على الشاطىء الممتد من الشمال إلى بيروت مرورا بخلدة وصولا إلى الجنوب، تطالعنا كميات كبيرة من مخلفات البلاستيك، وهي عبارة عن قطع متناهية الصغر، تراكمت وتجمعت خلال سنوات طويلة، لتشكل تهديدا كبيرا متمثلا بالبلاستيك الذي نعلم جيدا مخاطره، فهذه المادة تتحول إلى لدائن صغيرة جدا، وبحسب دراسات عالمية، فقد وجدت طريقها إلى موائدنا من خلال السلسلة الغذائية، عبر السمك وثمار البحر وصولا إلى الملح الذي يستخدمه كل الناس.
لسنا في وارد إشاعة الخوف بين المواطنين، فما نرصده بات واضحا على امتداد شواطئنا وفي أعماق البحر من نفايات من مختلف الأنواع والأحجام، وبعضها لا يمكن التخلص منه، ولا سيما تلك التي غابت بين الصخور، علما أن الشاطىء بحاجة لخطة طوارىء، يبدو أن المعنيين ليسوا في وارد إطلاقها ولا التفكير بها، وهذا يعني أن التلوث سيظل حاضرا كمشكلة بيئية وصحية، فضلا عن نتائجه على مستوى الحياة البحرية والنظم الإيكولوجية الشاطئية بشكل خاص.
أبعد من لبنان
هذه المشكلة تخطت جغرافيا الدول، وهي ماثلة أبعد من لبنان، وتتوالى العديد من الدراسات محذرة من مغبة هذا التلوث في بحار ومحيطات العالم، لكن ذلك لا يلغي مسؤولية الدولة ولا يبرر تقاعسها، خصوصا وأن المطلوب ليس حملات نظافة معظمها يتسم بطابع استعراضي فحسب، وإنما البحث عن السبب لا معالجة النتيجة، وهنا ثمة أمران لا بد من إيلائهما أهمية استثنائية، الأول، وقف تلويث الشاطىء الذي تتسبب به المكبات في برج حمود والجديدة و”الكوستابرافا” في خلدة، فضلا عن صيدا، عبر خطة وطنية تضع حدا لهذه المهزلة المتمثلة بردم البحر، والثاني، التشدد بمراقبة مرتادي البحر وتغريم كل من يرمي المخلفات على الشاطىء، وهذا أمر يستدعي تشكيل هيئة أمنية بالتنسيق مع البلديات، تكون مهمتها المراقبة.
إن كلفة معالجة هذه المشكلة تظل أقل بما لا يقاس بكلفة الفاتورة الاستشفائية، فضلا عن أننا، ومع النفايات التي تتصدر البحر في العديد من المواقع، نخسر قطاع السياحة الشاطئية والصيفية، لا بل ونخسر أكثر على صعيد التنوع الحيوي الذي يتميز به بحرنا، ونخسر الثروة السمكية التي تعتبر قطاعا اقتصادي منتجا، يعتاش منه آلاف الصيادين على امتداد الساحل من الشمال وصولا إلى الناقورة جنوبا.
الحيتان وأسماك القرش
في غياب الدراسات الاستقصائية نرى الجانب الظاهر من المشكلة، أي النفايات وتكدسها ونفوق بعض السلاحف والكائنات البحرية، لكن ما هو متوار عن أنظارنا لا نعرف عنه إلا القليل، فما هو أثر بقايا ومخلفات البلاستيك على الكائنات البحرية؟
في هذا المجال، أشارت دراسة حديثة نشرتها “الغادريان” البريطانية، إلى أن العبوات البلاستيكية لا تضر وحدها الحياة البحرية، وكشفت أن اللدائن البلاستيكية الدقيقة تشكل خطرا على بعض الحيتان وأسماك القرش.
تجدر الإشارة إلى أن فكرة التلوث البلاستيكي للبحر ترتبط في أذهاننا بصور سلاحف نافقة على الشاطئ أو بطيور بحرية اختنقت بنفايات بلاستيكية عائمة، إلا أن الدراسة الحديثة توصلت إلى أنه “ليس من الضروري أن يكون البلاستيك مرئيا حتى يسبب أضرارًا للحياة البحرية، فأصغر الجسيمات البلاستيكية تؤثر سلبا على أكبر الحيوانات البحرية.
