“أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي أبدا”. بهذه الكلمات نرحب بما تم إعلانه مؤخرا عن نية قوى كبيرة وفاعلة شعبيا وفي السلطة، عن نيتها مكافحة الفساد، باعتبار أن الإنهيار المرافق لمستويات الفساد المخيفة، التي وصلت إليها، تهدد بسقوط الهيكل على رؤوس الجميع، خاصة وأن بعض الرؤوس مستهدفة من قبل القوى، التي تخوض معركة الهيمنة على دول وشعوب منطقتنا، وتعمل على تدميرها وتفتيتها.
إن القوى السياسية والشعبية، التي تشكل معركة مكافحة الفساد جزءا حيويا من تاريخها ومن برنامجها ومن أهدافها لإرساء دولة القانون ودولة العدالة الاجتماعية ودولة تكافؤ الفرص ودولة المواطنة، ترحب بدون شك بانضمام حلفاء أقوياء لها على المستوى الشعبي وفي سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
قد يكون مدخل هذه القوى الجديدة، التي أعلنت نيتها مكافحة الفساد في الدولة، هو نيتها الدخول في بنية الدولة الإدارية، وفي كل أجهزتها ومؤسساتها السياسية والإدارية والإقتصادية والمالية والأمنية، وهذا برأينا شرط ضروري ولكنه ليس شرطا كافيا بذاته. بل هناك مجموعة من القضايا، التي تشكل بداية استراتيجية مكافحة الفساد وبناء الدولة القوية القادرة والعادلة.
نرى أن أولى هذه القضايا، هو في إنشاء وزارة للتخطيط والتصميم تقوم بوضع السياسات والاستراتيجيات للدولة عموما، وتنسق بين سياسات التنمية الشاملة للبلد، وتجري الدراسات البيئية الاستراتيجية لتلك السياسات بشكل جدي، وتخطط للمشاريع وتضع دفاتر شروط لها، بحيث تسترد هذه الصلاحيات من مجلس الإنماء والإعمار، الذي يمسك عمليا بيده بكل تلك المراحل التخطيطية لأي عمل تنموي في كل القطاعات والمجالات. وكذلك استحداث هيئة خاصة لاستلام المشاريع من الجهات التي تنفذها، للتحقق من التطبيق النوعي والكمي لدفاتر الشروط .
تفعيل وتحديث أجهزة الرقابة من تفتيش مركزي وتفتيش مالي وتفتيش إداري. وتحديث الإدارة وإلغاء التعاقد وملء الشواغر في الإدارة عبر آليات التوظيف الموضوعية التي تنص عليها قواعد العمل في مجلس الخدمة المدنية، ووقف التدخل السياسي في التوظيف، وإلغاء الزبائنية القاتلة، التي تغطي كل مجالات عمل إدارات وقطاعات الدولة، وإلغاء طائفية ومذهبية الوظيفة (باستثناء ما ينص عليه القانون في وظائف الفئة الأولى)، واعتماد الكفاءة والجدارة بمعزل عن أي معيار آخر.
إعادة هيكلة الإقتصاد اللبناني والعمل على وضع سياسات واستراتيجيات تعزيز وتطوير القطاعات المنتجة، الزراعة والصناعة، وتيسير آليات تأسيس الشركات الفردية ومحدودة المسؤولية والمساهمة، وتشجيع الإستثمار في هذين القطاعين عبر حوافز تنظيمية وإدارية ومالية وضرائبية. وعبر تسهيلات تنافسية حيال الإستيراد والتصدير.
إعادة النظر بالسياسات المالية وتحقيق العدالة الضريبية، وعقلنة الضرائب غير المباشرة، وتعزيز الضرائب المباشرة وتطبيق الضريبة التصاعدية.
تعزيز دور وزارة التنمية الإدارية في إعادة هيكلة وتطوير الإدارة اللبنانية، وتدريب الموظفين، وتقييم أدائهم، وإدخال مبدأي الثواب والعقاب فعليا في الإدارة، والعمل على ملء الشواغر في كل وزارات وإدارات الدولة، وإعادة ملف النفايات وإدارتها بالكامل إلى وزارة البيئة، بما في ذلك مشروع بناء وتشغيل معامل فرز النفايات ومعالجتها الممول من الاتحاد الأوروبي.
