لماذا تمعن الدولة في رفض الآراء العلمية حول السدود السطحية في لبنان؟ سؤال طالما تردد وظل إلى الآن دون إجابة، ففي الوقت الذي بدأت فيه الكثير من الدول في العالم هدم سدودها ووقف مشاريع السدود في حدود ما تمليه الضرورة، وفي حين أثبتت السدود السطحية بالتجربة الحسية أنها غير ذي جدوى، خلافا لما كان قائما في منتصف القرن الماضي، حيث ارتبطت السدود بوفرة المياه والرفاه الاقتصادي، ما يزال المسؤولون في لبنان يمارسون التورية، بالرغم أن كافة السدود القائمة والمشادة حديثا أثبتت عدم جدواها، وشكل بناؤها فضيحة من سد القرعون الذي “يزرع” الموت مخلفا أضرارا تفوق بكثير قيمته الاقتصادية، إلى سد شبروح الذي يعد كارثة بكافة المعايير العلمية، إلى سد القيسماني وبريصا، فيما نحن موعودون بكوارث أكبر وأشد مع مشاريع السدود المقررة، ولا سيما منها سد جنة وسد بسري.
لقد تصالح الغرب مع مصالحه، وقدم مطالعات نقدية لتجربة السدود، وخلص إلى أن هذه المنشآت الضخمة أضرارها على البيئة تفوق بأضعاف منافعها الاقتصادية، أما نحن في لبنان فلا نزال نعيش عصر الخمسينيات من القرن الماضي، معتقدين أن السدود ستؤمن حلولا لمشكلاتنا المائية.
د. زعاطيطي: استثمار المياه الجوفية
لقد أثبتت الدراسات أن تربة لبنان غير ملائمة لإقامة السدود بسبب لجهة التشققات وطبيعة الصخور، وهي تُبنى لحجز سواقٍ أو مجارٍ مائية على سطح صخور كربوناتية ذات نفاذية عالية تسمح بتسريب المياه السطحية عبر الكسور والشقوق والمغاور وفراغات التذويب، فيما ثروة لبنان المائية تتمثل في مصادر مياهه الجوفية، أي أن ليس ثمة موجب لتدمير معالمنا الطبيعية وما تزخر به من إرث طبيعي وثقافي.
في هذا السياق، لطالما أشار الخبير الهيدروجيولوجي الدكتور سمير زعاطيطي إلى “فشل ثلاثة سدود حتى الآن في تجميع المياه (بريصا في سير الضنية، القيسماني فوق حمانا وبلعة قرب تنورين)”، وعزا الأمر إلى أن “قواعدها الإسمنتية المرتكزة على صخور كربوناتية مليئة بالفراغات والشقوق، لا يمكن عمليا أن تشكل عازلا يحول دون إتمام العملية الطبيعية المتمثلة بتسرب المياه إلى العمق الصخري تحت القواعد”.
وأشار أيضا الى نقطة مهمة ويعلمها الجميع وهي إن لجنوب بمختلف مناطقه يشرب المياه الجوفية ويستخدمها، ومنها: “صور، صيدا، النبطية، مرجعيون، الخيام وكل القرى الحدودية النائية ومعها القوات الدولية الموقتة العاملة في لبنان (يونيفيل) “، مما يثبت أن ثروتنا المائية هي في استثمارنا المياة الجوفية وهذا ما ينصح به الخبراء الأوربيون عامة والفرنسيون بشكل خاص وحتى الأميركييون تخلوا عن سياسة السدود ولجأوا إلى المخازن الصخرية للمياه.
سد بلعة
ووضع الدكتور زعاطيطي بين أيدينا صورا تثبت الفراغات العميقة المكتشفة داخل سد بلعة ومحاولات الترقيع وسد الفجوات والمغاور، وعلق قائلا لـ greenarea.info بأن “الذي حدد موقع سد بلعه بعيدا فقط 250 مترا عن بالوع بلعة الضخم “عبقريا” غير مطلع على الجيولوجيا بالمرة هو مهندس باطوني سطحي جاهل ويجب محاسبته”.
وأضاف: “إن ثمة مؤامرة مبكلة على الخزينة وأموال المكلف اللبناني من الفاسدين الكبار، إن متعهد سد بلعة الآخر بعد ما كشف على الفراغات العمودية (البواليع الضخمة) ظن بعبقريته إنه سيستطيع إغلاقها بالإسمنت ولم يقم بإستشارة أصحاب الخبرة والمختصين، ولم يقم بنشر الصور بل منع زيارة موقع السد حتى لا يفتضح أمره، كما أن المشرف على السد (مجلس الإنماء والإعمار) الممثل بمهندسيه لم ينبسوا ببنت شفة على ما شاهدوه داخل موقع بلعة”.
وقال: “لو عرف المتعهد أو سأل متعهد سد بريصا أو القيسماني فوق حمانا عن البواليع مع تفرعاتها في العمق الصخري غير المعروفة، لما وقع بنفس المشكلة، فقد كانت سدودهم مخروقة ولم تخزن نقطة ماء، ولو سأل أحدا من الجيولوجيين بعد إزالة الأتربة وكشف الفراغات، لعلم أن البواليع هي مسارب حقيقية نحو المنطقة المشبعة للمخزن الكارستي”.
