وضع الفريق التقني لـ”إئتلاف إدارة النفايات” مراجعة تاريخية لسياسات إدارة النفايات في لبنان، منذ 1975 وحتى الآن. وبيَّن فيها الكلفة العالية جدا لهذه السياسات على التدهور البيئي، وعلى الأمان الصحي، وعلى حسن إدارة المال العام.
سوف أتناول هذه المراجعة في سلسلة من المقالات، بغية المساهمة في نشر الوعي بشأن مسؤولية سياسات الحكومات والبرلمانات اللبنانية عن الخراب البيئي العميق والشامل، الذي حل بطبيعة لبنان بكل أوساطها، بحرا، ومياها سطحية (أنهارا وبحيرات ومجاري مائية)، ومياها جوفية وينابيعا، وتربة، وهواءً في بيروت والمدن الكبرى، بل وفي كل مناطق لبنان، حيث شمل التلوث الكبير الهواء الجوي في مناطق جبلية وداخلية، نتيجة الحرق المتكرر للمزابل العشوائية المنتشرة في كل المناطق، والتي تجاوز عددها الـ 1350 مكبا عشوائيا.
تكشف هذه المراجعة التاريخية، لسياسات الحكومات والبرلمانات اللبنانية في مجال إدارة النفايات، عن مدى الإعتباطية والإرتجال في اتخاذ القرارات بشأن هذا الملف، على مدى السنين والعقود، وصولا إلى آخر ما اتخذته الحكومة الحالية، قبل أن تصبح حكومة تصريف أعمال، من قرارات غير مدروسة بالعمق الكافي، والتي تندرج في نفس سياق الإعتباط والإرتجال، ولكنها دائما تترافق بإدارة الظهر لمسؤولياتها في الحفاظ على البيئة، بكل أوساطها ومكوناتها ووظائفها، تطبيقا للقوانين المرعية الإجراء، وفي مقدمتها قانون حماية البيئة رقم 444 للعام 2002، حيث تتلكأ كل الحكومات المتعاقبة، ووزارء البيئة المتعاقبين، عن وضع المراسيم التطبيقية لهذا القانون، من أجل تسهيل وتيسير تطبيقه من قبل كل الجهات، من قطاع عام وقطاع خاص، ومواطنين، تحت مراقبة وإشراف وزارة البيئة. وبقمع المخالفات بالجدية اللازمة، حماية للبيئة ولحقوق اللبنانيين ببيئة نظيفة، في هذا الجيل والأجيال القادمة. وكذلك، بإدارة الظهر لمسؤولياتها بحماية صحة اللبنانيين وكل القاطنين في لبنان، وتركهم فريسة مستويات متصاعدة وخطيرة من التلوث، في الهواء الجوي، وفي مياه البحر، ومياه الأنهر، وما التلوث الخطير في نهر الليطاني وبحيرة القرعون، إلا نموذجا عنها. وأشارت تقارير علمية مؤخرا، صادرة عن مركز البحوث الزراعية، بأن كل مياه لبنان على درجة عالية جدا من التلوث الكيميائي والجرثومي، وأن معظم ينابيعه معرضة للتلوث، وبالتالي إن كل مياه الشرب في لبنان ينبغي أن تخضع لفحوص مخبرية للتأكد من سلامتها وصلاحيتها للشرب والإستعمال البشري.
لقد شهدت السنوات الأخيرة ازديادا كبيرا بنسبة التعرض والإصابة بالأمراض السرطانية، في كل لبنان، ولا سيما في بعض المناطق، حيث يمكن اعتبارها نقاطا ساخنة للتلوث. ترافق ذلك مع ارتفاع نسب التعرض للأمراض المزمنة الأخرى، مما يؤكد الخلاصة، التي تقول بأن التدهور البيئي الكبير، الناتج عن السياسات الحكومية الفاشلة حيال ملف النفايات، تؤدي إلى تدهور موازٍ في الوضع الصحي، وتراجع كبير في الأمان الصحي للشعب اللبناني.
ومن جهة أخرى، ترافقت سياسات الإعتباط والإرتجال، مع هدر كبير، بل نهب منظم للمال العام، دون تحقيق الغايات المفترضة لإدارة سليمة بيئيا وصحيا للنفايات. مئات ملايين الدولارات، بل مليارات الدولارات أنفقت على عقود متعلقة بإدارة النفايات، لم تؤدِّ إلى تحقيق الأهداف المرتجاة منها في حماية البيئة والصحة العامة، عبر إدارة متكاملة سليمة بيئيا للنفايات، وفق سياسة مدروسة، ذات مردود بيئي واقتصادي – اجتماعي، ووقائي صحي، عالية الفعالية.
قسمت مراجعة “إئتلاف إدارة النفايات” المرحلة التاريخية منذ 1975 وحتى 2018 إلى عدة مراحل، عرفت كل مرحلة منها خطة حكومية لإدارة النفايات، اتسمت بالإرتجال، وبعدم الإلتزام بأدنى شروط المعايير البيئية والصحية وحس الحفاظ على المال العام، بل بتأمينها مصالح فئوية لقوى نافذة في السلطة السياسية، على حساب المصلحة العامة، وفق كل المؤشرات والمعايير. وتوقفت عند تواريخ هامة أعلنت فيها قرارات ذات تأثير كبير، في غالب الأحيان، عميق بسلبيته وانعكاساته على مصالح اللبنانيين وحقهم في بيئة نظيفة.
