ربما لا يزال هناك في لبنان من يتذكر الفيلم الكويتي “بس يا بحر”، الذي حقق نجاحا باهرا في بداية السبعينات. فبالإضافة إلى حسن استعمال تقنيات التصوير التي كانت متوافرة في تلك الأيام، اكتسب هذا الفيلم أهميته وشهرته ونجاحه الكبير من موضوعه بالذات. موضوع الفيلم، من تأليف عبد الرحمن الصالح وإخراج خالد الصديق، يتناول قصة حياة صيادي اللؤلؤ والأسماك في الكويت، وبلدان الخليج عموما، في مرحلة ما قبل النفط. يتحدث عن كيف كان الناس يتعاملون مع البحر باعتباره مصدر الخير والحياة والعيش الكريم. فالبحر مصدر عيشهم ومتعة حياتهم، وهو يقدم لهم السمك واللؤلؤ. ولكنه كان أيضا، حين يتحول إلى وحش قاتل، سببا لتعاستهم وشقائهم.

نستعير ذكرى هذا الفيلم، لنبكي حال صيادينا، وهم فئة غير قليلة، تعيش من خير البحر ورزقه، تكد على مدار السنة لتحصيل لقمة العيش الكريمة لعيالها، على رغم المخاطر والكوارث التي تتهددها في كل مرة تركب البحر ساعية وراء رزقها، هادئا لا تعرف متى ينقلب هائجا، أو متحركا يمكن أن ينقلب بالوعة للمراكب والأرواح بين عاصفة وأخرى.

تعاني هذه الفئة الكادحة من شعبنا صعوبات المهنة ومخاطرها، وتفاوت دخلها من يوم إلى يوم، متبدلا حسب الخير الذي تحمله شباكهم في أيام الإقبال، وشح الغلة في أيام أخرى كثيرة، وتعطيل كامل لموانع الطقس ومخاطر أخرى.

الصيادون في لبنان هم أبناء البحر وحراسه، هم عشاقه وضحاياه، ينتشرون على طول الشاطيء، من عكار حتى الناقورة. لبنانيون كادحون، إسوة بإخوة لهم في المهن الأخرى، التي ترافقها المخاطر والتهديدات.

كان شاطيء لبنان من أجمل شواطيء المتوسط، فهو على تنوع كبير، بين الشطوط الرملية الشاسعة، أو الصغيرة، المتداخلة مع سواحل صخرية، متقدمة في البحر أو متراجعة عنه، محدثة رؤوسا وخلجانا عالية الروعة، وقل نظيرها.

معظم سكان لبنان يعيشون على الساحل، وعلى السفوح الغربية لسلسلة جبال لبنان الغربية، المنحدرة صوب البحر والمطلة عليه. ما يزيد عن 75 بالمائة من اللبنانيين يعيشون على البحر أو على مقربة منه، في مدن وبلدات وقرى تنافس بعضها جمالا وروعة.

تمتد السهول على الساحل اللبناني، حيث كانت تغطيها بساتين البرتقال والحمضيات الأخرى والموز والإكيدنيا. وكنت حين تنتقل من مدينة إلى أخرى ترافقك رائحة زهر البرتقال على طول رحلتك. وهناك أيضا مئات المنتجعات السياحية والمسابح والبلاجات والمتنزهات البحرية، معظمها مقامة على الاملاك البحرية، بأشكال قانونية وغير قانونية مختلفة.

البحر اللبناني غني بتنوعه الحيوي، تعيش فيه وتتكاثر أنواع فاخرة من الأسماك الصغيرة والمتوسطة والكبيرة. وتزوره في بعض الأحيان أنواع أخرى من الأسماك الضخمة، من نوع التونا والقرش وغيرها.

ماذا فعلت حكومات لبنان في البحر؟ سؤال، يصيبك الإكتئاب بمجرد التفكير بوضع الجردة من التعديات للإجابة عليه.

من أين نبدأ؟ ربما وفق التسلسل الزمني، نسجل الزحف العمراني على السواحل، وتآكل المساحات الخضراء والبساتين. وبعض هذا الزحف، هو اكتساح عشوائيات، وبناءات غير منظمة، لا تتمتع بالبنى التحتية اللازمة من طرق وصرف صحي نظامي، أي شبكات مجارير موصولة بمحطات لمعالجة المياه المبتذلة، وشبكات للمياه الصالحة للاستعمال البشري، والصالحة للشرب. فحلت نتيجة ذلك رائحة المياه الآسنة وروث الحيوانات، في مزارع غير نظامية للبقر والمواشي، محل رائحة زهر الليمون.

