إنجازات الجيش العربي السوري وحلفائه في كل مناطق سوريا، وتقدمه نحو الحدود العراقية بعد تأمين جزء كبير من الحدود مع الأردن، يشكل مصداقا على السير قدما في إنهاء الأزمة السورية، وفشل مخططات إسقاطها.
هذا يترافق أيضا، مع اندفاعة قوية لإعادة تحريك الدورة الإقتصادية في البلاد، وما نجاح معرض دمشق الدولي الأخير، ومشاركة أكثر من ألف شركة وطنية وأجنبية من بلدان صديقة وحليفة، ومن شركات تسعى لأن يكون لها موطيء قدم في قطار إعادة إعمار سوريا، حتى من تلك البلدان التي سعت إلى إسقاط الدولة فيها، ودعمت بأشكال مختلفة الجماعات المسلحة، التي عاثت في البلاد فسادا وتدميرا.
ونشهد أيضا بداية علامات نهاية المقاطعة الدولية للدولة السورية. فها هو وفد الجمهورية العربية السورية، المكوَّن من المهندس التقني المتابع لملفات الزئبق والكيماويات، ومن معاون وزير البيئة والإدارة المحلية، يشارك بفعالية ملحوظة في المؤتمر الأول لاتفاقية ميناماتا بشأن الزئبق، الذي انعقد في الأسبوع الفائت من 24 – 29 أيلول (سبتمبر)، في جنيف، سويسرا.
تلقت الحكومة السورية دعوة السكرتارية المؤقتة للاتفاقية والأمم المتحدة للبيئة، بعد انقطاع دام خمس سنوات متتالية من سنوات الأزمة السورية، والحرب الكونية على الدولة السورية لإسقاطها وتطويعها، وربما لتقسيمها وتفتتيتها. وهذا بالتأكيد، دليل إضافي على حسم الأمور في سوريا لصالح الدولة والشعب والجيش.
إن هذه المرحلة، تتطلب حشدا لطاقات كبيرة يزخر بها الشعب السوري وحلفاؤه وأصدقاؤه، للسير بعملية إعادة الإعمار وفق استراتيجية وطنية، لا دور مقررا فيها للمؤسسات المالية الدولية، من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، التي كان من شأن الإرتهان لسياساتها وبرامجها في إعادة الإعمار، أن يبقي سوريا لعشرات السنين القادمة غارقة في ديون مرهقة، واقتصادها حبيس سياسات هذه المؤسسات الدولية، التي تخدم سياسات الهيمينة الأميركية والغربية عموما، ولا تأبه بالمصالح الوطنية للشعوب والدول.
إن مرحلة إعادة الإعمار، المنطلقة بقوة، وبخطى حثيثة وواثقة، تشكل، على أرضية التهديدات التي مثلها الدمار الهائل في البنى التحتية والقاعدة الأساس للإقتصاد الوطني، فرصة كبيرة سانحة لبناء سوريا الحديثة على قاعدة صلبة من الإقتصاد الوطني، المتكامل مع اقتصادات الدول الناشئة في حركة تنسلخ تدريجا عن علاقة التبعية الكاملة لمنظومة الهيمنة الأميركية والغربية.
هذه الفرصة، قد بدأت بالفعل، ونحن نرى الحاجة للاستمرار بها، وتسريع وتيرتها، وتوسيع نطاقها لتشمل مجالات جديدة مع كل يوم يمر. فإعادة إعمار البنى المهدمة في المدن والبلدات والقرى، وكذلك إعادة بناء وتجهيز وتشغيل الألوف المؤلفة من المؤسسات الصناعية المدمرة (في حلب وحدها هناك ما يزيد عن عشرة آلاف مؤسسة صناعية من أحجام مختلفة قد دمرت كليا أو جزئيا)، وكذلك إعادة تأهيل مواقع آبار النفط والغاز المدمرة، والتي استنزفتها المجموعات المسلحة بطرق همجية، كما نهجها مع كل شيء، من الحجر والبشر والتراث والمنشآت.
