عشرات، وأحيانا مئات المستحضرات والمحاليل الكيميائية، ومنتجات التنظيف المنزلي والجلي والغسيل والعناية الشخصية والزينة نستعملها في بيوتنا وفي حياتنا اليومية، إضافة إلى المواد الغذائية المصنعة والمحفوظة.

يعرف البعض منا، القليل أو الكثير، عن مخاطر هذه المستحضرات، أو عن بعض هذه المخاطر، أو عن خطر بعض مكوناتها، ولكن بالتأكيد أن الكثيرين يجهلون هذه المخاطر، أو يطمئنون إلى ما تروجه الدعاية التجارية والتسويقية عن أمان استعمالها، وهذا في كثير من الأحيان إطمئنان في غير محله. يعود ذلك إلى أسباب عدة، نعتقد أن أهمها غياب الوضوح الكامل والحازم في التشريعات المنظِّمة لسلامة وأمان تسويق المنتجات، والمعايير والمواصفات، التي تتعلق بهذه المنتجات لناحية احتوائها على مكونات كيميائية سامة. وكذلك غياب إلزام ذكر كل المحتويات الكيميائية على ملصق المنتجات في كثير من الحالات. وإلى ضعف انتشار الوعي والمعرفة عن مخاطر الكثير من هذه المكونات على الصحة البشرية، في ظروف التعرض المختلفة، ولا سيما ظروف التعرض المزمن لهذه السموم.

من المعروف أن الكثير من المواد الكيميائية السامة تسبب التحرش والتهيج في الأنسجة المخاطية للجهاز التنفسي وكذلك في العيون والجلد. وتسبب أيضا الإلتهابات، والعديد من الأمراض المختلفة، التي تصيب أعضاء الجسم وأجهزته.

هذه المركبات موجودة، بنسب متفاوتة، في منتجات واسعة الإستعمال، مثل المنتجات التجارية للعناية بالجسد، ومنتجات الزينة والتجميل، وكذلك منتجات الغسيل والتنظيف، وموجودة أيضا في المنتجات الغذائية المصنعة والمحفوظة والمعلبة. بعض التشريعات في بعض البلدان تلزم الشركات المنتجة على ذكر المكونات الكيميائية لمنتجها على لائحة المحتويات في الملصق. ولكن هذا الإلزام لا يطاول دائما كل المكونات، ولذلك نرى أحيانا على الملصقات عبارات عامة وغير واضحة كفاية. ونرى في كثير من البلدان غياب كامل أو جزئي للتشريعات، التي تلزم المنتجين على ذكر كل المكونات، وخصوصا الكيميائية السامة، الداخلة بنسب وتراكيز مختلفة في منتجاتهم.

إن المكونات الكيميائية السامة، الداخلة في العديد من المنتجات المستعملة في منازلنا وحياتنا اليومية، يصل عددها إلى حوالي 60 مادة كيميائية سامة وأكثر، وهي متنوعة لناحية تركيبها الكيميائي وخصائصها.

نجد مثلا، مركبات الفتالات Phthalates موجودة في العطور المخلقة (المصنعة) Fragrances. ونجد المركبات الكيميائية في مستحضرات التنظيف والغسيل والجلي، وكذلك الأدخنة السامة في بعض مستحضرات التنظيف المستعملة لإزالة الدهون المتراكمة على الفرن المنزلي. تسبب هذه المركبات الكيميائية السامة العديد من الأمراض والإختلالات الوظيفية في الجسم، مثل الربو والسرطان والتخريب الهرموني والإخلالات العصبية، والقلبية، وفي الكبد والكليتين والجهاز التنفسي والقدرة الجنسية والإنجابية.

يعتقد الكثيرون أن التعرض لكميات صغيرة جدا من المكونات الكيميائية السامة، الداخلة في تلك المستحضرات واسعة الإستعمال في المنزل وفي حياتنا اليومية، ليس له تأثير ضار على الصحة البشرية. ولكن الحقائق العلمية تقول بعدم صحة هذا الإعتقاد. إن المستويات المقبولة للتعرض لهذه المادة الكيميائية السامة أو تلك، المنصوص عنها في التشريعات الوقائية المتعلقة ببيئة العمل والتعرض المهني، هي غير مطلقة، وهي ليست آمنة في كل ظروف التعرض، وفي كل الأوقات، وعند كل البشر. وقد أشارت منظمة الصحة العالمية في كثير من تقاريرها، إلى عدم وجود مستويات آمنة للتعرض للكثير من المواد الكيميائية السامة، وتنصح بالعمل على وقف التعرض لها واستبدالها بمواد أكثر أمانا.

