يجمع اللبنانيون – وهو أمر نادر – على أهمّية إعمار سوريا، ودورهم المنتظر فيه.
منهم من يريد إعمار سوريا من لبنان، أي من بعيد من دون أي احتكاك، ومنهم من يُقنع نفسه والآخرين بأنّ بلاد الأرز هي المنصة الأوحد لذلك الإعمار، ولا بديل من مرافئها ومرافقها، ومنهم من ينتظر هذه الورشة الكبرى بنفس المنطق الذي ساد سابقاً، أي من “ينتظر جثة لتعبر النهر”، ويحدد موقفه وموقعه ودوره، حينذاك.
أما البعض الآخر، فيتذكّر اليوم سوريا وأهمّيتها، حين يتحسّس المصلحة القادمة والثروة الموعودة، في ما يسجّل غياب لافت عن هذا الملف للجهات الحاضرة اليوم بقوة في سوريا.
يتمتّع لبنان بمقومات جيدة ومزايا ملائمة، ليكون له دور في اعادة بناء سوريا، ولكن بداية وجب التنبّه الى أنّ هذا الأمر ليس بديهية او مسلّمة محسومة لا غنى عنها، وأنّ استثمار المقومات والمزايا يحتاج الى تأهيل وتحضير ومتابعة على مستويات عدّة، في وقت يبدو أنّ الصراخ والضجيج يملآن الفضاء دون أي دفع ملموس او حركة نافعة.
يمكن تقسيم الاهتمام بالإعمار في سوريا الى مستويات ثلاث:
1) إقتناص الفرصة عبر الوكالات وتأمين المواد، سواء بشكل قانوني او وفق آليات التهريب، أي منطق تحقيق الربح السريع والآنيّ المباشر، وهو اليوم ما يبدو أنّ العشرات او المئات يصطفون لأجله.
2) منطق الاستثمار او التوظيف، سواء في البنى التحتية والتطوير العقاري، ام في المشاريع الصناعية والزراعية، وهو بالتأكيد أفضل من الفئة الاولى.
3) مقاربة اقتصادية على مستوى الدولة ضمن رؤية اقتصادية عامة تستفيد من حجم المشاركة الممكنة في ورشة الإعمار ليتسنّى من خلالها، وعبر المردود المنتظر منها، تصحيح الخلل البنيوي في هيكل الاقتصاد الوطني كما في قطاعاته، وهو أمر مفقود ومغيّب حتى اليوم.
تتّفق مختلف التقييمات ذات المشارب المتناقضة على أنّ لبنان يعاني من خلل بنيوي في اقتصاده، وأنّ هذا الخلل عميق وشامل ومزمن، حتى بات اليوم، بلداً مكشوفاً على الاستيراد بشكل كامل، وذا بنية غلاء وتشريعات متناقضة، لا رابط بينها، تمنع الانتاج فيه وتطرد التوظيفات الحقيقية، وبدين عام يتجاوز كل المعايير المقبولة، وبوتيرة متزايدة لخدمته تعيق كل تطوّر.
الخروج من مثل هذه المعضلة، أي من الريع الى الإنتاج، كما من الخلل البنيوي الى التصحيح، يكون عادة:
أ) إمّا بوضع رؤى وخطط بعيدة الأهداف يحتاج نجاح التحولات فيها الى أموال طائلة “لفكّ وتركيب” كل البنى القائمة، وهو عادة ما يحتاج الى برنامج محلي ودولي، غير متوفر الآن..
ب) حصول الإنفجار لأنّ الوصول الى الطريق المسدود وتهدّم الهيكل، هو بحد ذاته شكل من أشكال التصحيح، وهو عادة ما يكون كارثيّاً لأنه يُدفِّع الفئات الأكثر ضعفاً معظم الخسائر، ويتيح المجال للفئات العليا من المتحكّمين بتهريب ثرواتهم ومن ثمّ التحكّم بإعادة البناء واحتكاره، وهو ما ليس مطروحا بفعل استمرار وجود آليات ضخ الاوكسيجين في الجسد المعتلّ.
ج) توفّر فرصة لضخّ مالي وخلق نشاطات اقتصادية خارج الآليات الداخلية والعادية، للاقتصاد الوطني، وهي توافرت مرتين خلال ربع قرن:
المرة الأولى، مع إعادة إعمار لبنان، ولكنّ الطبقة السياسية، بدلاً من استثمارها لتقويم الخلل وإطلاق اقتصاد وطني مستند الى ركائز قوية ويتماشى مع التغييرات التي حصلت خلال الحرب في لبنان وفي محيطه، لجأت الى نفس الخيارات السائدة سابقاً، ما عمّق الخلل، وكرّسه في الهيكل الأساسي للاقتصاد، وكذلك قطاعاته.
أمّا المرة الثانية ـ الاقل اهمية ـ هي مع الإقرار بوجود أزمة بنيوية لأوّل مرّة مع مطلع الألفية الثانية، والتي ترافقت مع أحداث 11 ايلول 2001 في اميركا، وكان من نتيجتها وصول فتات أموال عربية الى لبنان، أكبر من حاجته، أتاحت تجديد آلية التمويل، إلّا أنّه كان يمكن استخدامها في عملية تصحيح بنيوي، ما لم يحصل.
اليوم، تفتح ورشة إعمار سوريا. وبقطع النظر عن الأرقام المتداولة ومدى دقّتها وصحّتها، بين 200 الى 350 مليار دولار، تفتح الباب واسعاً امام توفير الفرصة للبنان لتكون وفقا لحجم المشاركة فيها، عاملاً رئيسياً لتصحيح الاعوجاج، وإعادة الإنتظام الى بنية قطاعاته، عبر التفتيش فعلاً عن مكامن القوة في الاقتصاد، ومكامن الضعف فيه، ومدى إمكانية تقديم قيمة مضافة للاقتصاد السوري تُوفِّر عليه كلفةً ووقتاً وترتدّ على الاقتصاد اللبناني تصحيحاً وقوةً ومناعة. الأمثلة عديدة، وإن كان أبرزها ميادين قوة لبنان وهي، القطاع المصرفي، التأمين والتكنولوجيا والاتصالات.
لا يمكن إطلاق نظريات حول دور لبنان في إعمار سوريا، مباشرة او في التحايل والتذاكي، عبر دول وهيئات وشخصيات صديقة لسوريا، قبل البدء أولاً بمتابعة هادئة وحقيقية لما يجري اليوم من تحضيرات لورش الاعمار، تشريعياً، وتنفيذياً ومؤسساتياً. فحال اللامبالاة والتذاكي قد تُفقد لبنان اليوم بعض ركائزه في سوريا، وفي الطليعة منها مصارفه العاملة هناك، حيث أنّ المطوب منها بات كبيراً، وهو ما تعكسه التعاميم الاخيرة لمصرف سوريا المركزي، ما صدر منها وما يُحضَّر.
أمام الدولة اللبنانية فرصة كبرى ودور، في لبنان اولاً ومن ثمّ في سوريا، لتضع رؤيتها الاقتصادية، ومقاربة مشاركتها في الإعمار، وإلّا فإنّنا نكرّس تاريخنا الاقتصادي.. هروب الى الأمام، أو تأبيد للفوضى، أو دفن الرأس في الرمال.
(بالتعاون مع صحيفة الاتحاد)