في زمن الحرب، يوم صادرت الميليشيات الأملاك البحرية، كانت السرقة غير منفصلة “ثقافة” الحرب، بحيث أن تراجع حضور الدولة المركزية القوية جعلها تكيةً لحديثي النعمة، وهذا أمر معروف في الحروب والصراعات الأهلية، لكن ما يستعصي فهمه، كيف أن الدولة مع استعادة دورها “شرعنت” فعل السرقة انطلاقا من مقولة “الأمر الواقع”، ولم تقْدِم على أية خطوة لاستعادة حقها المهدور، ولم توظف هذا الملف بما يعيد “هيبتها”!
ولأن “الرزق السائب يعلم الناس الحرام”، استمر مسلسل مصادرة الأملاك البحرية، بعناوين “زيَّـــنت” للرأي سرقتها، وتم ربطها بـ “التنمية ورفاه المواطنين وتعزيز قطاعي السياحة والاستثمار”، من الشمال إلى الجنوب، وعلى امتداد الشاطىء الذي أسال لعاب من يفترض بهم أنهم أمناء على مال الدولة وأملاكها، فيما هم شركاء بالعلن أو متوارون خلف الأتباع والأزلام، وما أكثرهم.
تدمير “ذاكرة” أنفه
فبعد الرملة البيضاء و”دالية الروشة” والذوق والناعمة والضبية، يحط هذا المسلسل الجهنمي رحاله في بلدة أنفه الساحلية في شمال لبنان، وكان greenarea.info قد تناول في وقت سابق قضية ملاحات رأس الناطور (شمالي أنفه) هذه المعالم المصنفة سياحية، إلا أن ذلك لم يشفع لها لتكون في منأى عن التخريب كما أجبر أصحاب الملاحات على بيعها، أو تركها، مقابل بدل خلو للاراضي المستأجرة، على أوقاف تابعة لدير الروم الأرثوذكس.
هذا فضلا عن بيع أراضي الساحل الشمالي واستثمارها من خلال احدى الشركات العقارية، بعد الضغط على أرباب الملح اللبناني، من خلال ضرب الانتاج باستيراد الملح بثلث ثمنه من مصر.
وبات واضحا أن ثمة من يريد تدمير “ذاكرة” أنفه ومعالمها التاريخية وهي تمثل رمزا لهذه البلدة ومحيطها، بدليل أنه ما إن انتهت جلسة مجلس الوزراء الاسبوع الماضي حتى بدأت تعلو أصوات تتحدث عن فضيحة بموضوع الأملاك البحرية في أكثر من منطقة، وكأن الوعود الانتخابية المتمثلة لحماية الشاطئ تبخرت فجأة، واتفق المجتمعون في جلسة مجلس الوزراء على تمرير صفقة الأملاك البحرية الموزعة بالحصص على المستفيدين.
جنبلاط “يغرد”
وفي هذا السياق “غرّد” وليد جنبلاط على “تويتر”، قائلا: “وهكذا وبشخطة قلم في مجلس الوزراء تزال الملاحات التاريخية في انفة في شمال لبنان لصالح مشروع استثماري لا يقدر اصحابه لا التاريخ ولا التراث. نفس الشيء يحدث في العمارات القديمة في بيروت وفي كل مكان تقريبا .انه عصر حديثي النعمة، عصر الطاووسية المجتمعية الفارغة والحاقدة والمدعية”.
وفي سياق متصل، ارتفعت أصوات الجمعيات البيئية والتراثية والاجتماعية للتصدي لهذا المشروع المدمّر لتاريخ وثقافة وتراث لبنان.
وأشار سعدالله خوري (ناشط من الكورة) إلى أن “على الشعب اللبناني رفع الصوت ومساندة أهالي أنفه والكورة والجمعيات الناشطة في الشمال”، وشدد على “مواجهة مشروع الموت”، مطالبا “بحماية الملاحات التاريخية والتراثية من قبل الوزارات المعنية، ولا سيما وزارة الثقافة”، وأكد أن “قضية إزالتها باتت تتجدّد في كل فترة وبجب حمايتها”.
جريج: محمية بيئية طبيعية
حافظ جريج صاحب احدى الملاحات، قال لــ greenarea.info: “منطقة الملاحات والأحراج النادرة والبيئة البحرية وصيد السمك، مهددة بمشروع مساحته مليون متر مربع، سيقضي على الاخضر والابيض والازرق في رأس الناطور، هذه المنطقة الخالية من العمران والمصنفة على انها انظف بحر في لبنان، وهي المنطقة التي تدافع عنها (ثورة الملح)”.
وأضاف: “أصحاب السلطة والمال استأجروا الارض من وقف دير الناطور منذ عشرين سنة، ولكنهم حتى الآن لم ينفذوا مشروعهم الموافق عليه من التنظيم المدني والبلدية، وما زلنا نناضل لإبطاله وإعلان الملاحات ورأس الناطور محمية بيئية طبيعية وتراثاً وطنياً لإنتاج الملح البحري اللبناني الممتاز”.
وأردف قائلا: “رفض المجلس الأعلى للتنظيم المدني بالإجماع مشروع مدينة ضخمة في رأس الناطور، كونها تدمر أنظمة بيئية نادرة في البر والبحر، فضلا عن ملاحات وأحراج وشواطئ وصخور ومصائد سمك ونباتات عطرية طبية،ووكذلك مناظر طبيعية وبحر يعد الأنظف على الساحل اللبناني”.
وإذ أكد أن “ثورة الملح مستمرة”، تمنى من سائر الجمعيات البيئية والتراثية والاقتصادية الوطنية ووسائل الاعلام مساندتها في الضغط كي لا يمر المشروع في جلسة الوزراء الاخيرة”.
الحركة البيئية
وفي هذا المجال أيضا، وجهت الحركة البيئية في لبنان رسالة الى “رئيس مجلس الوزراء سعد الدين الحريري طالبت الحكومة اللبنانية ، رئيساً ووزراء، عدم الموافقة على هذا المشروع في حال جرى عرضه في الجلسة الاخيرة من عهد هذه الحكومة”.
وجاء في الرسالة: “نتمنى ان يكون ختامها مسك برفض هذا المشروع وانقاذ رأس الناطور العظيم القيمة من مجزرة بيئية ذات اسوأ الآثار البيئية والتراثية والطبيعية فيها”.
وأضافت: “المشروع الذي رفضه المجلس الأعلى للتنظيم المدني واعترضت عليه جمعيات وشخصيات كثيرة ناشطة في دعم الاقتصاد اللبناني بموارده الطبيعية والتراثية والثقافية والانتاجية الوطنية، وقد رفضه بالإجماع المجلس الأعلى للتنظيم المدني، لأن دراسات وتوصيات الخطة الشاملة لترتيب الاراضي اللبنانية كانت قد اعتبرت ان هذا الجزء من الشاطئ اللبناني هو ذو خصائص بيئية نادرة ومميزة ، ويمثل أثراً طبيعياً اخيراً لم تتدهور احواله النباتية والبحرية حتى الآن بفعل تأثير اعمال دخيلة من الانسان، وقد دلت الدراسات ان بحر رأس الناطور ما زال سليم البيئة والتنوع البيولوجي، ويعطي أفضل ملح بحري في العالم في ملاحاته التراثية التي جعلت أنفه عاصمة الملح اللبناني بامتياز، لا سيما زهرة الملح الشهيرة بنقاوتها وتركيبها الطبيعي عالي الجودة”.