إن المجموعات المسلحة، التي عاثت بسوريا فساد وتدميرا وحرقا وقتلا على مدى السنوات الماضية، قد دمرت مواقع كثيرة من منشآت النفط والغاز، ولا سيما في مناطق شرق سوريا. ووضعت يدها على مخزونات من المواد الكيميائية، من كل نوع وصنف، التي شكلت موادا أولية ووسطية للعديد من الصناعات السورية. هذه الصناعات، التي شهدت في العقود الأخيرة التي سبقت الأزمة والحرب في سوريا وعليها، قفزات كبيرة إلى الأمام، من حيث تنوع منتجاتها، ومن حيث التقنيات المتطورة التي استخدمتها، أو من حيث الجودة العالية لهذه المنتجات، التي ضاهت صناعات دول ناشئة ومتطورة.
إن المجموعات المسلحة، وضعت يدها أيضا على مخزونات من الزئبق، تقدر بما يتراوح بين 5 – 6 طن، كانت الحكومة السورية قد استوردتها لتلبية حاجات صناعية. ولا يعرف مصير هذه الكميات الكبيرة حتى الآن، هل هي هربت إلى الخارج بتجارة غير مشروعة؟ أم أنها رميت عشوائيا في محيط مواقع تخزينها؟ وبالتالي نكون أمام تلويث خطير جدا لهذه المواقع بالزئبق، عالي السمية البيئة والبشرية.
إن المجموعات المسلحة وضعت يدها أيضا على مخازن لمواد زراعية، من مبيدات وأدوية زراعية أخرى، بعضها منتهي الصلاحية، وبعضها الآخر صالحا للاستعمال. وهذه الكميات أيضا مصيرها مجهول تماما. وإذا كانت تلك المجموعات قد تصرفت بها بطرق غير نظامية، دون مراعاة خصوصية هذه المواد عالية السمية على البيئة والصحة البشرية، نكون أمام حالات كثيرة من المواقع الملوثة وفي مناطق مختلفة.
وبالطبع يطول المقال في هذا المقام، إذ أن الدولة السورية، التي كانت تبذل جهودا مميزة قبل الأزمة لوضع سياسات واستراتيجيات وبرامج للتحكم بالتلوث الكيميائي من مختلف المصادر، ولمعالجة المواقع الملوثة، وإرساء خطط وطنية لإدارتها، تجد نفسها اليوم أمام عبث لا مثيل له بهذه المواد الصناعية والنفطية والزراعية، والمخزونات الكبيرة نسبيا من مواد أولية، أو مواد محفِّزة تدخل في عمليات الصناعات الكيميائية المختلفة، وعلى امتداد الخارطة السورية كلها تقريبا.
إن سوريا، التي كانت تلعب دورا نشيطا في إطار الاتفاقيات الكيميائية الدولية، مثل اتفاقية بازل بشأن النفايات الخطرة، واتفاقية ستوكهولم بشأن الملوثات العضوية الثابتة، واتفاقية روتردام بشأن الإبلاغ المسبق عن علم في التجارة الدولية بالكيماويات الخطرة والسامة، والتي نفذت في أوقات مبكرة جرداتها الوطنية بشأن الملوثات العضوية، وبشأن الزئبق أيضا، حيث هناك دولا عديدة تنعم بالاستقرار لم تنفذها بعد، أو لم تقم بتحديثها بعد. إن سوريا هذه، مدعوة اليوم، وهي تدرك ذلك عميقا، لأن تعيد إطلاق هذه السياسات والاستراتيجيات والبرامج والمشاريع بقوة كبيرة، وذلك للتمكن من التحكم بالمخاطر البيئية والصحية الكبرى، التي تمثلها المواقع الملوثة بالكيماويات الصناعية والبترولية والزراعية، ولكي تشكل الإدارة البيئية السليمة للمواقع الملوثة، ولمصادر التلوث، وللنفايات الخطرة المتولدة من كل المصادر، جزءا مكملا للإدارة السليمة بيئيا لعملية إعادة الإعمار برمتها.