ففي السنوات من 1975 حتى 1992، كانت إدارة النفايات المنزلية في عهدة البلديات، في ظروف عالية التعقيد والصعوبة، لناحية الأوضاع الأمنية، وعدم استقرار الحياة لعموم الشعب اللبناني، ولغياب انتخابات بلدية تجدد حيوية مجالسها. فعرف لبنان في هذه الفترة انتشار لعدد كبير من المكبات العشوائية، ونمت المكبات الكبرى على الشاطيء اللبناني.
كان العام 1993 عاما مهمَّا في السياق التاريخي لمسألة إدارة النفايات في لبنان. فمن جهة، صدر في هذا العام القانون رقم 216 بتاريخ 2/4/1993، “قانون إحداث وزارة البيئة”. المادة (2) من هذا القانون، تحدد صلاحيات وزارة البيئة، نجتزيء منها ما يلي: ” تتولى وزارة البيئة، بالتنسيق مع الإدارات المعنية:
- إعداد سياسة عامة ومشاريع وخطط طويلة ومتوسطة المدى في كل ما يتعلق بشؤون البيئة واستعمال الموارد الطبيعية واقتراح الخطوات التنفيذية لتطبيقها ومراقبة التنفيذ.
- وضع الدراسات التفصيلية للخطط الواجب اتباعها للمحافظة على المحيط ومكافحة التلوث مهما كان مصدره، وبالأخص النفايات والمياه المبتذلة وملوثات الهواء والتسربات إلى المياه الجوفية ومياه الشفة والري، وذلك بعد القيام بإجراء مسح شامل للمنشآت القائمة على الشاطئ كافة أو في الداخل والتي تشكل نفاياتها خطراً محتملاً على البيئة.”
على الرغم من صدور هذا القانون، وإنشاء وزارة للبيئة، محددة صلاحياتها بكل وضوح في قانون إحداثها، صدرت قرارات تسند فيها الحكومة إلى مجلس الإنماء والإعمار مسؤولية قطاع النفايات في بيروت وضواحيها. وإذا عدنا إلى سياسات الحكومات في تلك الحقبة، وتحديدا في العام 1993 وما تلاها، كان لبنان، في مفهوم الحكومة وفريق مستشاريها ومؤسساتها الفاعلة، التي حلت محل الإدارة العامة، يقتصر على بيروت وضواحيها. وفي أوسع فهم له كان يشمل ما اصطلح على تسميته “بيروت الكبرى”. أما باقي مناطق لبنان فكانت عمليا خارج نطاق اهتمام الحكومات، ليس فقط في مجال ملف إدارة النفايات، بل في كل ما له علاقة بالتنمية الحقيقية، حتى وصل الأمر حد وضع خرائط للبنان، متعلقة بمشاريع إعمارية وإنمائية، لا تشمل الجنوب اللبناني، من جسر الأولي حتى الحدود الدولية.
ما يهمنا هنا، التدليل على ممارسة الحكومة آنذاك، في إحداث وزارة خاصة للعناية بالبيئة وملفاتها، وفي نفس الوقت تكليف مجلس الإنماء والإعمار إدارة ملف النفايات. ولكن في الواقع، أنيط بهذا المجلس أن يحل محل كل الوزارات، وليس فقط وزارة البيئة، في كل ما له علاقة بمشاريع التنمية والإعمار. وترافق ذلك أيضا مع ما شهدته الإدارة العامة من تجاهل كامل، واستعيض عنها بهيئات ولجان ومجالس استشارية، وباعتماد التعاقد والتشغيل بالفاتورة، بدل التوظيف وفق معاير وآليات مجلس الخدمة المدنية…ولا يزال هذا النهج الحكومي المدمِّر للإدارة العامة مستمرا حتى اليوم.
بلغ تجاوز صلاحيات وزارة البيئة ومصادرتها، وإضعاف دورها ومسخه عمليا، حد اعتبار عدد كبير من وزراء البيئة المتعاقبين “أن وزارة البيئة هي ذات صلاحيات استشارية”. بلغ الهزال والضعف حد اعتبار وزارة، وهي جزء لا يتجزأ من السلطة التنفيذية، لا وزن لرأيها ولا قيمة له، باعتباره استشاريا، بموافقة وإقرار وتصريح عدد كبير من وزراء البيئة. وهذا الوضع لا يزال مستمرا حتى الآن، في استضعاف وزارة البيئة وتناتش صلاحياتها، وسحب الملفات من عهدتها، وفي المقدمة منها ملف إدارة النفايات.
في المقالة القادمة سنتحدث عن مرحلة إقفال المكب العشوائي في برج حمود 1997، والخطة الطارئة وافتتاح مطمر الناعمة. هذه المرحلة، التي امتدت حتى العام 2015.