على جدول أعمال مجلس الوزراء اليوم درس مقرّرات اللجنة الوزارية المكلفة دراسة ملف تلزيم مناقصة التفكك الحراري وتحويل النفايات إلى طاقة مع استعراض تصور وزارة البيئة لسياسة الإدارة المتكاملة للنفايات المنزلية الصلبة. إلا أن المتابعين لهذا الملف، يعرفون أن مجرد إقرار دفتر شروط مناقصات التفكك الحراري، لا يعني أن المشكلة في طريقها إلى الحل. وأنه باختيار محرقتين وليس واحدة (كما أقرت اللجنة الوزارية مؤخراً)، مركزية ولا مركزية (بين بيروت وجبل لبنان)، يمكن إرضاء كل الأطراف.
فلا يزال هناك الكثير من الأسئلة حول الموضوع، لا سيما حول المناطق المخدومة والحجم والموقع المختار. وهذا الشرط الأخير ليس تفصيلاً. فمن تابع هذه القضية بعمق منذ بداية التسعينيات يعرف أن عملية اختيار مواقع المعالجة هي العقدة الأساسية التي تظهر في كل مرة، وهي التي تنسف أي خيار، مهما كان، صالحاً أم غير صالح. ولا نعتقد أن هذه الحكومة بما تمثل من كتل نيابية وسياسية، يمكن أن تجرؤ على تسمية الأماكن المختارة (بين المدور والكرنتينا) وهي على أبواب الانتخابات، لا سيما أن هذا الخيار، لم يأتِ من ضمن رؤية أو استراتيجية “معلنة”، تم صياغتها وطرحها ومناقشتها مسبقاً وعلناً، مع كلّ من يعنيهم الأمر.
أما إذا دخلنا في خيار التفكك الحراري، فلا أحد يعرف بعد طبيعة هذا الخيار ومواصفاته وشروطه، وهل سيتم حرق كل شيء، بالرغم من تحذيرات الاستشاري “ريمبول” حول القيمة الحرارية المتدنية لنفايات لبنان المنزلية التي تتجاوز نسبة النفايات العضوية فيها الـ50%، وكيف سيتم التوفيق بين مصالح من يبحث عن القيمة الحرارية من النفايات لا سيما الكرتون والبلاستيك، ومن يبحث عن المواد القابلة لإعادة التصنيع، مع العلم أن تلك القابلة لإعادة التصنيع هي نفسها تقريباً التي تشتهيها النار وأصحاب تكنولوجيا التفكك الحراري؟! وإذا كان هناك من يريد أن يخرج بتسوية حول هذا الموضوع، كما في مواضيع أخرى، على قاعدة تقاسم الحصص، فمن سيقوم بعملية الفرز، وما مصير النفايات العضوية والرطبة إذا بقيت عمليات الفرز والتخمير الفاشلة هي نفسها؟ وما ستكون “الرؤية” على المدى البعيد؟ غير تلك “المتعفنة” التي لم ترَ وجه الشمس منذ سنوات؟ فهل اختارت الدولة أو الحكومة أو وزارة البيئة أي اتجاه ستشجع على المدى البعيد؟ ومع من تمت مناقشة الاتجاهات؟
في مشروع القانون المقدم من وزارة البيئة منذ عام 2012، فُتحت كل الإمكانيات لمن يشاء، إمكانيات للحرق والطمر والتسبيخ والفرز… ولأي تقنية يمكن أن تستجد أيضاً. والسبب أن من وضع مشروع هذا القانون، استعجل الحلول وأجّل البحث في الرؤية الاستراتيجية (بعد سنة كما ورد في مشروع القانون) التي يفترض بها أن تحدّد الاتجاهات والمبادئ والأولويات والخيارات التي يُفترض تشجيعها وتلك التي يُفترض تجنّبها. مبرّر الاستعجال تاريخياً، هو أننا أمام أوضاع مأزومة وطارئة، بالإضافة الى نفاد قدرة مطمر الناعمة على الاستيعاب سابقاً، ونفاد قدرة مطمري الكوستابرافا وبرج حمود على الاستيعاب اليوم… والخوف من تراكم النفايات في الشوارع!
حسناً، أما آن الأوان للخروج من هذه الدوامة الطارئة التي استمرّت ما يقارب 30 عاماً؟! وما معنى الحديث عن عهد جديد والاستبشار بحكومة جديدة مع تسوية جديدة؟
بالرغم من كلّ ذلك، لا يزال بالإمكان السير بخطين متوازيين بين الطارئ والاستراتيجي. وإلا نحن متجهون إلى تفكك حضاري، بدل التفكك الحراري. فالحضارة التي نعرفها، القائمة على تمجيد مفهوم التنمية (غير المحدودة) وتعظيم مفهوم التقدم (بأيّ ثمن وبالرغم من كل شيء)، واعتماد “مزيج الطاقة” وبينها النووية الخطرة، والزيادة غير المتناهية للإنتاج والاستهلاك… ستطمرنا بنفاياتها. وإن أيّة تقنية، مهما كانت متقدمة، لن تستطيع أن تعالج مخلّفات التقنيات التي سبقتها، تماماً كما بات معروفاً أن لا مطمر نهائياً حتى الآن للنفايات النووية، ولا برامج مستقبلية للاعتماد عليها. كما لا معالجات نهائية لرماد محارق النفايات المنزلية ولا لغبارها السام جداً العالق في فلاترها (إذا تم تركيبها وصيانتها)؟!
وإذا كانت الطاقة النووية قد اعتُبرت يوماً ما رمزاً لقوة الدول وكبرها وحلم شعوب أخرى أقل قوة، سيأتي يوم، لن تعود ذات قيمة. سيأتي يوم ليس ببعيد، تصبح قيمة الطاقة ليس بقوتها بل بمدى استدامتها، أو بمدى عدم نضوب مصادرها. وتصبح قيمة الموارد بحفظها وليس بقدرتها على توليد الطاقة الحرارية. عندها يكون من راهن على حفظ الموارد وعلى المصادر النظيفة والمتجددة في رؤيته الاستراتيجية، قد استبق تدشين معالم حضارية جديدة، لا بدّ منها، إذا أراد النوع الإنساني أن يبقى موجوداً، وإذا أرادت الأنواع الباقية إعادة التوازن إلى الطبيعة والمجتمع والاقتصاد… والعلاقات الدولية، بعد أن نكون قد أجبرنا على استبدال أطر التنافس بأطر تعاون، تماماً كما يحصل بعد كلّ كارثة.