وأكد باحثون من الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا وإيطاليا أن بعض أنواع الحيتان وأسماك القرش معرضة لخطر التلوث بالدقائق البلاستيكية، وهي جزيئات صغيرة غير مرئية من اللدائن تطفو على السطح في جميع محيطات العالم.
آثار جانبية سامة
نشرت الدراسة في “مجلة تريندس إن إيكولوجي آند إيفوليوشن” Trends in Ecology and Evolution أن الحيوانات البحرية مثل الحوت وأسماك القرش الضخمة وغيرها من الحيوانات التي تتغذى بترشيح مياه البحر تتناول جزئيات بلاستيكية صغيرة قد تعوق قدرتها على امتصاص العناصر الغذائية، بالإضافة إلى آثارها الجانبية السامة.
وبحسب “الغارديان” the guardian تشمل فصيلة الحيوانات التي تتغذى بالترشيح الحيتان البالينية مثل الحوت الأحدب والحيتان الرمادية والزرقاء التي لا تملك أسنانا، إذ تعتمد تلك الحيتان البالينية مُرشحا من الكيراتين لصيد الكريليات والعوالق من الماء، فتبتلع تلك الحيوانات آلاف الأمتار المكعبة من مياه البحر يوميا لتستخلص منها حاجتها من العوالق، إلا أن الباحثين اكتشفوا أن الحيتان تبتلع أيضا جزئيات البلاستيك الدقيقة التي يقل طولها عن 5 ملليمترات ويماثل حجمها حجم العوالق في المياه.
تقول المؤلفة المشاركة في الدراسة والباحثة في “مؤسسة مارينا ميغافونا” Marine Megafauna Foundation إليتزا جيرمانوف Elitza Germanov لـ “الغارديان” the guardian “على الرغم من تزايد الأبحاث عن اللدائن البلاستيكية الدقيقة في البيئة البحرية، إلا أن عددا قليلا منها يدرس تأثيرها على الحيوانات الكبيرة التي تتغذى عن طريق الترشيح، وما زلنا نحاول فهم أبعاد هذه المشكلة، إلا أن الواضح لدينا أن تلوث مياه البحرية واللدائن الدقيقة قد يؤدي إلى تناقص أعداد هذه الحيوانات التي يعيش بعضها لمدد طويلة ولا يتكاثر بأعداد كبيرة”.
الأنظمة البيئية الحساسة
وبحسب جيرمانوف “شاهدنا مرارت كثيرة كيف جرفت مياه البحر جثث الحيتان إلى الشواطئ في شتى بقاع العالم. وكشفت الفحوصات وجود قطع كبيرة من النفايات البلاستيكية في أحشائها، ما ينذر بخطر التلوث البلاستيكي المتزايد، إلا أن الكثيرين يغفلون عن خطر اللدائن البلاستيكية الدقيقة، وتظهر الدراسة الجديدة أن الحيوانات البحرية الكبيرة التي يهددها الصيد الجائر، هي أكثر عرضة لخطر هذه الدقائق”.
وتتنوع مصادر هذه اللدائن الدقيقة، فقد تنتج عن بقايا القطع البلاستيكية الكبيرة التي تحللت بمرور الزمن وتفككت في المياه، وقد تنتج عن المنتجات المنزلية اليومية التي تتضمن ميكروبيدات بلاستيكية صغيرة مثل صابون تقشير البشرة ومعجون الأسنان، وفق المصدر عينه.
وفي هذا المجال، لا تكفي الحلول البسيطة، كالامتناع عن إنتاج هذه الأنواع لمواجهة التلوث البلاستيكي، بل على الشركات أن تتخلص من المنتجات التي تحتوي على ميكروبيدات، وعلى الحكومات أن تجد طرق ووسائل لإزالة الجسيمات البلاستيكية الدقيقة من المياه، بالإضافة إلى مواصلة المنظمات المدنية جهودها في تثقيف الناس وتوعيتهم عن مشكلة التلوث البلاستيكي.
وما يجب الإشارة إليه هو أن الحيتان وأسماك القرش تشكل الركيزة الأساسية لأنظمتها البيئية، وسيؤدي انقراض هذه الحيوانات الكبيرة إلى تغيير هذه الأنظمة البيئية الحساسة إلى الأبد.