هذا القانون، الذي سمِّي بالقانون الإطاري لحماية البيئة، إنجازا عظيما في سياق وضع التنمية في لبنان على السكَّة السليمة، التي من شأنها، إذا ما احترمت هذا القانون وطبَّقته، تحوَّلت إلى تنمية متكاملة ومتوازنة ومستدامة، تؤدي دورها في التطوير الإقتصادي والإجتماعي، في ظل احترام للبيئة وانسجام مع معطياتها.
كلنا نعلم، وبالطبع كل وزراء البيئة المتعاقبين، بمن فيهم الوزير الحالي للبيئة، يعرفون، أن هذا القانون يحتاج إلى وضع وإقرار حوالي 72 مرسوم تطبيقي لكي يصبح قابلا للتطبيق الفعَّال، ويؤتي أُكُله في حماية البيئة اللبنانية وتحقيق التنمية المستدامة.
نحن اليوم على بعد 15 عاما من تاريخ إقراره، ما هي فعالية وجود هذا القانون واقعياً؟ وكم من المراسيم لا يزال يحتاج إليها لكي يدخل البلد في حقبة تنفيذه؟ ولماذا لا تطلق وزارة البيئة ورشة تحضير المراسيم التطبيقية، لتحيلها الواحد تلو الآخر إلى مجلس الوزراء لإقرارها؟ لو قام الوزير الحالي بهذا العمل لأصبح عن حق أنجح وزير للبيئة منذ إنشائها.
مثل آخر، وهو لا يقل قساوة عن قانون حماية البيئة. نحن نعلم، وأعتقد أن كل المعنيين بالبيئة أصبحوا يعلمون، أن مرسوم “أصول تقييم الأثر البيئي للمشاريع” قد وُضعت مسوداته الأولى في العام 2001-2002، وحظيت بموافقة هيئة الإستشارات والتشريع منذ ذلك التاريخ. لقد جرى تعطيل وعرقلة إقراره لعقد كامل من الزمن، حيث حصل ذلك في العام 2012. ومنذ ذلك التاريخ، لا يزال يواجه الإزدراء وعدم التطبيق وقلة الإحترام من قبل وزارات الدولة أولاً، ومؤسساتها، وعلى رأسهم مجلس الإنماء والإعمار ثانياً، والشركات المغطاة من قبل مراكز قوى في السلطة السياسية ثالثاً.
على هذه الخلفية، يتم إحالة “سياسة الإدارة المتكاملة وخطتها التنفيذية”، التي نحن بصدد قراءتها النقدية، لنقوِّم نقاط الضعف فيها ونقاط القوة.
تبدو الخطة التنفيذية، التي أحيلت بتاريخ 17 آب 2017 إلى مجلس الوزراء، أفضل وأقوى تماسكا من سياسة الإدارة التي ارتكزت عليها وانطلقت منها. ولكن هذا لا يخفي، أن بعض مكامن القوة فيها بقيت تعاني من ضعف منهجي، لا تقني، ومن تغييب غير مقبول لدور وزارة البيئة في القيام بما تتطلبه هذه الخطة من تشريعات وقرارات ومراسيم ومبادرات أيضا.
نعم هناك حاجة مُلحَّة لأن نوفِّر معطيات وقاعدة معلومات حديثة ودقيقة وإحصاءات موثوقة، تتيح إعداد خطط واقعية ومستدامة بشأن النفايات الصلبة المنزلية في لبنان. أوليس على وزارة البيئة أن تطلق مبادرات في هذا المجال، وهي الوزارة المعنية بوضع السياسات البيئية في لبنان؟
وفي نفس السياق، نحن نتفق مع ما تقترحه الخطة من تدابير آنية تتعلق بالتخفيف من إنتاج النفايات، ولا سيما ما يتعلق بفرض رسوم على استخدام أكياس البلاستيك للتخفيف من هذا الإستعمال. بل نحن نطمح إلى أبعد من ذلك، إلى المنع الكلِّي لاستعمال أكياس البلاستيك، إسوة بكثير من الدول القريبة والبعيدة، التي اتخذت قرارات من هذا القبيل. هناك حاجة ملحة للنقاش الجدِّي باعتماد أدوات ضريبية مدروسة جيدا، تهدف إلى تخفيف تولد أنواع من النفايات تشكل صعوبة مميزة في إدارتها. ونحن نعتقد أن وزارة البيئة هي الجهة المطالبة بالقيام بهذا النوع من المبادرات.