إن التعرض للمكونات الكيميائية السامة الداخلة في تركيب المنتجات والمستحضرات المستعملة في المنزل يوميا، يتميز بميزتين على درجة عالية جدا من الأهمية. الميزة الأولى، تتعلق بالتعرض الروتيني المزمن لهذه المكونات، بشكل يومي وعلى مدى سنوات طويلة، تمتد أحيانا على مدى حياتنا كلها. إن الكثير من هذه السموم يتمتع بخاصية القدرة على التراكم في الأنسجة الحيوية، أي في مختلف أعضاء وأجهزة وأنسجة الجسم البشري. وبهذا تتحول إلى مصدر داخلي للتعرض، يضاف إلى المصادر الخارجية المرتبطة بملوثات الهواء والمياه والمواد الغذائية. والميزة الثانية، هي أننا في كل الحالات، نتعرض بشكل متزامن لكميات صغيرة، ليس لمادة كيميائية سامة واحدة، بل لعدد كبير من المركبات الكيميائية مجتمعة معا. وهذا ما يجعل أجسامنا عرضة لسمية عالية جدا ترتبط بالتأثير السمي المتآزر لتلك المركبات المجتمعة، الداخلة سوية إلى أجسامنا. هاتان الميزتان تحددان مستويات عالية جدا للمخاطر الصحية البشرية، نتيجة التعرض المزمن لباقة كبيرة من المركبات الكيميائية السامة في نفس الوقت.

ولذلك، من المهم جدا أن ندرك هذه الحقائق الخطيرة المرتبطة بالإستعمال اليومي لعدد كبير جدا من المستحضرات والمنتجات في منازلنا وفي حياتنا اليومية. ويصبح من الملحِّ جدا أن نسعى جهدنا للحد من تعرضنا لهذه السموم، وأن نخفف استعمالها إلى الحد الأدنى الممكن، وأن نقوم بالبحث الجدي عن بدائل لها ندخلها إلى استعمالاتنا المنزلية الروتينية.

مركبات الفتالات Phthalates، وهي بالمناسبة مجموعة المركبات الكيميائية الصناعية، التي كانت موضوع أطروحتي للدكتوراه في علم السموم الكيميائي في بداية الثمانينات من القرن الماضي. هي مركبات واسعة الإستعمال كمواد مُليِّنة، تضاف إلى اللدائن البلاستيكية لتكسبها درجة الليونة المطلوبة. وكذلك واسعة الإستعمال كمضاف إلى المنتجات المعطرة وبعض الكريمات، ولا سيما منها الكريمات الطاردة للبعوض، وإلى بعض المنتجات الصيدلانية. لم تكن معروفة بعد في تلك الحقبة كل التأثيرات السامة للفتالات، والآليات الدقيقة لسميتها. كان معروفا أن لها تأثير على القدرة الجنسية والإنجابية عند الرجال، ولكن لم يكن معروفا بعد نشاطها المُخِل بالغدد الصماء، أي المسبب للخلل الهرموني، وبالتالي تأثيرها السمي الهرموني على أجيال متلاحقة من الذكور والإناث. بناء على دراساتنا وأبحاثنا في حقبة الثمانينات، المتعلقة بالحركية السمية والدينامية السمية للفتالات، وتراكمها في أنسجة الجسم، في تجارب على الحيوانات، وكذلك في تحقيقات على العمال خلال تعرضهم المهني في مصانع البلاستيك (بولي فنيل كلوريد PVC)، وصلنا إلى ضرورة تخفيض مستوى “الحد الأقصى المقبول” للتعرض المهني لهذه المركبات الذي كان معمولا به عالميا إلى النصف، كإجراء وقائي مهني للحد من مخاطرها السمية، وللحد من تراكمها في جسم العمال. وجرى اعتماد هذا التخفيض رسميا من قبل وزارة الصحة وهيئة المواصفات المهنية الوقائية في بلغاريا في العام 1985.

توجد مركبات الفتالات في كثير من المنتجات والمستحضرات المعطرة المستعملة في المنزل، مثل رذاذات عبوات تعطير الهواء المنزلي، أو الصابون المعطر للجلي والغسيل، أو ورق التواليت المعطر، وفي كل المنتجات التي يحمل ملصقها عبارة معطر Fragrance. وكما ذكرنا سابقا موجودة كمواد مضافة في بعض الكريمات والمستحضرات الصيدلانية.

