قلنا أن الزئبق مادة كيميائية عالية السمية البشرية وملوث خطير للبيئة، وأوضحنا في المقالة السابقة مخاطر الزئبق على الصحة البشرية، فلماذا نعتبره ملوثا خطيرا للبيئة؟
إن تميز الزئبق ومركبات الزئبق بالثبات، أي بالإستقرار والبقاء لمدة طويلة في أوساط البيئة، وبالقدرة على التراكم في الأوساط الحيوية وفي أجسام الكائنات الحية، بالإضافة إلى سميته العالية للصحة البشرية وسميته البيئية العالية أيضا، زيادة على أن الزئبق يكون ساما في كل أشكال وجوده، كعنصر معدني، ومركبات غير عضوية ومركبات عضوية، وإذا تفككت هذه المركبات وتحللت، فهي تتفكك وتتحلل إلى مركبات سامة أيضا، أو إلى عنصر معدني سام. إن الزئبق ومركباته تتنقل من وسط بيئي إلى آخر، محافظة على كل ميزاتها السمية حيال الصحة البشرية والمنظومات البيئية المختلفة. لكل هذه الأسباب نعتبر الزئبق ملوثا كونيا Global Pollutant، واستلزم التحكم بمخاطره الواسعة وضع اتفاقية دولية ملزمة لحماية الصحة البشرية والبيئة من مخاطره.
تتلوث التربة بالزئبق ومركباته عبر التخلص من وحول محطات معالجة المياه المبتذلة، أو عبر التخلص من المياه المبتذلة دون معالجة في التربة، أو عبر الممارسات الخاطئة والخطيرة لاستعمال المياه المبتذلة غير المعالجة في ري المزروعات. وتتلوث التربة أيضا عبر التخلص من نفايات عيادات طب الأسنان في المكبات العشوائية، أو عبر المدافن والمقابر حيث تتحلل حشوات الملغم الزئبقي وتنتشر في التربة.
تتلوث المياه السطحية، وربما الجوفية أيضا، عبر التخلص من مياه عيادات طب الأسنان في مجاري الصرف الصحي، دون أخذ أي إجراءات لفصلها وادخالها في نظام للإسترداد والمراقبة والتخزين الآمن. وكذلك أيضا يمكن أن تتلوث مصادر المياه من الزئبق الخارج مع البول والخروج لأشخاص يحملون حشوات ملغم زئبقي في أسنانهم.
يتلوث الهواء أيضا، إن في الفضاءات المغلقة أو في الهواء الجوي، بالزئبق وأبخرته، التي تتحقق خلال عملية وضع حشوة الملغم الزئبقي في السن في عيادة طبيب الأسنان. من المفيد القول أن الزئبق معدن سائل ثقيل وسريع التبخر على درجات حرارة الجو العادية، وتزداد قدرته على التبخر مع ارتفاع درجات الحراة. تعتبر محارق النفايات أهم مصدر لتلوث الهواء الجوي بالزئبق، حين يتم حرق النفايات المحتوية على مخلفات الزئبق، أو مخلفات منتجات تحتوي على الزئبق، أو مخلفات ملوثة بالزئبق ومركباته.
تنتقل ملوثات الزئبق ومركباته من الأوساط البيئية المختلفة، تربة ومياها وهواء عبر مناطق العالم وعلى المستوى الكوني، حيث تستقر في الأوساط المختلفة لمدد تطول أو تقصر، منتقلة بعدها، في ظروف ملائمة، إلى أوساط أخرى وهذا دواليك. هكذا ينتقل الزئبق ومركباته إلى السلسلة الغذائية للإنسان عبر تراكمها بتراكيز كبيرة في أنسجة الأسماك في البحر والمحيطات والأنهر، حيث تتزايد الكميات المتراكمة في أجسام الأسماك الأكبر حجما فالأكبر فالأكبر. فنرى مثلا أعلى تراكيز للزئبق ومركباته في لحوم سمك الطونة والقرش وغيرها من الأسماك الكبيرة جدا، مثل سمك الأسقمري البحري Mackerel، وسمك أبو سيف Swordfish.
إن تلوث البحر والمحيط بالزئبق يؤدي إلى تحول الزئبق المعدني ومركباته المعدنية، بفعل نشاط بعض أنواع البكتيريا والأجسام الدقيقة، إلى مركبات عضوية للزئبق (مثيل الزئبق)، وهي تتميز بسمية عالية جدا للإنسان المستهلك للأسماك الملوثة وللأحياء البحرية أيضا.