يظهر انعكاس عدم الوضوح الاستراتيجي في السياسة المقترحة على الخطة التنفيذية بشكل كبير الجلاء عند مقاربة موضوع الوقود البديل الناتج عن النفايات RDF. تستعمل الخطة في كثير من الأماكن تعبير “التخلص منه” في معامل الإسمنت.
هنا لا بد من النقاش المبدئي بشأن هذه المقاربة. أولاً، الوقود البديل المنتج من النفايات RDF، هو منتج صناعي، موادُّه الأولية هي بعض المكونات ذات المواصفات المحدَّدة، المأخوذة من سيل النفايات، ووفق فهمنا، المأخوذة من سيل “الموارد الثانوية”. وبالتالي هو منتج حامل للطاقة، يشبه بكل خصائصه الوقود المستعمل في العديد من المنشآت الصناعية. أوليس “البتروكوك”، من حيث المبدأ، وقودا بديلاً منتجا من متبقيات صناعة تكرير البترول؟ وتستورده مصانع الإسمنت اللبنانية من آخر بقاع الأرض؟
نقول هذا الكلام، لكي نزيل أي تماهي بين “الوقود البديل RDF” والنفايات. باعتبار أن هذا التماهي، الذي يقع فيه الكثيرون، عن قصد أو غير قصد، يشكِّل خطورة كبيرة على المستويين النظري والتطبيقي. ويؤدي إلى الإنزلاق من استخدام الوقود البديل إلى الدعوة لحرق النفايات، وكأن الأمرين متشابهان ومتماثلان من حيث الثقل التلويثي والمخاطر على البيئة والصحة العامة، وهذا غير صحيح على الإطلاق.
وثانياً، إن معامل الإسمنت ليست منشآت للتخلص من النفايات. وهي ليست محارق للنفايات على الإطلاق، ولا يمكن النظر إليها أو التعامل معها على هذا الأساس. نحن ندرك تماما، وربما أكثر من كثيرين، تقنية صناعة الإسمنت، وظروف الإحتراق في الفرن، ودرجات الحرارة، ووقت الإحتفاظ داخل الفرن، ومصير الغازات الخارجة منه، والتقائها بالمواد الداخلة وامتصاص جزء منها داخلها. ولكن كل هذا لا يجعل من أفران الإسمنت محارق للنفايات. وذلك بسبب الفارق الجوهري، كونها منشآت صناعية أُعدَّت لتصنِّع منتجا معينا هو “الكلينكر”، وبالتالي الترابة أو الإسمنت، بمواصفات وشروط تصنيع عالية الدقة، ومحدَّدة تماما لناحية مكوِّناتها ومواصفات المنتج. وهي تستخدم وقودا لتأمين درجات الحرارة المناسبة لعملية التصنيع، وهي تشتري أنواعا من الوقود تتمتع بمواصفات معينة تكون ملائمة لهذه الصناعة. فالوقود البديل RDF، عندما تسخدمه مصانع الإسمنت في العالم، تُخضِعه لشروط مواصفات الوقود الملائمة لها، لناحية قيمته الحرارية، وكمية الرماد المتولدة عنه، ومعايير المؤشرات الكيميائية، وخصوصا لناحية وجود الهالوجينات (الكلورين)، المولِّد لحمض الكلورهيدريك، المسبِّب لتآكل وتهالك التجهيزات، وكذلك لناحية وجود الملوِّثات البيئية الخطيرة، ومن ضمنها المعادن الثقيلة، مثل الزئبق وغيره.
إذن، معامل الإسمنت تستطيع أن تستقبل، بل هي تبحث عن وقود ذي قيمة حرارية مقبولة، وبمواصفات مقبولة، وبأسعار مقبولة، ويتلاءم مع الشروط التقنية لصناعتها، ولا يشكل تهديدا تقنيا لتجهيزاتها، أو تهديدا لسلامة مواصفات الجودة لمنتجها.
