يمكن اعتبار خطاب الرئيس الأسد، الأسبوع الفائت، إعلانا لانتهاء مرحلة بكاملها، وبدء الدخول في مرحلة جديدة. مرحلة الإنتهاء من جيوب الحرب، وتسريع عملية إعادة البناء والإعمار وتوسيعها لتغطي كل أرجاء البلد وكل قطاعاته.

إن عملية إعادة البناء قد انطلقت منذ زمن، وهي بالواقع لم تتوقف أبدا طوال فترة الأزمة منذ اندلاعها. فعمليات الترميم والبناء صغيرة الحجم لم تتوقف إطلاقا، إنما هي مرافقة لأعمال التدمير، التي غطت مدنا وأرياف برمتها. وكذلك المشاريع الحكومية لإعادة البناء والإعمار، وترميم أوضاع بعض القطاعات الاقتصادية الهامة مثل الصناعة والزراعة، وتلك المتعلقة بتأمين الحد الأدنى من الخدمات، مثل الإمداد بالمياه والكهرباء والمحروقات والطرق والطبابة والتعليم وتوفير الغذاء، كلها لم تتوقف يوما، واتخذت وتائر متفاوتة واتساعا مختلفا حسب الحالة الأمنية في المناطق المختلفة. وكذلك القطاع الخاص لم يتخلف يوما عن المشاركة النشيطة في المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، وفي كل المجالات أيضا.

إن مرحلة إعادة البناء والإعمار الشاملة لن تنتظر الإنتهاء الكامل من الأعمال العسكرية ووصول العملية السياسية إلى خواتيمها، بل هي تستمر، ولكن بمدى واتساع ومقاييس وشمولية مختلفة الآن. حيث بدأنا نشهد الإنطلاق بمشاريع عملاقة، تقوم بها الحكومة السورية نفسها، وبالشراكة مع شركات وطنية وأجنبية من بلدان صديقة وحليفة. ربما كانت أنشطة معرض دمشق الدولي أفضل تعبير عنها.

لقد طاول الدمار والضرر كل  القطاعات تقريبا، قطاع الإسكان والصحة والتربية والتعليم والإمداد بالمياه الصالحة للاستعمال وللشرب وتنقية المياه العادمة والنقل والطاقة.

أشارت تقارير صادرة عن بعض الجهات الدولية، مثل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى تقديرات لنسب الدمار البنياني، وإلى القطاعات الأكثر تضررا بالحرب المدمرة، التي تتعرض لها سوريا منذ أكثر من ست سنوات. تقول هذه التقارير، وهي ليست نهائية بأي حال، بل نسوقها للتدليل على حجم الدمار، الذي لحق بالمدن والأرياف المختلفة. تظهر مدينة حلب المدينة الأكثر دمارا وتضررا، حيث تشير التقديرات إلى دمار ما يقارب 58.10 بالمئة من الكتلة المبنية، وتليها مدينة حمص بنسبة دمار تصل إلى 20.50 بالمئة، وبعدها مدينة حماه بنسبة 12.92 بالمئة، وفي المرتبة الرابعة تأتي مدينة إدلب بنسبة دمار 6.03 بالمئة، وبعدها مدينة درعا بنسبة 2.37 بالمئة، وأخيرا مدينة اللاذقية، حيث لم تتجاوز نسبة الدمار فيها 0.08 بالمئة.

وفق هذه التقارير يأتي قطاع السكن والمباني السكنية في المقام الأول لناحية نسبة الدمار التي ضربته، وهذا ما يجعل هذا القطاع أولوية في استراتيجيات وخطط إعادة الإعمار، خاصة أن هذا القطاع مرتبط بالدرجة الأولى بتوفير السكن للعائدين من النازحين، الذين نزحوا إلى مدن وأرياف أخرى داخل البلد، أو إلى الدول القريبة والبعيدة. وقطاع الطاقة يأتي في المرتبة الثانية لناحية الخسائر والدمار الذي لحق به، ويليه قطاع الصحة والطبابة والاستشفاء، وبعده قطاع التربية والتعليم، ويأتي بعده قطاع المواصلات والطرق، وأخيرا قطاع المياه ومعالجة المياه العادمة والوقاية الصحية ومسائل الصحة العامة.

