تآلف أجدادنا مع بيئتهم، تصالحوا معها، تكيفوا مع كائناتها، وما خاضوا حرب إبادة ضد نوع لمجرد أنه هدد زراعتهم ومواسمهم، واعتمدوا مثلا شعبيا ظلوا يرددوه: “لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم”، كانوا يقتلون المفترسات إن دنت من ممتلكاتهم، لكن ليس حبا بالقتل، وإنما ليحموا الرزق وهو كل ما يملكون، لم يمارسوا القتل لمجرد القتل، لم يتخذوه “هواية”، وهم يكابدون شظف العيش ليبقوا في منأى عن الجوع والعوز، ولذلك لم يكن ثمة نوع مهدد بالانقراض بما فيها الذئاب والضباع، خلافا لما نشهده اليوم، وظلوا أمناء على قيم في حدود حماية لقمة العيش، فلا مات الذئب ولا فنِـــيَ الغنم!
من عاش في القرى النائية قبل عقود ثلاثة، يتذكر “خم الدجاج”، وهو عبارة عن بناء حجري مسقوف فيه فتحة يدلف إليها الدجاج مساء، ومن ثم تقفل بباب من حديد، لتكون في منأى عن الثعالب وسائر المفترسات، وفي الصباح يفتح الباب لـ “يسرح” الدجاج في فسحة مسيجة أيضا، أما اليوم، فمن عادوا ليقتنوا الدجاج في قراهم يتركون الأمور على غاربها، غير آبهين بحماية طيورهم من الثعالب، ويفاجأون بأن هذه المفترسات هاجمت “الخم” بحكم غريزتها، فلا يتوانون عن قتلها.
والافت للانتباه ايضا أننا في زمن الإنقراض هذا، ما عاد أبناء جيلنا يميزون ما بين الثعلب والذئب وابن آوى، حتى أن هناك أنواعا من الحيوانات البرية لم يسمعوا عنها من قبل، ولم يتسن لهم مشاهدتها وهذا الموضوع في غاية الأهمية خصوصا أن من يقتل هذه الحيوانات يقدم على ذلك لجهله لها ولأسلوب حياتها وأهميتها.
استباحة البيئة
وفي هذا المجال، كثرت في الآونة الأخيرة ظاهرة قتل الثعالب، وفي أحيان كثيرة تعذيبها وحرقها وتسليط الكلاب عليها بعد أسرها، فأي عاقل لا يعلم أن الدجاج جاذب للثعالب! وأن الأمر يقتضي حماية الدجاج من “ضيف” غير مرغوب فيه، بدلا من قتله ونشر صوره مقتولا على وسائل التواصل الاجتماعي.
فوجئنا أمس بقتل إبن آوى الذهبي ليضاف إلى قائمة اللواحم المقتولة خلال هذا العام، وكانت الصور صادمة، أما التعليقات فحدث ولا حرج،جهل بنوعه والجميع اعتبره ثعلبا، سخرية تعكس انعدام الوعي تغذي نوازع القتل والشر واستباحة البيئة، والأمر لا يقتصر على حيوان مقتول فحسب، وإنما يتعدى ذلك إلى ما يشرع قتلنا لكل ما هو حي دون ضوابط رادعة، غير آبهين بما يترتب على هذا الأمر من تبعات، فالثعلب يهاجم خم الدجاج وهو من اللواحم وهي تقتات على القوارض وتشكل حلقة مهمة ضمن سلسلة التوازن المطلوب في البيئة.
برسم الجهات المعنية
وفي هذا السياق، تابع greenarea.info واقعة القتل هذه في إحدى البلدات الجنوبية، واتصل بناشر الصور (ع. م)، فأشار إلى أن “صديقي سمع صوتا صادرا من (قن) الدجاج، وكان في كل مرة يجد دجاجة أو اكثر مقتولتين”، وأضاف: “عندما توجه إلى مصدر الصوت فوجىء بالثعلب داخل (القن)”، ولفت إلى أن “الثعلب هاجمه فاضطر للدفاع عن نفسه فهوى عليه بضربة بعصا تسببت بقتله، وبأن الثعلب هاجمه وهو بحالة حرجة بسبب اصابة في وجهه ، وهذا كل ما أعرفه”.
هذه الرواية تحمل الكثير من المغالطات، فبعد أن عرض المدعو (ع. م) فعلة صديقه وصور ابن آوى مقتولا كتب “بعد ما اعتدى على الدجاجات تم الإقتصاص منه” ثم عاد وأضاف على منشوره بأنه ليس الفاعل وبأن الفاعل مصاب وقد هاجمه هذا الحيوان والحق به الأذى علما أن هذا الحيوان اللاحم ضرب به المثل بالخوف إلى جانب تمتعه بذكاء فطري أيضا، نظرا لقدرة على التمويه والتخفي، وهو دائم التوجس خوفا من إنسان أو مفترس أكبر منه.
وبالتالي، لا نملك ما يؤكد حقيقة الأمر، وحدها القوى المعنية مخولة إجراء تحقيق وتبيان الحقيقة .
مسالم جدا ولا يهاجم
ولمعرفة نوع هذا الثعلب اتصل greenarea.info بالخبير في مجال البيئة والتنمية المستدامة الدكتور وديع فرح، فأشار إلى أن “الحيوان المقتول ليس ثعلبا، وإنما (ابن آوى الذهبي) واسمه العلمي canis aureus، ينتمي الى فصيلة الكلبيات”، وقال: “يشبه الذئب الى حد كبير ولكن حجمه أصغر وكذلك حجم رأسه، وهو مسالم جدا ولا يهاجم، إلا اذا كانت الانثى مع جرائها تهاجم فقط للدفاع عنها عند احساسها بالخطر”.
وأضاف فرح: “ينتشر ابن آوى في منطقة آسيا الغربية والجنوبية والشرق الأوسط وصولا الى اوروبا الشرقية، وهو بيس نادر الوجود في لبنان،إذ يتوزع في كافة الاراضي اللبنانية ويتكاثر بسرعة نظرا لندرة عدوه الطبيعي الذئب، وتراجع عدد الجوارح”.
وبحسب فرح “إنه يقتات على القوارض والبرمائيات متل الضفدع وحيوانات أصغر منو حجما، وطبعا يتغذى أيضا على الفاكهة والخضار”، ودعا “المزارع إلى أن يضع سياجا محكما لـ (القن) ليبقي الدجاج في منأى عن ابن آوى والثعالب”.