أرسل لي الصديق والباحث الهيدروجيولوجي الدكتور سمير زعاطيطي، وهو خبير مهتم ومتابع لتلوث نهر الليطاني وبحيرة القرعون، وباحث في رؤية عقلانية وواقعية لاستثمار الثروة المائية العذبة في لبنان، أرسل لي هذا الصباح رابط لخبر منشور في موقع “العهد” الإخباري يقول “لأسباب مجهولة، نبع لـ 60 بلدة من صالح للشرب إلى ملوث”.
نبع عين الزرقا في منطقة البقاع الغربي، يقع على مجرى نهر الليطاني، حوالي 6 كيلومترات بعد جدار سد القرعون لناحية الجنوب، يعتبر من أكبر وأغزر الينابيع على طول مجرى نهر الليطاني في مساره الجنوبي، أي جنوب جدار السد. تتراوح غزارة هذا النبع بين 1 و4 متر مكعب / بالثانية، وذلك حسب الفصول وشح أو غنى مواسم الأمطار. أقيم على هذا النبع مشروعا لتغذية عدد كبير من البلدات والقرى في منطقة البقاع الغربي بالمياه العذبة. وكانت مياه هذا النبع صافية رقراقة نظيفة وصالحة للشرب.
إنه خبر مفجع أن تعرف أن مياه نبع عين الزرقا قد تلوثت، ووصل إليها التلوث الرهيب الذي يحيط بها من كل جانب. ومن المحزن حقا أن جاءت لحظة تلوث هذا النبع ومياهه. هو تلوث مفجع، ولكنه ليس مجهول الأسباب. بل أن أسباب هذا التلوث، الذي تريث بالظهور حتى الآن، هي الأكثر وضوحا لمن تابع ويتابع الحالة الكارثية للتلوث، التي تراكمت عبر السنين، وتضرب عميقا واتساعا في نهر الليطاني وبحيرة القرعون وحوضهما.
لقد تابعنا مسار نهر الليطاني من جدار سد القرعون حتى المصب في القاسمية شمال صور، ضمن مهمة كلفنا بها المحامي العام البيئي في النبطية القاضي نديم الناشف. وقد جردنا كل هذا المسار مترا مترا، ووصفنا حالته المورفولوجية وما أصابها من تعديات وتغييرات نتيجة التدخلات الفجة والقاسية لمجموعة عوامل، كان أهمها جرف الرمول والطين والكمي إلى مجراه، نتيجة النشاط غير المراقب لعدد من المرامل على ضفافه، وفي أعالي الهضاب حيث مواقع المرامل مربوطة بمجرى النهر عبر الينابيع أو مجاري السيول الشتوية. وقمنا أيضا بمتابعة مجراه من جدار السد حتى مصبه، وأحصينا كل مصادر التلوث، التي تصب فيه مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.
كل الحقائق والوقائع والمشاهدات والمعطيات تم جمعها وتحليلها ومحاكمتها ومناقشتها في تقرير مفصل، خلص أيضا إلى العديد من النتائج والتوصيات.
نذكر أن المسار الأسفل للنهر، أي مساره الجنوبي حتى المصب، لم يخضع لأي دراسة أو بحث أو تقرير قبل تاريخ تقريرنا. فلم نقع على أي مرجع سابق يتضمن درسا لهذا الجزء من النهر، على عكس الجزء الأعلى، أي من المنبع حتى سد القرعون، الذي أشبع درسا وتحليلا، ووضعت له عشرات الدراسات والأبحاث والتقارير والمخططات التوجيهية.
إن تقريرنا الذي أنجز في كانون الأول (ديسبمر) 2016، أي قبل عام بالتمام والكمال، يعتبر بحق أنه أول تقرير يوضع عن المسار الجنوبي لنهر الليطاني. وهو وإن لم يدَّع السعة والكمال، بل على محدوديته، ومحدودية الإمكانات المادية، التي وظفت لإنجازه، يمكن اعتباره وثيقة أولية كافية لأخذ فكرة حقيقية وواقعية عن حالة النهر، وعن أسباب ومصادر التلوث التي تصب فيه مباشرة أو بشكل غير مباشر.
إن هذا التقرير قد سلمته إلى القاضي المحامي العام البيئي في النبطية، وسلمته باليد لدولة رئيس مجلس النواب، وسجلته في ديوان مقام رئاسة مجلس الوزراء، موجها إلى دولة رئيس مجلس الوزراء، باعتباره رئيسا للجنة الوزارية لنهر الليطاني. وقد قمت بنشر ملخص عنه في موقعنا greenarea.info، إضافة لنشر عدد كبير من المقالات بموضوع تلوث الليطاني وأسبابه ومصادره ومخاطره.