كثرت الآبار الأرتوازية، فكل بناية أو مجموعة بنايات ضربت بئرها دون احتساب لكمية المياه المقبول سحبها يوميا، للمحافظة على مستويات أحواض ومجاري المياه الجوفية المغذية لتلك الآبار. فكان ان تحولت معظم مياه هذه الآبار إلى مياه مالحة خلال أشهر الصيف، نتيجة الإسراف في ضخ المياه دون مراعاة قدرة كل بئر على العطاء. وهكذا، معظم الآبار على طول الساحل، ولا سيما في المناطق الأكثر اكتظاظا، أصبحت منهكة، وملايين اللبنانيين، “ينعمون” بمياه مالحة خلال معظم أشهر السنة.

قامت حكومات لبنان، ظنا منها بأنها تنجز مشاريع “تنموية”، وهي في الحقيقية مشاريع مدمرة للبيئة عموما، والبحر خصوصا، موضوع حديثنا اليوم، حيث نفذت مئات آلاف الكيلومترات من شبكات الصرف الصحية، الموجهة لتصب في البحر، بدل ربطها بمحطات فعالة لمعالجة المياه المبتذلة. هكذا يظن حكام لبنان، منذ الاستقلال وحتى اليوم، أن البحر وسط مستقبل لكل القذارات، ولا ضير في ذلك، فهو البحر الذي يبلع كل شيء. ونرى بعض هؤلاء الحكام يتباهون بنشر التقارير عن مشاريعهم “الإنمائية” وعن مئات الكيلومترات الجديدة من شبكات الصرف الصحي، المتصلة بأنبوب جامع يصب مباشرة في البحر، أو بطريقة غير مباشرة في هذا النهر، أو المجرى المائي، الذي ينتهي في البحر. وهكذا بفضل هذه السياسات الفاشلة، قد ازداد عدد مصبات مياه المجارير المبتذلة على طول الشاطيء اللبناني من 23 مصبا في العام 1997 حتى أصبح  أكثر من 53 مصبا في العام 2016، تنهي إلى البحر دون أي معالجة مسبقة، ما يزيد عن 80 بالمئة من المياه المبتذلة المتولدة في كل لبنان.

ينتشر على الساحل اللبناني عدد من المنشآت النفطية والخزانات والمرافيء، التي تستقبل المشتقات النفطية، والعديد من المؤسسات الصناعية المختلفة من الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، وهي بمعظمها ترمي نفاياتها السائلة، الغنية بالملوثات الهيدروكربونية، والملوثات الكيميائية الأخرى في البحر. يضاف إليها ما يتسرب من زيوت وشحوم ومشتقات نفطية، نتيجة نشاط المرافيء التجارية في طرابلس وبيروت وصيدا وصور، وغيرها من المرافيء الخاصة في الجية وسلعاتا وشكا. تشكل هذه المنشآت والمؤسسات المصدر الرئيس لتلوث البحر بالملوثات الكيميائية والمعادن الثقيلة.

نمت على طول الشاطيء اللبناني مكبات عشوائية غير مراقبة للنفايات غير المفروزة وغير المصنفة. وهي لا تتكون فقط من نفايات صلبة منزلية كما يعتقد البعض، بل هي خليط من نفايات خطرة وغير خطرة من مختلف المصادر والأنواع. فهي تحتوي على نفايات من مصادر صناعية وطبية، وكذلك من مخلفات إلكترونية تحتوي على كيماويات ومعادن سامة. إن بعض هذه المكبات العشوائية، استقبلت في مراحل سابقة، بأشكال مختلفة، براميل كانت تحتوي نفايات مجهولة الهوية، وبعضها يحتوي على نفايات خطرة وجدت مرمية في البراري والجبال. انتشرت المكبات العشوائية على طول الشاطيء، فمكب طرابلس الشاطئي اكتسب شهرة في الأشهر الأخيرة، كان قد سبقه عليها مكب صيدا الشاطئي، الذي كان كلما هب الموج غار في البحر جزء منه. ولم ينس الناس بعد حكاية مكب النورماندي، حيث تم ردم البحر، واستحدثت السوليدير موقع البيال المعروف. ومكب برج حمود الذي تحول إلى جبل على تماس مباشر للبحر. إذا رافقنا تاريخ تلك المواقع، نجد أن المكبات الشاطئية شكلت مصدرا لتلوث البيئة البحرية، وتخريب منظوماتها البيئية، وتدهور حالة التنوع الحيوي فيها، وساهمت مشاريع الردم، التي أقيمت على مساحاتها أو على مقربة منها، تحت عنوان معالجتها، في تدمير منهجي لموائل الثروة السمكية، وفي إحداث تدهور أدى إلى هجرة العديد من الأنواع، وتناقص كبير في الثروة السمكية لبحر لبنان.