ونحن لا نتكلم عن أمنيات فقط، بل نحن شهود على السير قدما في هذا المسار التحديثي والإصلاحي، المواكب لعملية إعادة الإعمار الشاملة. لقد بدأت ورشة كبيرة لتحديث التشريعات البيئية، ووضع تشريعات جديدة لتواكب فيها ما استجد في مجال الإدارة البيئية على المستوى العالمي. وتعتبر هذه الورشة التشريعية بداية من النقطة الصحيحة، فمن هنا يعاد بناء السياسات الوطنية، ووضع وتحديث الاستراتيجيات البيئية، ولا سيما في مجال التحكم بالملوثات والمواد والنفايات الكيميائية، وتطوير البرامج في بُعدها المباشر والمتوسط وبعيد المدى، لإعادة تنظيف الأراضي والمواقع الملوثة، ولحماية الموارد الطبيعية المهددة، والصحة البشرية المعرضة للمخاطر.
لقد كانت المداخلات المتعددة، لوفد الجمهورية العربية السورية في المؤتمر الأول لاتفاقية ميناماتا، غنية وجريئة ودقيقة في طرح الاحتياجات الوطنية، في ظروف إعادة إعمار سوريا، بعدما حل فيها من دمار على أيدي المجموعات المسلحة على مدى السنوات السبع الماضية. ودلت هذه المداخلات أيضا على نضج علمي وتقني ودبلوماسي مميز، حيث أنه لم يتح لسوريا المشاركة في الدورات السبع للمفاوضات بشأن الاتفاقية، وعشرات الاجتماعات الإقليمية والعربية، التي غُيِّبت عنها سوريا بفعل سياسات القطيعة لجامعة الدول العربية، ولبرامج الأمم المتحدة، التي ترعى الاتفاقيات الكيميائية الدولية. وعلى الرغم من هذا الإبعاد القسري، كان الوفد السوري متفهما لكل تفاصيل العملية التفاوضية والدبلوماسية والتقنية، التي تتم خلال المؤتمر. وقام بلقاءات واسعة مع وفود الدول والمنظمات الحكومية وغير الحكومية وممثلين عن أمانة الاتفاقية والأمم المتحدة للبيئة. ووضع الوفد مطالبه الوطنية المحقة، حول ضرورة الاستفادة من كل أنواع الدعم التقني والمالي، وتمويل مشاريع من قبل مرفق البيئة العالمي GEF، وهو المنفذ المعتمد للآلية المالية (التمويلية) لاتفاقيات ستوكهولم وميناماتا ومعظم الإتفاقيات البيئية العالمية.
لقد حدد الوفد السوري أولوياته بدقه، فالبلد يحتاج بشكل ملح لتحديث جردته الوطنية بشأن الزئبق، لكي يتمكن من وضع استراتيجة وبرنامج وطني لتنفيذ التزاماته، التي تنص عنها اتفاقية ميناماتا. وكذلك هناك حاجة للمساعدة في الكشف عن مكان ومصير كميات الزئبق، التي وقعت بأيدي المجموعات المسلحة. وكذلك المساعدة في وضع برامج لتحديد المواقع الملوثة والعمل على معالجتها وإصحاحها، ودرء مخاطرها المحدقة بالموارد الطبيعية والبيئة والصحة البشرية. وقد عبر الوفد أيضا عن انفتاحه للتعاون مع كل المؤسسات والمنظمات الدولية، الحكومية وغير الحكومية، العاملة على تطبيق اتفاقية ميناماتا وتنفيذ التزاماتها. ولا سيما مراكز التدريب التابعة لاتفاقية بازل في القاهرة، ولاتفاقية ستوكهولم في الكويت، ودعاها للتخلي عن سياسة المقاطعة الكيدية، وتجاوزها إلى روح من التعان والتنسيق الضروري لصالح شعوب بلداننا جميعا.