هذا التقرير، يتضمن فصله الأول، المتعلق بوصف مورفولوجيا النهر في مساره الأسفل (أي الجنوبي من جدار السد حتى المصب)، وصفا لمجرى النهر وشكله، والتدخلات البشرية الكبرى على نظامه، ووصفا لواقع مجرى النهر خلال فترة الزيارات الميدانية، التي قمت بها في الفترة ما بين 19 تموز (يوليو) و 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2016، ومناقشة للتغيرات الواقعة على مورفولوجيا النهر، أسبابها وأثرها على توازن منظومته البيئية المائية.
يعرض فصله الثاني لمصادر تلوث النهر، حيث يدرس أربعة مصادر محتملة لهذا التلوث، وهي وفي المقدمة منها، مياه الصرف الصحي المبتذلة، المرامل ومغاسل الرمول، المكبات العشوائية للنفايات، واخيرا الدور المحتمل لمزارع الدواجن الموجودة في حوضه.
ودرس الفصل الثالث من التقرير مستويات التلوث في مياه النهر وترسبات قعره ومجراه، وذلك عبر تحاليل مخبرية لعينات من مياهه وترسباته، ومناقشة ومحاكمة نتائج التحليل المخبري، وخلاصاتها.
وعرض الفصل الرابع لمناقشة خطة المعالجة واستراتيجية الحل، متضمنا ملاحظات على خطة الدولة لمعالجة تلوث نهر الليطاني، التي أقرتها في المجلس النيابي بقانون – برنامج بكلفة إجمالية تصل إلى ما يزيد عن 850 مليون دولار أميركي.
وأخيرا تضمن التقرير خاتمة هي عبارة عن عصارة الإستنتاج حيال تلوث نهر الليطاني وبحيرة القرعون والثروة المائية العذبة في لبنان عموما.
في النقطة 3 من الفصل الأول بشأن واقع مجرى النهر خلال فترة الزيارات الميدانية، وفي النقطة (أ) منها تحديدا، يشير التقرير إلى “أن حوالي 2 كلم من جدار السد باتجاه الجنوب هي مجرى جاف خالي تماما من المياه”. وفي النقطة (ب) يقول التقرير حرفيا: “تصب مجارير بلدة سحمر مباشرة في مجرى النهر الجاف من مياهه، وتجري فيه لمسافة حوالي 3 كلم محدثة نهرا من المياه المبتذلة، حيث يتم إشباع مجراه بالمياه الملوثة. بالإضافة إلى مخاطر تلويث مجرى النهر، ومياه النهر عند سريانها فيه في فصل الشتاء، أو عند فتح مخارج جدار سد القرعون، هذه المياه المبتذلة عالية التلوث تهدد بتلويث المياه الجوفية في حوض النهر وتحت مجراه مباشرة.”
إذن أسباب تلويث المياه الجوفية في حوض النهر وتحت مجراه، في منطقة تقع على ظهر نبع عين الزرقاء بكيلو متر واحد فقط، معروفة وواضحة للعيان. وإن توقع تحول التهديد بالتلوث إلى واقع تلويث حقيقي هو مسألة وقت فقط، وتوافر بعض الشروط لكي تتحول مياه النبع الصافي في عين الزرقا الصالحة للشرب، إلى مياه آسنة وملوثة.
في النقطة 4 من الفصل الأول، مناقشة التغيرات على مورفولوجيا النهر، أسبابها وأثرها على توازن منظومته البيئية المائية. نشير في هذه الفقرة إلى سببين رئيسين للتغيرات الكبيرة على مجرى النهر، أولها سوء إدارة الموارد المائية، وثانيها تراكم الترسبات الرملية والطينية والطميية على طول مجراه.
فيما يتعلق بالسبب الرئيس الأول، سوء إدارة الموارد المائية، يقول التقرير حرفيا: “نحن نعتبر أن إبقاء مجرى النهر جافا على طول عدة كيلومترات يشكل تدخلا فضّاً وقاسياً ضد سلامة وصحة منظومة النهر البيئية المائية. ويحصل هذا نتيجة سوء إدارة للموارد المائية لمياه سد القرعون ومياه نهر الليطاني عموما، إذ يتم التعامل معه من قبل كل السلطات المائية المعنية
باعتباره كمية مياه متحركة في “الفضاء”، لا باعتباره منظومة بيئية مائية حيوية، يرتبط بها عالم متكامل من الحياة المائية والبرية والمصالح للعديد من السكان والمجتمعات المحلية. وبتجاهل كلّيِ لدينامية هيدروجيولوجية النهر، باعتبارها حركة حيوية دينامية بين مياه النهر السطحية المتحركة
في مجراه بعد إشباعه وريِّه الكامل، وبين المياه الجوفية في حوضه وتحت مجراه وبموازاة مساره.
