بات لكل آفة في لبنان، موسمها. للأسف! هل هكذا شاء «القدر» في العقود الأخيرة؟ أم هي غلبة أصحاب المصالح من جهة وهزيمة البيئيين العميقين من جهة أخرى؟ ومن يدفع الثمن في النهاية غير البيئة وكائناتها المستضعفة؟!
قديماً كانت المواسم ترتبط فقط بالخيرات التي تنتجها الأرض، من قمح وتوت وتفاح وعنب، إلخ… أو بفترات سنوية ثابتة لها علاقة مباشرة بالطقس والجو، كموسم الثلج مثلاً. أصبحنا اليوم نتكلم عن مواسم الحرائق والصيد! في مفهوم الموسم هناك عودة إلى دورة الطبيعة والحياة. وفيه ذلك الانتظار الجميل لأشياء وأجواء مرت علينا، تركت فينا خيراً وذكريات. كما أن في الموسم أيضاً شيئاً من سنّة الحياة، إذ من طبيعته أن يعود كل سنة، وتكون الكارثة عندما لا يعود. وها نحن صرنا في لبنان ننتظر حرائق الغابات وكأنها من طبيعة الأمور، كما أن قتل الطيور من تشرين الأول إلى شباط أصبح من ثوابت الحياة اللبنانية التي تربأ بأن ترى طيراً يطير حراً في سمائنا!
السأم البيئي
وها نحن الآن ندخل “موسم الصيد” منذ بداية هذا الشهر، بسلاسة و”روح رياضية”، وكأن ما كُتب للطيور في لبنان قد كُتب. لا الاعتراض يفيد، فهو لم ينفع سابقاً، ولا التذكير بالمعاهدات التي وقعتها الدولة اللبنانية يعطي أي جدوى، إذ أن المسؤولين عندنا جاهزون لتوقيع كلّ ما يُطلب منهم طالما أنهم يعلمون علم اليقين أن كل هذا يبقى حبراً على ورق وكلاماً بكلام.
لقد سئمنا نحن البيئيين، أو ما تبقى منا من مناضلين بيئيين لا يعملون على أجندات الجهات المموّلة، من الدفاع عن حقنا بطيور تزقزق في أحيائنا وغاباتنا وتطير في سماواتنا، وعن حق هذه المخلوقات الجميلة بالحياة. هذه الطيور التي ليست فقط جميلة، إنما هي في صلب معادلة التوازن الإيكولوجي الذي، عند اختلاله، تجتاحنا جحافل البرغش والذباب والحشرات التي تفتك بصنوبرنا وبأشجارنا المثمرة فنضطر إلى اللجوء إلى المبيدات التي ينتج عنها المرض والسرطان. وهذا ما يحصل الآن، من دون أن يحرّك الشعب ساكناً، ومن دون أن تقوم قيامتنا، نحن المدافعين عن الطبيعة. فلقد سلّمنا جدلاً بأننا لسنا في دولة القانون، ؤأننا خسرنا المعركة، وأن تجار السلاح وبائعي الماكينات الممنوعة التي تجلب الطائر المسكين، زائد تلك الألوية من الصيادين المدججين بالأسلحة الفتاكة والنواضير، كل هذا التحالف هو أقوى من النصّ القانوني “المعتّر” الذي لم يأخذ علماً به أي دركي أو مسؤول أمني في بلدٍ لا يلاحق فيه من يقتل طيراً أو يحرق شجرة أو يجرف نهراً أو يشفط رملاً.
البطولة على نسر صغير
في ذاك الأحد الذي كنا، ككل أحد في جمعيتنا، مجلس البيئة، نمضي نهارنا في الطبيعة القبياتية، لم نكن نكترث لأصوات بنادق الصيد التي لا حول لنا ولا قوة على إيقافها ولا على “عقلنتها”، فاجأنا نسر صغير “يكرج” أمامنا وكأنه أرنب يهرب منا، من بني البشر. استطعنا الاقتراب منه لنجده منهكاً، مصاباً في جانحه، جميلاً في إبائه وألوانه وهيبته، بالرغم من أوجاعه وانكساره.
كان ينظر بعين اللوم والاستياء والقرف من جنسنا البشري القاتل، وكأنه يقول لنا “لماذا كل هذا الحقد ضدنا، عندكم في لبنان؟”. لم نستطع أن “نلقي القبض” عليه، فهو بالطبع اعتبر أننا سنكمل فعلة الإنسان الذي أرداه أرضاً، وسنجهز عليه. تركنا وشأننا، وتركناه وعذاباته، ولسان حالنا ممتعض من انتمائنا إلى جنس يقتل كل ما هو حيّ، بفخر واعتزاز!
أين هو الاعتزاز في المواجهة بين هذا النسر الصغير وذاك الصياد الوغد الذي يزن، على أقل اعتبار، سبعين ضعف النسر المسكين؟ أين هي المفخرة في قتل هذا الطائر الذي لا يملك أي سلاح، من قبل إنسان طويل عريض مدجج بالآليات وببندقية «قناصة»؟ هذا النسر الذي يطير على مهل معتقداً بأن من هم تحته متمدنون مسالمون، والذي باستطاعة أي مبتدئ في “رياضة” القواص أن يصيبه. وهذا الصياد الذي درس العلوم والجيوميتري والباليستيك وناهز عمره الخمسين وجاء يتمرجل على هذا الطائر الضعيف وهو في الشهر الرابع أو الخامس من عمره!متى يستحي اللبنانيون؟
كان بالإمكان أن نعتبر أن في الصيد نوعاً من البطولة والاعتزاز لو تخيلناها مبارزة متوازنة، فيتواجه الصياد مع حيوان من فئته، فئة الدب أو الضبع، ويكون الحيوان يحمل رشاشاً، مثله مثل الصياد “البطل” الذي لا يفارق بندقيته والذي يحاول صد حيوان شرس يريد افتراسه. لكن الصيد في قرننا الواحد والعشرين اللبناني هو أقرب ما يكون إلى العمل الجبان الهمجي، عدا عن كونه آفة لا أخلاقية تدفع بشبابنا إلى معاداة الحياة. إذا كانت الدولة لا تستحي عندنا من هذه الظاهرة، فمتى يستحي اللبنانيون؟