إن مدينة اللاذقية ومدن وبلدات الشريط الساحلي السوري، على الرغم من أنها تعرضت إلى أقل نسبة دمار في البنى الأساسية، إلا أنها استقبلت العدد الأكبر من النازحين من مناطق المواجهات العسكرية الأخرى. وهي تعرضت لضغوط كبيرة على الخدمات العامة من مياه وكهرباء ومواصلات وصحة وغذاء، وهذا ما شكل ثقلا إضافيا على البيئة والإدارة البيئية، لناحية الصرف الصحي والنفايات والوقاية الصحية والصحة العامة.

في سياق سياسة إعادة الإعمار والبناء، لا بد من إعادة ترميم وتنشيط وتطوير القطاعات الإقتصادية السورية، وفي مقدمتها القطاعات التي تضررت كثيرا خلال سنوات الحرب، مثل الصناعة والزراعة. ولا بد أيضا من وضع مخطط شامل عقلاني وواقعي، يبنى على تطوير تقنيات جمع العلومات، وتقييم الوقائع الميدانية، ووضع مخطط لإدارة مخاطر الكوارث.

إن إعادة بناء الأبنية المهدمة، الحكومية والخاصة، والمنازل المدمرة وكل ما يرتبط بقطاع الأبنية والمجمعات السكنية، يستلزم إنعاش صناعة مواد البناء، الإسمنت والحديد والرمل والحصى والأخشاب، وصناعة الأنابيب من كل الأحجام والأنواع، والصناعات والحرف المرتبطة بها. فصناعة الإسمنت في سوريا هي ناشطة وواسعة وذات قدرات كبيرة منذ فترة ما قبل الحرب، ولكن هناك حاجة لإعادة تقييم لقدراتها بهدف تلبية الحاجات الضخمة، التي تلزم لإعادة إعمار هذا القطاع.

إن إعادة توطين النازحين العائدين إلى سوريا، إلى مناطقهم ومدنهم وبلداتهم وقراهم، أم إلى مناطق أخرى، تتطلب توفير السكن والخدمات الأساسية وفرص العمل.

هناك أيضا مناطق ومدن غنية بإرثها التراثي العظيم، مثل حلب وحمص وتدمر، فتتطلب وضع وتطوير برامج تنظيف وإعادة تأهيل وترميم وإعادة بناء يحترم طابعها التراثي التاريخي الحضاري ويحافظ عليه.

إن مخططا شاملا يغطي كل الأبعاد، في كل أنحاء البلد، يفترض دورا قياديا للحكومة السورية، لتكون الناظم الفعلي لعملية إعادة البناء والإعمار، والمشرف على تحقيق الأهداف الاستراتيجية لهذه العملية المعقدة والتاريخية. إطلاق ورشة وضع وتطوير التشريعات لتنظيم هذه العملية، وتنظيم كيفية التعامل مع المناطق العشوائية وغير المنظمة، التي كانت موجودة سابقا، والتي نشأت خلال سنوات الحرب.

فالمساكن والمجمعات السكنية تتطلب لحظ حدائق ومساحات عامة، ومكاتب حكومية وللقطاع الخاص، ومتاجر ومساحات تجارية وأسواق و”مولات”. يبرز هنا دور مميز وخاص للسلطات المحلية في المحافظات والبلديات، ودور نشيط ومبادر للقطاع الخاص، ودور قيادي للدولة، من خلال إنشاء شركات عقارية في المدن الكبرى، وكذلك تنشيط مشاريع محلية في كل المناطق. إن كل ذلك مجتمعا، يشكل سياسة وطنية شاملة ومتكاملة العناصر، ترتكز على وضع تشريعات جديدة ملائمة لمرحلة إعادة الإعمار، يلحظ فيها دورا كبيرا للقطاع الخاص، والمجتمع المدني من خلال منظماته وجمعياته.

إن ورشة بحجم الوطن واتساعه وشمول كل قطاعاته لا بد أن تستند إلى دراسة بيئية استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار البيئة والموارد الطبيعية، في كل مراحل عمليات إعادة الإعمار والبناء.