تتجلى هذه الدينامية بتبادل عالي الأهمية في حياة الأنهر وسلامة اتزانها، بين المياه السطحية الجارية وبين الأحواض الجوفية، حيث تغذي المياه السطحية للنهر أحواضه الجوفية في أماكن معينة، وفي أماكن أخرى، تتفجر المياه الجوفية ينابيعا تغذي مياه النهر السطحية، ويستمر هذا التبادل المائي (الهيدروجيولوجي( على مدار الزمن وعلى امتداد مجرى النهر وحوضه.
إن سوء إدارة الموارد المائية لسد القرعون ولمياه نهر الليطاني شكل واحدا من أسوأ التدخلات، التي شوَّهت مورفولوجية النهر وخرَّبت اتزانه البيئي وساهمت في إعدام الحياة فيه.
نسجل على سلطات المياه المعنية إنتماءها إلى نظريات بائدة في إدارة الموارد المائية والأنهر والمنظومات البيئية النهرية، فهي لا ترى في النهر إلا كمية من المياه، تحركها كيفما اتفق، دون مراعاة لأي معايير أو مفاهيم بيئية علمية أو تنموية مستدامة.
هي تحمل نظرة مبتورة حيال المياه، نظرة قوامها “الكمِّية”، لا تكترث لما يصيب مواردنا المائية، السطحية والجوفية، بما فيها تلك المتفجرة على كل الارتفاعات وفي كل المناطق، من تلوث فظيع من كل المصادر. وهي تنظر إلى المياه كمعطى كمِّي، منفصل عن الطبيعة التي تنظِّم دورته، وعن
ما تكوِّنه في أشكال وجودها من منظومات متكاملة، تتكامل وتتداخل مع منظومات أخرى، هي في حالة تفاعل لا يهدأ ولا ينتهي.
هل تمَّت المحافظة على وحدة النهر المورفولوجية كمنظومة واحدة متكاملة ومتتابعة ومستمرة؟
بالتأكيد ليس كذلك، حيث قُطِّعت أوصاله إربا، وخُرِّبت مجاريه، ودُمِّرت منظوماته، وتدهورت حالته، ليس فقط عبر تلويث مياهه، بل بتغيير كبير في طبيعة مجراه ومحيطه”.
في الفصل الثاني من التقرير، المتعلق بمصادر تلوث نهر الليطاني، نضع في المقام الأول الصرف الصحي، أو المياه المبتذلة التي ترمى مباشرة في مجرى النهر، وبشكل غير مباشر في حوضه. يصنف التقرير في هذه النقطة ويميز بين المياه المبتذلة التي تصب مباشرة في مجراه، وتلك التي تلوث حوضه، ويحتمل أن تصل إلى مجراه خلال فصل الشتاء، وتلك التي تلوث حوضه بشكل غير مباشر. يقول التقرير في النقطة الأولى بشأن مياه الصرف الصحي والمياه المبتذلة، التي تصب مباشرة في مجراه حرفيا ما يلي: ” تشكل مياه الصرف الصحي المبتذلة أهم مصدر للتلوث العضوي والجرثومي والكيميائي لنهر الليطاني في حوضه الأسفل، أي من سد القرعون حتى مصبه.
لا بد من التأكيد بوضوحٍ كافٍ إلى أننا نعتبر أن حوض النهر هو المقصود بالدرس والمتابعة، وليس مجرى النهر حصرا، إذ أن درس مسألة التلوث للموارد المائية السطحية، لا يمكن اختصارها بدرس مجرى النهر، بل ينبغي أن يمتد الدرس إلى حوض النهر، أي كل الأراضي التي تقع على ضفتيه وضفاف روافده المسلطة باتجاهه، ويحدها خطوط المرتفعات والجبال والهضاب المحيطة به، بحيث يشتمل الحوض على كل الأراضي
والمنحدرات والسهول الواقعة في جهتي الإنحدار تجاه الوادي الذي يجري فيه النهر. وهكذا، وفق هذا التعريف العملي لجغرافية الحوض، تكون مساحة الحوض الأسفل لنهر الليطاني حوالي 500 كلم 2 أي حوالي
خمس مساحة حوض الليطاني بمجمله في قسميه الأعلى والأسفل.