وأشار زعاطيطي إلى أن “بواليع سد بلعه وجد قعرها النهائي في آبار تنورين وبشتودار القريبة من موقع السد على أعماق حوالي 470 – 450 مترا”، وتساءل: “كيف حدد (العبقري) حجم وكمية الإسمنت لسد البواليع وهو لا يعرف حجم الفراغات وأبعادها؟”.
وتابع: “لو أن المتعهد شريف وعلمي ونزيه لأعلن منذ البداية بعد كشف الأتربة عن الموقع عن وجود فراغات لا علاج لها واكتفى بتقاضي أتعابه، ووفر هدر مبالغ كبيرة على الخزينة اللبنانية”.
وأردف زعاطيطي: “بعد سنوات من المكابرة بوجه الطبيعة وعمليات الترقيع السخيفة علميا وهندسيا، إنتصرت الطبيعة وفشلت كل الجهود للوقوف بوجه مسارات المياه (سطحية وجوفية)، فالعلم قال بلسان كل الخبراء الجيولوجيين الفرنسيين والأجانب أن جبالنا هي مخازن حقيقية فقط للمياه الجوفية ولم ينصحوا بالتخزين السطحي وإن من سيستلم مصيبة سد بلعه ويدفع أتعاب وكلفة العمل الإجرامي الترقيعي لقاعدة السد هم شركاء في الجريمة القائمة على شعبنا اللبناني، ومن سيكمل بسياسة السدود الخرقاء المعيبة لعلمائنا ومهندسينا وخبرائنا هو أيضا مجرم بحق الوطن والمواطن”.
وأشار زعاطيطي الى مقال نشره قبل ايام في صحيفة “النهار”، وهو خلاصة ندوة علمية لخبراء فرنسيين حول مشروع سد بلعة،جاء فيه : “بمراجعة الإنترنت، خصوصا محرك البحث (غوغل)، حول السدود والطبقات الكربوناتية الكارستية، وجدنا هذه المحاضرة العلمية المقدمة من شركة ARTELIA الفرنسية خلال ندوة منشآت السدود الفرنسية في 8 و9 نيسان (أبريل) 2015، وسأكتفي بعرض ملخّص للمعطيات العلمية للورقة من دون أي تعليق مني حفاظا على الأمانة العلمية المطلوبة، مكتفياً بالترجمة المناسبة للنص العلمي وعلى مسؤوليتي الكاملة”.
وأضاف بحسب الدراسة “يملك سد بلعة قدرة استيعابية تبلغ 1.3 مليون متر مكعب سنويا، هو واحد من لائحة طويلة لثمانية وعشرين مشروع سد تضمنتها الاستراتيجيا الوطنية لقطاع المياه التي تبناها وزير الطاقة والمياه في حينها المهندس جبران باسيل في العام 2010”.
وعرض لـ “لائحة السدود التي تضمنتها الاستراتيجيا الوطنية لقطاع المياه في العام 2010″ على النحو الآتي:
الوضع الجيولوجي: يتكون السفح الغربي لجبل لبنان من صخور كربوناتية عائدة إلى العصر الجوراسي الأعلى J5 مشققة تتخللها حمم بازلتية.
الوضع التكتوني: توجد شبكة كبيرة ومهمة من التكسرات والتشققات في محيط السد والفوالق الأساسية في اتجاه عام شرق غرب.
الوضع الصخري: أدى تطور كبير في العملية الكارستية إلى فراغات عمودية أو آبار طبيعية gouffres عميقة على طول التتابع الصخري.
عمليات الاستقصاء الجيوفيزيائي: لم تُنفّذ، ولم يدلّ حفر الآبار الاستقصائية على فراغات في العمق”.
تكاليف إضافية
وقال: “عمليات تفريغ موقع السد من التربة والجرفيات المتراكمة كشفت قاعدة صخرية كلسية مارلية محشورة بين صخور دولوميتية وبازلتية قاسية ونافرة، وظهر العديد من فراغات الصخور الكربوناتية الكارستية، لذا كان لا بد من إعادة نظر في القراءة الجيولوجية للموقع”.
وأشار إلى أن الترجمة المختصرة بالعربية لنتيجة الدراسة، خلصت إلى:
1-حفر الآبار الاستقصائية لا يكفي للاستدلال على مواقع الفراغات الطبيعية.
2-الذاكرة التاريخية (لا يريد أن يقول الدراسة الجيولوجية الأولية للموقع) مهمة جدا للتعرف على المكان، إلى جانب إجراء مقابلات مع السكان.
3-الاستقصاء الكهربائي اشتبه بوجود الفراغات لكنه لم يستطع تحديدها بدقة.
4-الكشف الكامل عن كل الفراغات تحت قاعدة السد ضروري لمعالجة الوضع. كل فراغ يُعالج على حدة بطريقة تناسبه وقد لا تناسب الفراغ الآخر بقربه.
5-بالإمكان حل المشكلة بشكل معقول من الناحية الميكانيكية، لكنه يبدو من المستحيل حل مشكلة العزل من دون دراسة كل فراغ مكتشف على حدة”.
وختم زعاطيطي: “هكذا يتضح، من دراسة أجنبية علمية لا مصلحة لبنانية لها، أن الموقع المختار لبناء سد بلعة لا يصلح بأي شكل من الأشكال لمشروع من هذا النوع، وهذا ما تثبته أعمال الدعم الجارية حاليا مع ما تحمله من تكاليف إضافية”.