إن الآثار البيئية للنزاعات والحروب كبيرة جدا، وذات أثر عميق على كل جوانب حياة الإنسان، ولأجيال قادمة. فهناك الآثار البيئية المباشرة للحرب، التي لحقت بالعناصر والأوساط البيئية المختلفة جراء الأعمال الحربية والدمار على مدى سنوات الأزمة، وكذلك الأثار غير المباشرة والآثار على الصحة البشرية ورفاه العيش وعلى خدمات المنظومات البيئة.

إذا لم تؤخذ هذه الآثار بعين الإعتبار، يمكن لها أن تؤدي إلى هجرة جديدة داخلية وخارجية، وكذلك إلى عدم استقرار اجتماعي – إقتصادي. ولذلك، من المهم جدا أن يتم درس وتقييم وتحديد المخاطر البيئية، وفرص تشكيل وتقييم السياسة والخطط والبرامج التنموية المناسبة.

يمكن لهذه السياسات أن تتيح فرص التنمية المستدامة آخذة بعين الإعتبار الظروف الخاصة بسوريا.

إن البيئة والموارد الطبيعية، ولا سيما النفط والغاز وطرق عبورها وتسويقها، ربما تكون واحدة من أسباب نشوء النزاع في سوريا وعليها، ولكننا نرجح أولوية الأسباب السياسية لهذا النزاع، بهدف تغيير موقع سوريا في الصراع العربي الصهيوني، وفي التحالفات الإقليمية والدولية، بغية تسهيل مشاريع تصفية القضية الفلسطينة، والهيمنة على شعوب وبلدان المنطقة.

إن لسنوات الحرب في سوريا آثارا بيئية كبيرة، مباشرة وغير مباشرة، تطاول الصحة البشرية والعيش وكذلك خدمات المنظومات البيئية. فالآثار المباشرة من جهة، مثل التسربات الكيميائية، ولا سيما الزيوت ومشتقات البترول والمواد الصناعية الكيميائية، والنفايات من كل الأصناف والأنواع، وفي المقدمة منها النفايات الخطرة، وكذلك الألغام الأرضية، وتلويث الموارد الطبيعية والأوساط البيئية من هواء ومياه جوفية وسطحية وتربة، وتدمير موائل التنوع الحيوي، النباتي والحيواني، والتدهور الفظيع للموارد الطبيعية. ومن جهة أخرى، الآثار غير المباشرة، الناتجة عن الإقتصاد المرافق للنزاع الحربي، من هجرة قسرية ونزوح السكان وانتقالهم إلى مناطق أخرى داخل البلد وخارجه، بحثا عن الأمن وأسباب الحياة. وكذلك، يشكل نهب الموارد الطبيعية طوال سنوات الحرب، وخصوصا في سنواتها الأولى، حيث وضعت المجموعات الإرهابية المسلحة يدها على العديد من آبار النفط والغاز، وغيرها من الموارد، من أراض زراعية ومناطق صناعية ومصادر المياه، مما أدى في الواقع إلى إعاقة وتعطيل، جزئي وأكثر اتساعا أحيانا، لبرامج وخطط التنمية والحفاظ على الموارد الطبيعية.

كل هذه الآثار البيئية والمباشرة وغير المباشرة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار بشكل كامل وعميق، منعا لتقويض عمليات إعادة الإعمار والبناء في هذه المرحلة.

إن الرغبة الكبيرة والحاجة إلى السرعة بتوزيع المساعدات المالية تترافق، في غالب الأحيان، مع مخاطر واقعية باحتمال التسبب بأضرار بيئية ناتجة عن أعمال إعادة الإعمار والبناء، التي تتم دون أخذ الإعتبارات البيئية وتقييمها. مثلا إعادة إعمار المساكن دون أي جهد لحماية البيئة والموارد الطبيعية. هذا ما يتطلب مراقبة فعالة على الموارد الطبيعية، وعدم تركها بعهدة مجموعات فوضوية، تمارس سوء الإدارة البيئية بكل انعكاساتها وأثارها السلبية.

يمكن تفادي كل هذه الاحتمالات عبر اعتماد حوكمة فعالة، بحيث يجري تحديد دقيق للأهداف والوسائل الآيلة إلى إدارج فعال للإدارة البيئية في كل عمليات إعادة الإعمار.