على ضوء زياراتنا الميدانية ومشاهداتنا الحسية وما أخذناه من صور وفيديوهات خلال هذه الزيارات، وعلى ضوء متابعاتنا الحثيثة لهذا الأمر من مختلف المصادر، يمكننا أن نصنِّف مصادر التلوث بمياه الصرف الصحي المبتذلة إلى فئات خمسة، نتوقف عند أولها بالتفصيل:
– بلدات وقرى لديها شبكات مجارير للصرف الصحي، وتفتقر لمحطات معالجة للمياه المبتذلة، وتصب تدفقاتها من المياه المبتذلة بشكل كامل ومباشر في مجرى النهر، إن في قسمه الجاف) على بعد حوالي 2 كلم من جدار سد القرعون (كما هو الحال في بلدة “سحمر”، أم في مجراه المائي مباشرة كما هو الحال في بلدة “يحمر البقاع”. وهذه التدفقات هي هامة لناحية كمياتها، نظرا لكبر هذه البلدات وعدد سكانها. وهذا ما لاحظناه بالفعل، حيث أن تدفقات “سحمر” تشكل “جدولا” من المياه المبتذلة يبلغ
طوله حوالي 3 كلم أو أكثر في مجرى النهر نفسه، كما سبق وأشرنا في سياق هذا التقرير. ما يميز هذه التدفقات أنها مستمرة على مدار السنة بتلويث مباشر لمياه النهر ومجراه. إن تدفقات بلدة “سحمر” من المياه المبتذلة، التي تصب في قسم جاف من مجرى النهر، تهدِّد مباشرة بتلويث الحوض الجوفي من المياه تحت مجراه وفي حرمه، من جهة، ومن جهة أخرى، تتسبب بنقل كميات كبيرة من المياه المبتذلة والتلوث المتراكم في مجرى النهر إلى كل مسار النهر الجنوبي من سحمر وحتى المصب، أي تقريبا كل القسم الجنوبي لنهر الليطاني، في كل مرَّة تفتح معها مخارج جدار سد القرعون لتضخ مياه من البحيرة في مجراه لتنظيم مستوى المياه في البحيرة أو لأي هدف آخر. وهذا ما حصل بالفعل خلال شهر أيلول 2016، دون سابق إنذار، حيث استمر تدفق مياه البحيرة في مجرى النهر لعدة أيام، بحجة “التخفيف” من تلوثها، فكان أن تسببوا بتلويث كامل مجرى النهر جنوب سد القرعون بشكل كبير جدا.
يشكل التخلص المباشر من مياه الصرف الصحي دون أية معالجة مسبقة في مجرى النهر ومياهه، واحدا من أكبر أسباب التلوث الجرثومي لمياه النهر، وللترسبات المتراكمة في تخته من رمول وطين وطمي.
في الفصل الرابع المتعلق بخطة واستراتيجية الحل، وفي نقطته الأولى حول الملاحظات على خطة الدولة لمعالجة تلوث نهر الليطاني، يقول التقرير بشأن الصرف الصحي ما يلي حرفيا: ” كان من الأصوب أن يتم أولا تحديد تفصيلي للمشاريع المنوي تنفيذها في إطار وقف كل أسباب التلوث
التي ترمى في النهر أو في حوضه. ولا سيما مشاريع معالجة الصرف الصحي التي تصب منذ سنوات طويلة ولا تزال بشكل مباشر في النهر أو غير مباشر في حوضه، من كل القرى والبلدات والمدن الواقعة في حوض الليطاني في قسميه البقاعي والجنوبي.“
إذن أسباب فاجعة تلوث نبع عين الزرقا غير مجهولة، وهي واضحة كل الوضوح، وجرى الحديث عن أسباب المخاطر ومصادرها، وأسباب ومصادر التهديدات، التي تحولت، بفعل المماطلة والتأخير في أخذ إجراءات جدية وسريعة للمعالجة، إلى واقع كارثي تجلى بتلويث نبع عين الزرقا في البقاع الغربي. وهنا نضيف إن الإستمرار بالمماطلة والتأخير والصرف العشوائي للأموال المرصودة لمعالجة تلوث نهر الليطاني في غير مواردها واتجاهاتها الصحيحة والفعالة، سوف يؤدي إلى مزيد من الكوارث في تلويث ينابيع أخرى موجودة على طول مجرى النهر حتى مصبه. إن الإتجاه السليم والوحيد لصرف الأموال يكون بقصد معالجة هادفة لأسباب ومصادر التلوث، أي في بناء وتشغيل محطات معالجة للمياه المبتذلة معالجة فعالة تكون ثنائية على الأقل لوقف التلويث الخطير للنهر وحوضه، والإبتعاد عن تبذيرها وهدرها في مجالات غير فعالة، لا تؤثر لا من قريب أو بعيد على تخفيف التلوث المتدفق في مجرى النهر وحوضه.