النشاط الثاني في أنشطة بنكوك المكوكية، كان الإجتماع السنوي لـ”التحالف العالمي من أجل طب أسنان خال من الزئبق” World Alliance for Mercury-Free Dentistry. وهو تحالف لمنظمات غير حكومية يضم أكثر من 45 منظمة من مختلف القارات، من أميركا الشمالية وأميركا اللاتينية وأوروبا وإفريقيا وجنوب شرق ووسط آسيا والباسفيك وغرب آسيا والبلدان العربية. ينشط هذا التحالف مع الحكومات والمنظمات الدولية، ولا سيما برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومنظمة الصحة العالمة، ومرفق البيئة العالمي وغيرها، من أجل تحقيق التخفيض التدريجي لاستعمال الزئبق في طب الأسنان، تنفيذا لاتفاقية ميناماتا بشأن الزئبق، التي نصت على العمل لوضع استراتيجيات وبرامج للتخلص التدريجي من الملغم الزئبقي في طب الأسنان.
استعرض الإجتماع التجارب والنشاطات والبرامج والمشاريع التي نفذت في مختلف القارات، ولا سيما النجاحات التي تحققت في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتنية، وكذلك التقدم الذي تحقق في أوروبا، وظهر من خلال التشريعات والدلائل التي وضعها الاتحاد الأوروبي في مجال وقف استعمال الملغم الزئبقي عند الأطفال والأمهات الحوامل والمرضعات. هذا الهدف المرحلي، هو الذي وضعه “التحالف العالمي” منذ سنوات، ويعمل جاهدا على تحقيقه في مختلف البلدان. واستعرض الاجتماع أيضا، الأعمال المنجزة في العديد من بلدان آسيا وإفريقيا لناحية التشريعات، التي تم تحضيرها، وبعضها قد جرى إقراره من قبل وزارات الصحة وحكومات تلك البلدان. وكذلك ما بذل من جهود مع كليات طب الأسنان في العديد من البلدان، بهدف تعديل مناهج التعليم، بحيث تراعي التوجه العالمي للتخلص التدريجي من استعمال الزئبق في طب الأسنان، كخطوة مرحلية للتخلص النهائي من هذا الاستعمال.
ناقش الإجتماع السنوي أيضا، استراتيجية المدافعة، التي ينبغي على المنظمات الأعضاء العمل على تحقيقها، وذلك بالتعاون النشيط مع الإعلام بكل أشكاله.
استعرض الإجتماع أيضا، برنامج التحضير للمؤتمر الثاني لاتفاقية ميناماتا COP 2، الذي سيعقد في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 في جنيف، المدينة السويسرية. وكذلك الإجتماعات الإقليمية التحضيرية، التي ستعقد أواخر هذا الصيف تحضيرا للمؤتمر.
أقر الإجتماع استراتيجية مرحلية ترتكز على العمل خلال المؤتمر الثاني للاتفاقية على الانتقال من “التخلص التدريجي” Phase-Down من الملغم الزئبقي في طب الأسنان، الذي تنص عليه الآن الاتفاقية، إلى “التخلص النهائي” Phase-Out، وذلك باعتماد الآليات المنصوص عليها في الإتفاقية بشأن عمل المؤتمر، وآليات اتخاذ القرارات. سيعمل “التحالف العالمي من أجل طب أسنان خال من الزئبق”، بالتعاون مع بعض الحكومات، على وضع “ورقة غرفة اجتماعات” Conference Room Paper CRP بهذا المضمون لطرحها أمام المؤتمر، بهدف إقرار التخلص النهائي مع تحديد مهلة زمنية لتحقيق ذلك.
أما الاستراتيجية العملية للتحالف هي على مرحلتين: الأولى، متابعة العمل على تشريع التخلص النهائي من استعمال الملغم الزئبقي في أسنان الأطفال ما دون الخامسة عشرة من العمر وعند الأمهات الحوامل والمرضعات. والثانية، تحقيق التخلص النهائي عند كل الناس من مختلف الأعمار والفئات.
أقر الإجتماع أيضا استراتيجية للتعاون مع الحكومات، وهناك كثير من حكومات العالم تتبنى هذا التوجه، بل هي بادرت طوعا إلى تطبيقه قبل اتخاذ قرار عالمي ضمن اتفاقية ميناماتا، وقبل أن يصبح ملزما، وكذلك التعاون مع المنظمات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية، ومنظمة اليونيسيف، والإستمرار في التعاون الوثيق مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة. ومن جهة أخرى بالطبع، تعزيز العمل مع المنظمات غير الحكومية، وكل منظمات المجتمع المدني، من إتحادات نسائية، وحقوق الطفل والأمومة، والنقابات العمالية والمهنية الأخرى، وفي مقدمتها نقابة أطباء الأسنان، ومع الأكاديميا، ولا سيما كليات طب الأسنان، والإعلام بكل أشكاله، المرئي والمسموع والمكتوب ووسائل التواصل الإجتماعي، لتحقيق الأهداف النبيلة التي نسعى إليها.