ففي حالة الوقود البديل RDF، نحن أمام ضرورة تصنيع منتج، يتمتع بالمواصفات المقبولة لاستخدامه في معامل الإسمنت، أو في أي صناعة أخرى، ولكننا ندرك أن صناعة الإسمنت هي الأكثر ملاءمة لهذا الغرض، وليس منتجاً يتم “التخلص منه” في معامل الإسمنت، وهناك فرق جوهري بين هذا وذاك.
في حين أن محارق النفايات هي منشآت وظيفتها التخلص النهائي من النفايات عبر تدميرها الحراري، ويمكن في أحسن الأحوال الإستفادة من الطاقة المرافقة لعملية الحرق لغايات أخرى. ولكننا هنا لا نناقش هذا الموضوع وكل المحاذير البيئية والصحية التي تحيط به.
تتحدث الخطة في إحدى نقاطها عن “التخلص من العوادم المتبقية من خلال استخدامها لإعادة تأهيل المقالع، أو طمرها في مطامر صحية متخصصة”. هنا ألفت الإنتباه إلى عبارة “التخلُّص” و عبارة “العوادم” المتبقية. نعم نحن أمام ضرورة التخلص النهائي من “متبقيات” عمليات الفرز والفصل وإعادة الإستعمال والتدوير والمعالجة، التي يسميها الكثيرون “عوادم”، وأنا أعتبر أن هذه التسمية غير دقيقة، وأفضِّل تسميتها بالمتبقيات. لماذا؟ لأن كلمة عوادم توحي خطأً بأن هذه المتبقيات هي مواد خاملة، وهذا غير صحيح على الإطلاق. أعتقد أن هذا الظن الخاطيء يكمن وراء استسهال اقتراح التخلص منها في مواقع المقالع والمرامل. بل أخطر من ذلك، اقتراح استخدامها لإعادة تأهيل المقالع، كما تقترح الخطة في النقطة ثالثاً في الصفحة 6.
إن هذا الاعتقاد خطير جدا، حيث جعل من واضعي الخطة لا يجدون مانعا من استخدامها في تأهيل المقالع، ولا فرقاً بين ذلك وبين طمرها في مطامر صحية متخصِّصة.
نحن نرى أن التخلُّص النهائي، الآمن نسبيا، من متبقيات كل عمليات الفرز والتدوير والمعالجة وإنتاج الوقود البديل RDF، في “مطامر صحية متخصصة” ونظامية، هو الخيار الوحيد، ولا يماثله أو يستبدله خيار آخر على الإطلاق. ونحن نعتقد أيضا، وفق رؤيتنا للإدارة المتكاملة للنفايات، أن كميات هذه المتبقِّيات يجب أن تميل نحو التناقص التدريجي باتجاه تصفيرها.
ولأصحاب نظرية حرقها نقول، إن المكوِّنات الغنية بالطاقة، والآمنة لناحية محتواها من الهالوجينات (الكلورين) والمعادن (الزئبق)، قد سبق نزعها من سيل النفايات لتصنيع الوقود البديل RDF. وبالتالي إن “المتبقيات” هي غير صالحة للحرق الآمن بيئيا وصحيا، باعتبارها ليست بالضرورة مواداً خاملة، كما توحي تسميتها الخاطئة بالعوادم.
عند العودة للحديث عن مطمر الناعمة، لا يجوز، وبعد مرور 20 سنة، على الخطة الطارئة لإدارة النفايات المنزلية الصلبة، التي وضعتها وزارة البيئة في العام 1997، وكان إنشاء وتشغيل مطمر الناعمة جزءا منها ومترافقا معها، أن نُشوِّه مضمونها الحقيقي، وإن لم يتم الإلتزام به وتطبيقه على مدى سنوات استثمار مطمر الناعمة وحتى لحظة إقفاله.