لا زالت حكومات لبنان مستمرة في سياسة تحويل الشاطيء اللبناني إلى مكبات للنفايات، يحلو لهم تسميتها خطأً بالمطامر الصحية، وهي لا تتمتع بالحد الأدنى من المواصفات الهندسية والتقنية والتشغيلية، التي تسمح لها حمل هذه التسمية. وقد حولت مواقع برج حمود والجديدة والكوستابرافا إلى مكبات شاطئية، وهي الآن تعمل على توسعتها، وترافق ذلك بمشاريع واضحة لردم البحر على مئات آلاف الأمتار المربعة.

ونحن حين نقول بأن هذه المواقع ليست مطامر صحية وفق المواصفات المقبولة، نعني بأنها لا تزال مواقع تسمح بتلويث كبير للبحر، إن بالنفايات مباشرة، عبر عمليات ردم البحر بالنفايات، كما يحصل فعلا في برج حمود وصيدا، أو عبر إبقاء الطريق سالكة لتسرب العصارة، الغنية بالملوثات الكيميائية والمعادن الثقيلة، إلى البحر مباشرة وبطرق غير مباشرة.

لقد جعلت حكومات لبنان المتعاقبة من البحر مكبا لكل أنواع النفايات ومن كل المصادر، عبر إقامة المكبات ومشاريع الردم وما تسميه مطامر شاطئية. وجعلت منه أيضا مستقبلا نهائيا لكل ما تجرفه السيول والأنهار والمجاري الشتوية على الجبال، وعلى كل السفوح الغربية لجبال لبنان الغربية، المكتظة بالسكان، من نفايات جرى رميها في مكبات عشوائية، زاد عددها عن 1300 مكب في مختلف الأراضي اللبنانية.

كل هذا يرمى في بحر لبنان…..

حتى أصبح قاع بحر لبنان مزبلة متحركة، تقودها التيارات البحرية، الأفقية والعامودية، وتحركها الأمواج في كل اتجاه.

حتى كانت العاصفة….

هاج بحر لبنان وأطلق العنان لغضبه الفاجر، ليعيد إلى شواطئنا دفعة على حساب ما سلفته حكومات لبنان على مدى عقود من الزمن من ملايين أطنان النفايات. أغرق البحر الغاضب شواطيء وسواحل لبنان بالنفايات، وكان المشهد السريالي، الذي ما كاد اللبنانيون أن ينسوا شبيها له في شوارع عاصمتهم منذ بضعة سنوات، حتى تكرر في كل الشواطيء من عكار مرورا بطرابلس وبيروت والاوزاعي وصيدا والصرفند وفي كثير من المناطق الأخرى.

هكذا تحول البحر من مصدر لرزق الصيادين و”لؤلؤهم” ولقمة عيشهم، إلى وحش قاتل، يملأ شباكهم بأطنان من النفايات بدل الخير، الذي يسعون إليه.

هذه حصيلة سياسات حكومات لبنان في كل ما يتعلق بمشاريع “التنمية” والخدمات الأساسية. غزو عمراني عشوائي، ملوثات من كل صنف ونوع، وسموم مستقرة وثابتة وقابلة للتراكم الحيوي، تلوث ثروتنا السمكية وتهددها بالدمار والتناقص والهجرة. تلويث جرثومي وكيميائي يحيل التنزه والاستحمام في البحر مغامرة غير محسوبة النتائج من أمراض جلدية ومعدية. تشويه لواجهة البحر ووضع اليد على أقسام منها عبر التعديات المشرعة بطرق قانونية وغير قانونية، حارمة اللبنانيين من حقهم الطبيعي بالأملاك البحرية، والاستمتاع بها بحرية دون عوائق من أي نوع.

مع سياساتكم تحول البحر إلى وحش قاتل، مصدر لتعاسة وشقاء مئات الآلاف من عائلات الصيادين والكادحين في البحر.

أوقفوا سياساتكم الظالمة والمدمرة وأعيدوا بحر لبنان لشعبه.

بس يا بحر…آخ يا بحر.

 

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This