ففي هذه المرحلة الإنتقالية، التي تتميز باستمرار الأعمال الحربية، جزئيا في بعض المناطق، وباستنهاض أنشطة إعادة الإعمار والبناء، وتنشيط القطاعات الاقتصادية، لا بد من تعزيز دور الدولة، عبر وضع وتطوير التشريعات والقوانين، وفي المقدمة منها القوانين والأنظمة، التي تحمي البيئة، من جهة، ومن جهة أخرى، تعزيز مؤسَّسي يطاول كل مؤسسات الدولة المعنية بالتنمية وبحماية البيئة، وأعتماد اعتبارات الإستدامة طويلة المدى.

في هذه المرحلة، بالإضافة إلى المخاطر البيئية، هناك أيضا الفرص البيئية، بحيث يكون على واضعي السياسات وأصحاب القرار أن يحيلوا هذه المخاطر فرصا لإعادة بناء، مرتكزة على احترام كامل للإعتبارات البيئة والموارد الطبيعية وصحة الإنسان.

إن الهدف الأساس للإدارة البيئية وللتقييم البيئي الاستراتيجي وللدراسات البيئية للمشاريع وخطط الإدارة البيئية الخاصة بكل منها، يكمن في تحديد المخاطر البيئية من جهة، وتحديد الفرص البيئية من جهة أخرى، بحيث يتم أخذها بعين الإعتبار، وإدماجها في خطط التنمية وإعادة الإعمار وإعادة ترميم وتعزيز وتطوير القطاعات الإقتصادية برمتها.

هذا يستلزم تعزيز الإدارة الرشيدة للموارد الطبيعية كأساس لإعادة إعمار مستدامة، وتعظيم الفوائد من هذه الموارد. فالإدارة البيئية توفر فرصا لتعزيز وتقوية حوكمة وإدارة الموارد الطبيعية، وتنظم عملية استثمارها المستدام.

في هذه المرحلة الإنتقالية، من المهم جدا تحديد واضح للجهة المنوط بها عملية اتخاذ القرارات. وهنا يجب إتاحة الفرصة لإقامة أوسع شراكة بين كل الأطراف المعنية بإعادة الإعمار والبناء وبتنشيط وتطوير القطاعات الإقتصادية المختلفة. هذا يساعد على إرساء استقرار سياسي طويل المدى، إضافة لإعادة إعمار البلد وفق مستلزمات الإدارة البيئية والتنمية المستدامة.

وهنا تبرز أيضا أهمية التعزيز المؤسَّسي لكل البنى المعنية بالإدارة البيئية وحماية الموارد الطبيعية وحسن استثمارها، من وزارة البيئة المركزية، إلى مصالح ومديريات البيئة في الأقاليم والمحافظات والمناطق كافة، إلى السلطات المحلية والبلديات وإدارات المحافظات في كل البلد. هكذا يتم السير قدما بعمليات إعادة البناء والإعمار، جنبا إلى جنب مع عمليات الدعم والإغاثة الإنسانية، وإعادة توطين النازحين وتوفير الخدمات الملحة وفرص العمل. وبشكل خاص توفير الإمداد بالمياه، وتأمين الوصول إلى الأراضي، والتأكد من أمان وجودة التربة.

هناك أهمية خاصة لتعزيز القدرات في مجال الحوكمة ووضع وتطوير آليات وإجراءات جديدة لدراسات تقييم الأثر البيئي، وآلية اتخاذ القرارات. ينبغي أن يطاول ذلك، ليس فقط المؤسسات الحكومية المعنية بالبيئة، بل أيضا الوزارات المركزية، مثل وزارة المالية والتخطيط والإقتصاد والصناعة والزراعة والثقافة.

تتحدد الأهداف الأساسية للإدارة البيئية بتوفير ضمانات بيئية واجتماعية في سياق التنمية، وبإدماج المباديء والممارسات المتعلقة بالبيئة في تصاميم ومفاهيم برامج إعادة الإعمار والبناء، والمتعلقة بالتنمية المستدامة، وكذلك بإشراك المجتمع المدني في الحوار بشأن حل المشاكل البيئية المشتركة، كأداة لتفادي الأزمات وبناء السلام الإجتماعي والأمان البيئي في سوريا اليوم والغد.

 

 

 

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This