فجأة ثارت الأنهر، وفاضت جارفة معها الوحول والأتربة والنفايات وكل ما وجدته في طريقها، واصطبغت مياه البحر بلون التراب، وبدت في بعض المواقع بين طرابلس وصيدا وكأنها مستنفعات لوحول متجمعة.
ما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال، أن العاصفة الأخيرة لم تستمر أكثر من ثماني وأربعين ساعة، وما كان يجب أن تحدث كل هذه الأضرار رغم غزارة الأمطار والسيول، ففي سنوات ماضية كانت الهطولات المطرية والثلوج في المرتفعات تستمر لأسبوع وأكثر، دون أن تحدث هذا القدر من الخراب، وهذا يؤكد أن ثمة عوامل فاقمت المشكلة، ومنها بشكل التعدي على حرم الأنهر.
نهر أبو علي “الغدار”!
ما أثار اهتمام المواطنين، ولا سيما في مدينة طرابلس خصوصا والشمال بشكل عام، فيضان “نهر أبو علي”، ليذكر المسنين منهم بالفيضان الكارثي في العام 1958، وحصد وقتذاك العديد من الأرواح وخلف أضرارا هائلة بالممتلكات.
وارتسمت أمس في الأذهان معالم “طوفة” 1958، وكان فيضان النهر الشغل الشاغل للمواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أن بعضهم نشر صورا أرشيفية وقصاصات جرائد وثقت “ثورة النهر” في منتصف القرن الماضي، وبعضهم أشار إلى أن النهر غالبا ما يُكَـــنّــى بـ “نهر أبو علي الغدار”، والشماليون يخشون دائما “غدره”.
وكما هو معروف، تصب امطار الجرود سيولها ومجاريها الشتوية بأنهر قاديشا بشرّي وجوعيت ورشعين زغرتا، والسيل الهادر من الجرد يأخذ بطريقه كل شيء، لا سيما التعديات الطبيعية والبشرية على مجاري الأنهر، وتنتقل كلّها لتعلق عند جسر قناطر البرنس، الذي شيّده الفرنسيون للوصل ما بين زغرتا وطرابلس، وهو مكون من قناطر عدة، تعلق النفايات والاشجار عند دعائمها فتسدّ مجرى النهر وتطوف المياه على البساتين وتخرج عن مجراها الطبيعي فتشكل فيضانا هادراً يسحب بطريقه الى البحر كل شيء.
يذكر في هذا السياق أنه بعد كارثة العام 1958، عمد الرئيس الشهيد رشيد كرامي إلى توسيع مجرى النهر وصبّه بالإسمنت مع جدران مسلحة على جانبيه لحماية طرابلس من “النهر الغدار”، وكلّف المشروع الخزينة اللبنانية المليارات من الليرات، وانتقده معارضو الرئيس آنذاك، ومن ثم كان عرضة للانتقاد من البيئيين الذين رأوا انه غير وجه طرابلس وأمّنوا بالتعاون مع البلدية تمويلاً لإرث ثقافي على النهر وفوق سطحه.
ويؤكد متابعون أن هذا المشروع جنب طرابلس ويلات وكوارث، كان يمكن أن تحصد حياة المواطنين وتدمر المناطق القريبة من النهر.
أبي شاهين: خلل بالنظام البيئي
وقال الناشط بيار ابي شاهين لـ greenarea.info: “استفاقت طرابلس على مشهد لم تره من سنة 1956 عندما طاف نهر ابو علي وجرف البيوت والسيارات، واليوم اكثر من ارتاح وزارة البيئة، لأن المياه جرفت كل النفايات ورمتها في البحر الذي يبتلع كل وسخ البلد، وأناشد اتحاد البلديات ووزارة الاشغال ورئيس الهيئة العليا للاغاثة اللواء محمد خير أن يبادروا بأسرع وقت للنزول إلى الارض ومعاينة الأضرار والتعويض على الناس، خصوصا وأن المنطقة المنكوبة هي اصلا منكوبة فكيف سيكون حالها اليوم؟”.
وأضاف: “التعدي على الاملاك البحرية والنهرية تعاقب عليه الطبيعة ان لم تتحرك الدولة لاسترجاع أملاكها، وكل ما جرفته هو مصادر من الدولة، أما الاضرار بالممتلكات والاراضي فهي كبيرة جدا، وعلى الحكومة المسارعة فورا الى تدارك الموضوع لأنه أحدث خللا بالنظام البيئي كتغيير مجرى النهر، والحمدلله ان لا ضحايا بشرية والباقي يعوض”.
وأشار أبي شاهين إلى أن “الاضرار وقعت على أناس صادروا املاك الدولة وأقاموا انشاءات عليها”.
إهمال وتعديات
وفي التفاصيل، ارتفع منسوب نهر أبو علي لحده الاقصى، إذ وصلت المياه الى حافة حائط الدعم العمودي الذي يحيط به، كما أظهر منسوب المياه العالي وقوة تدفق المياه في المنطقة التي تعتبر الأوسع لمجرى النهر عند منطقة الجسرين في طرابلس، وعلقت سيارة تاكسي لأحد المواطنين لساعات بعد أنتنزلق في “منطقة الشلفة”.
وتشهد طرابلس منذ يوم أمس حالة طوارئ وزحمة خانقة بعد قطع طرقات وتحويل السير إلى أخرى، ورغم المعاناة، عبر مواطنون بسخرية عن الواقع الذي آلت إليه المدينة، وبعضهم قال: “حتى نهر أبو علي لم يعد يحتمل الإهمال، وعدوا ببناء جسور، وعدوا بتأمين النظافة، ووعدوا أيضا بتحويل المنطقة الملاصقة للنهر بأن تكون شبيهة بما بنهر السين في فرنسا، كل هذه الوعود الانمائية تبخرت، حتى الجسور التي وعدوا ببنائها لتربط المناطق المحيطة بالنهر بعضها ببعض لم تتحقق”.
وعلق آخر “بدل أن يثور شعب طرابلس ثار النهر”، فيما كتب أحدهم على صفحته في “فيسبوك”: “يا بو علي رجاء المرة القادمة لا تدمر جيرانك من المزارعين والسكان، بل أفض بمياهك واقلع من (الشلوش) تجار الإلتزامات وأصحاب الوعود الطنانة، فترتاح أنت ويرتاح الشعب الطرابلسي”.
وأكد جلال سفرجلاني لـ greenarea.info أن “كل ما شهدته طرابلس أمس مع فيضان نهر أبو علي صب في البحر، ما أدى إلى تحميله تلوثا اكبر من الذي فيه، وقد زودنا بصور تظهر البحر موحلا، فضلا عن التلوث الظاهر أساسا، ولا ننسى كل التلوث الذي حمله الفيضان بالإضافة إلى الصرف الصحي”.
ثار نهر أبو علي ومعه سائر الأنهر اللبنانية، ليفضح غياب الدولة ويكشف المستور من إهمال وتعديات!