إن الخطر السمي الأساس للفتالات يكمن في نشاطها المسبب لإخلالات في الغدد الصماء، أي المسبب لإخلالات هرمونية عند الرجال والنساء. وكذلك المرتبط بتخفيض عدد الحيوانات المنوية في السائل المنوي للرجال المعرضين، بالإضافة إلى تسببها لداء الشقيقة Migraine والربو Asthma .

مركب بركولوروإيثيلين Perchloroethylene “Perc” يدخل في تركيب محاليل التنظيف الجاف، وفي مستحضرات إزالة البقع وتنظيف السجاد والأثاث المنزلي. هذا المركب الكيميائي يتمتع بنشاط سمي عصبي، حيث يسبب إخلالات عصبية متفاوتة الحدة، ويتمتع أيضا بنشاط مسرطن محتمل (مسبب للأمراض السرطانية). تسعى الدول للحد من استخدامه في مستحضرات التنظيف، وتدعو وكالة حماية البيئة الأميركية USEPA لوقف نهائي لاستخدامه في العام 2020.

يتمتع هذا المركب برائحة مميزة ترافق الألبسة، التي خضعت للتنظيف على الناشف (في المصبغة)، وكذلك رائحة السجاد والبسط بعد تنظيفها. يمكن الإستغناء عن المستحضرات، التي تحتوي على هذا المركب الكيميائي السام، واستبدالها بالمحاليل المائية، أو بثاني أوكسيد الكربون السائل CO2، الذي يظهر كمنظف فعال يحل محل المذيبات العضوية.

مركب تريكلوزان Triclosan يدخل في تركيب سوائل تنظيف وغسل الصحون والجلي. ويدخل أيضا في تركيب الصابون المطهر، المسمى “مضاد للبكتيريا” Antibacterial. يتميز هذا المركب بنشاط فعال جدا مضاد للبكتيريا. يؤدي استعماله إلى تعزيز قدرة البكتيريا على مقاومة الأدوية، وهذا له تبعات خطيرة على فعالية أدوية المضادات الحيوية في معالجة الكثير من الأمراض، التي تسببها جراثيم تتمتع بمقاومة عالية للمضادات الحيوية، يسكبها لها مركب التريكلوزان. تشير الدراسات الحديثة إلى أن هذا المركب تم كشفه كملوث كيميائي في الأنهار والجداول.

تدل الأبحاث السمية على أن هذا المركب يتمتع أيضا بنشاط مخل بالغدد الصماء، أي مخل بالهرمونات ووظيفتها الحساسة داخل جسم الإنسان. وهو يتمتع كذلك بنشاط مسرطن محتمل.

مركبات كيميائية سامة عديدة أخرى تدخل في تركيب مستحضرات التنظيف المستعملة في المنزل. مركبات الأمونيوم الرباعية المسماة QUATs تسبب الحساسية وأمراض الربو. وكذلك مركب ثاني البوتوكسي إيثانول 2-Butoxyethanol، الذي يدخل في تركيب مستحضرات تنظيف الزجاج وأدوات المطبخ، يؤدي التعرض له إلى أمراض رئوية وتخريبات كبيرة في الكبد والكليتين.

مركب الأمونيا، الذي يدخل في تركيب مستحضرات تنظيف الحمامات والبورسلان والزجاج، يؤدي التعرض له إلى إلتهابات مزمنة في الشعب الرئوية، وكذلك الى الربو.

إن المستحضرات التي تحتوي على الكلورين، المستعملة للتطهير وتبييض الألبسة وتنظيفها، يؤدي التعرض الحاد لها إلى تحرشات هامة في الجهاز التنفسي، أما التعرض المزمن لها فيؤدي إلى إخلالات جدية في الغدة الدرقية.

إن الخطوة الأولى نحو الوقاية الجادة والفعالة تبدأ بالمعرفة والوعي والإدراك حيال المخاطر الصحية المرتبطة بالعديد من المستحضرات والمنتجات، المحتوية على مركبات كيميائية سامة واسعة الإستعمال في المنزل وحياتنا اليومية. تتحقق الخطوات التالية من الوقاية مع التخفيف من استعمالها، والتفتيش عن البدائل الطبيعية الأكثر أمنا على صحتنا، والموجودة بالتأكيد في متناول أيدينا وفي محيطنا.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This