هذه الخطة الطارئة، قالت حينها بالطمر الصحي في مطمر الناعمة لمتبقيات عمليات الفرز والتدوير والتسبيخ، التي قدَّرتها بحوالي 15-20 بالمئة من كمية النفايات المتولِّدة في بيروت الكبرى، وقدَّرت عمر المطمر بـ 15 عاما. ولكن، مع الأسف الشديد، هذه الخطة لم تطبق على الإطلاق، وحتى يومنا هذا، بل تعرضت للتشويه العملي والتطبيقي منذ اليوم الأول، حين تمت عمليات شكلية للفرز في معمل الكرنتينا ذي القدرة المحدودة جدا على الفرز، وهذه القدرة المحدودة لم يطرأ عليها أي تعديل أو تطوير منذ 1997 وحتى اليوم. ومن جهة أخرى تمت عملية محدودة وغير نوعية لتسبيخ كمية قليلة جدا من المكونات العضوية للنفايات في معمل الكورال. ومن المفيد التأكيد أيضا، أن هذه القدرة المحدودة لاستيعاب معمل الكورال، لم يطرأ عليها أي تعديل أو تطوير على امتداد السنوات العشرين الماضية وحتى اليوم. ولم يشكِّل تشغيل معمل العمروسية للفرز إضافةً ذات أهمية كبيرة، حيث لم يغطي نسبة الزيادة التي طرأت على كميات النفايات المتولدة في بيروت الكبرى خلال تلك السنين. فماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة أن بدأ مطمر الناعمة يستقبل ما يقارب الـ 90 بالمئة من كميات النفايات، موضَّبة للطمر، منذ اليوم الأول لتشغيله. واستمر كذلك حتى يوم إقفاله في 17 تموز 2015. بل ربما أن الأرقام الدقيقة تشير إلى ما نسبته 92 بالمئة، حيث أن إعادة التدوير والتسبيخ لم تتجاوز نسبة الـ 8 بالمئة فقط. وماذا ترتب على ذلك؟ ترتب على ذلك أن أمتلأ مطمر الناعمة في السنوات الأربع الأولى من تشغيله بدل أن يخدم 15 عاما، وتم اللجوء إلى توسيعه وتكبير قدرته الإستيعابية 5 مرات متتالية على الأقل، بحيث توسَّعت مساحته لتصبح أضعاف أضعاف المساحة الأولية التي بدأ عليها.
اليوم تقترح الخطة إعادة تشغيله وتوسيعه لاستيعاب ملايين جديدة من نفس النفايات، التي لم يتم فرزها وتدويرها وتسبيخها كما اقتضت الخطة الطارئة للعام 1997.
هل تعلمون ما هو أذكى طرح يمكن أن تطرحه “سياسة وخطة وزارة البيئة” اليوم؟
أعتقد جازما، أنه العودة إلى الخطة الطارئة للعام 1997، ولكن هذه المرَّة بتوفير البنية التحتية الضرورية لحسن تطبيقها. أي إطلاق أنظمة الفرز من المصدر وأنظمة الجمع المنفصل جنبا إلى جنب مع إنشاء مراكز للفرز بقدرة استيعابية تناسب كميات النفايات المتولدة في كل لبنان، ومراكز للمعالجة البيولوجية للمكوِّنات العضوية، إن بالتسبيخ أو بالهضم اللَّاهوائي لإنتاج البيوغاز وتوليد الطاقة، وكذلك مراكز لتصنيع الوقود البديل من المكونات الغنية بالطاقة، وغير القابلة للتدوير، والخالية من الكيماويات الخطرة والهالوجينات والمعادن. يضاف إلى كل ذلك، مطامر صحية متخصصة ونظامية لاستقبال المتبقيات، مع العمل على التطوير المستمر لنسب التدوير والمعالجة والتصنيع، والتخفيف المستمر لكميات المتبقيات المعدَّة للتخلص النهائي في المطامر الصحية المتخصصة والنظامية.
طبعا، لا بد من مرافقة كل العناصر المساعدة الأخرى، من برامج للتوعية والتدريب والحوافز، وتطوير البنية التشريعية ومنظومة الأنظمة والقواعد والإجراءات والمواصفات والمعايير، التي تجعل من إدارة النفايات صناعة لها منظومتها التشريعية وضوابطها وحزمة المعايير والمواصفات الخاصة بها.
في المقالة القادمة سوف نتناول بالتفصيل موضوع الوقود البديل المنتج من بعض مكونات النفايات RDF