إن مجلس الإنماء والإعمار هو من حيث المبدأ مجلس تنفيذي للإنشاءات الكبرى، التي تخطط لها وزارة التخطيط والتصميم وتضع دفاتر شروطها، وتستلمها هيئة متخصصة تنشأ لهذه الغاية، كي تحل محل الوظائف المتناقضة، التي يقوم بها مجلس الإنماء والإعمار اليوم. على أن تهتم وزارة المالية بتأمين التمويل اللازم لكل المشاريع التي تنفذ في البلد، الكبيرة منها والمتوسطة والصغيرة، عبر الهبات والقروض وبنود الموازنة العامة، بكل شفافية، وإخضاع كل النفقات للمراقبة المسبقة واللاحقة لديوان المحاسبة، وفق القوانين المالية النافذة.
إعادة النظر برواتب ومخصصات وتعويضات النواب ووقف مهزلة الهدر الفظيع التي تمارس اليوم.
إعادة النظر بآليات الترخيص وتحديثها وتطويرها وتيسيرها، وقطع يد الفساد المستشري في كل الإدارات المتعلقة بإصدر التراخيص من كل نوع.
العمل على تطبيق دقيق وفعال لقانون حماية البيئة، وكل القوانين الأخرى والمراسيم والقرارات المتعلقة بحماية البيئة ومكافحة التلوث وتنظيم استثمار الموارد الطبيعية بشكل مستدام وعقلاني وعادل.
إعادة كل الصلاحيات المتعلقة بحماية البيئة وإدارة النفايات والتلوث من كل المصادر إلى وزارة البيئة، ومنع التشتت والتضارب بالصلاحيات بين الإدارات ومؤسسات الدولة المختلفة.
تنظيم وجود الأجانب بمن فيهم الرعايا العرب وتنظيم إقامتهم وعملهم وفق تشريعات عادلة تحمي اليد العاملة اللبنانية في كثير من القطاعات وفي الاقتصاد الوطني عموما.
الحد من تنامي الدين العام وإدارته بشكل يحفظ المصالح الوطنية العليا لأجيال الشعب اللبناني.
مكافحة الفساد والسرقة والنهب المنظم والهدر في كل أنشطة وأعمال الدولة اللبنانية ورفع الحصانة عن كل المرتكبين، الذين يستغلون مواقعهم في السلطة والإدارة.
اعتماد الآليات والقنوات القانونية للتلزيم وتعزيز الشفافية في المناقصات، والابتعاد عن التلزيم بالتراضي كمنفذ كبير للصفقات، التي تترافق بهدر ونهب المال العام.
احترام الحريات السياسية والتنظيمية والإعلامية وحرية التعبير.
إن دخول القوى الجديدة، التي أعلنت نيتها بمناهضة الفساد، إلى بنية الدولة بكل عمقها ومفاصلها الإدارية والتنظيمية والسياسية والإقتصادية والمالية والأمنية، ليس بحد ذاته أمرا كافيا، بل هناك ما هو مطلوب أبعد من ذلك. مطلوب أن تتبلور تحالفات مع قوى شريكة في مكافحة الفساد إن وجدت في المجلس النيابي وفي الحكومة. ومطلوب أن تقوم أطر تحالفية مع القوى السياسية والشعبية، التي يتسم تاريخها الطويل بمقارعتها للفساد، وبالنضال الدؤوب لبناء دولة القانون والعدالة الإجتماعية وتكافؤ الفرص، من خارج البرلمان والحكومة.
ومطلوب أن نرى كيف سيتم التعامل مع سياسات الإدارة البيئية، والسياسة الإقتصادية المتعلقة بتطوير ودعم القطاعات المنتجة، والسياسات المالية المتعلقة بإدارة الدين العام وحماية النقد والقيمة الشرائية لليرة اللبنانية. ولنرى كيف سيتم رفع مستوى الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه ومواصلات وطبابة واستشفاء وضمان الشيخوخة والوقاية البيئية والصحية.
لننتظر ونرى كيف سيتحقق الإنخراط في تحالفات واسعة على المستويات السياسية كافة. على مستوى قوى السلطة في البرلمان والحكومة، وعلى مستوى القوى والأحزاب خارج السلطة، وعلى المستوى الشعبي العام.