قصور أم تقصير؟ جهل أم تجاهل؟ حملات وحملات مضادة، وفي كل الحالات نهر الليطاني لا يزال يعيش كارثة التلوث ذاتها.
منذ سنوات ظهرت كارثة التلوث في نهر الليطاني على واجهة الأحداث، وملأت صفحات الإعلام وشاشاته. في واقع الأمر لا شيء تغير حتى الآن. لا مصادر التلوث قد توقفت، أو توقف بعضها، أو جرى تخفيف تدفقاتها إلى مجراه، وحوضه. كلام كثير يقال، على ألسنة العامة والخاصة والمسؤولين من مختلف المواقع، فيه التناقضات، وشد الحبال، والتطمينات وكلام كثير لا قيمة علمية له…ضجيج يملأ وسائل التواصل الإجتماعي، فيتفاعل معه بعض الإعلام، وبعض المسؤولين دون تمحيص، أو محاولة جدية لوضع الإصبع على الجرح الحقيقي.
بعضهم يندفع للقول أن النهر بخير وصحة جيدة، والبعض الآخر يصرح بأن لا مشكلة، والنهر صالح للسباحة والإستجمام، وآخرون يصدرون مذكرات مكتبية، لا علاقة لها مع حقيقة أسباب المشكلة، ولا هي متوافقة مع وقائع الأمور. مسؤولون يعطون الموافقات، ويصدرون قرارات المنع دون التعرف على حقيقة ما يجري من تطور في حال النهر، مع تبدل الفصول وتغير أحوال الطقس.
نهر الليطاني يستحق جدية أكبر من إجراءاتكم، التي لا تغير في واقع تلوثه شيئا، ولا تضع حدا للمخاطر، التي لا تزال جاثمة على مجراه.
تتفاعل منذ أيام قضية تلوث نهر الليطاني في مساره الأسفل، أي جنوب جدار سد القرعون. وأخذت مداها على مواقع التواصل الإجتماعي، حيث تنشر صورا تظهر النهر ملوثا بالطين، مرفقة بتعليقات تنتقد التقصير الرسمي، على كل مستويات المسؤولية تجاه نهر الليطاني. يقابلها نشر لصور تظهر النهر صافيا رقراقا، مرفقة بتعليقات تبالغ في اعتبار النهر بصحة جيدة، ونافية لصحة كل ما يقال عن تلوثه.
لينجلي الأمر على حقائق تدين كل المعنيين بالنهر.
قيل أن وزارة الطاقة والمياه، وهي إحدى السلطات المعنية بالنهر وليست الوحيدة، أنها أعطت الموافقة لبعض أصحاب المقاهي في منطقة قعقعية الجسر لتنظيف النهر، وإزالة الرمول والطين والطمي المتراكم في تخت مجراه. هذه الوزارة لا تكلف نفسها عناء التنسيق مع السلطات الأخرى، المعنية بالنهر بدرجة لا تقل عنها، بل تزيدها في بعض جوانب المسؤولية. لا هي نسقت مع المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، ولا مع وزارة البيئة، ولا مع وزراة الداخلية والبلديات (البلديات والمحافظين المعنيين مباشرة)، ولا مع أي جهة رسمية أومدنية (غير رسمية) معنية وتعنى بكارثة تلوث نهر الليطاني، وبالجهات التي ترتبط مصالحها بالنهر ومياهه، إن للري أو للإستجمام والترفيه والسياحة.
وقيل أن المصلحة الوطنية لنهر الليطاني أرسلت فريقا فنيا للكشف، وأن الأمور تحت السيطرة، ولا مشكلة في ارتياد النهر سباحة وترفيها، وأن مسألة العكرة قد انتهت بعد أيام معدودة من عملية التدخل لتنظيفه في منطقة قعقعية الجسر.
وقيل أيضا أن محافظ النبطية أصدر قرارا بوقف العمل بالمرامل ومغاسل الرمول والكسارات والمقالع في منطقة النهر وفي الريحان والعيشية، أي في منطقة الجبال في الجهة الغربية لحوض النهر في مساره الجنوبي.
كل هذا الذي قيل عن قرارات موافقة، وزيارات متابعة، ومذكرات إقفال، ومهما كان الضجيج الإعلامي، التي رافق هذه الأحداث، ومدى التفاعل الشعبي معها على مواقع التواصل الإجتماعي، من كل الأطراف الموالية والمعارضة، المنتقدة لواقع التلوث المرير للنهر، ولمروجي المبالغات في تبييض صفحته، وكأنه تعافى وأصبح بألف بخير….كل هذا لم يغير شيئا في حقيقة واقع التلوث، الذي أصاب ويصيب النهر، من أسباب تلويث لا تزال قائمة وفاعلة، ولم تطاولها عمليا، لا إجراءات الوزارات والمصالح والموظفين الكبار، ولا مذكراتهم وقراراتهم، ولا سيل الفواتير، التي صرفت حتى الآن في سياق قانون معالجة التلوث في نهر الليطاني وبحيرة القرعون، التي يقال أن مجموع ما أنفق حتى الآن تجاوز الـ 150 مليون دولارا.
أيها المسؤولون في كل المواقع. في وزارة الطاقة والمياه، وفي وزارة البيئة، وفي وزارة الداخلية والبلديات، وفي المجالس البلدية. أيها المحافظون المعنيون، أيها المسؤولون الإداريون والفنيون في المصلحة الوطنية لنهر الليطاني. أيها المعنيون بالأنشطة الإقتصادية على ضفاف النهر في مساره الجنوبي، والمستفيدون من مياه النهر رياً وسياحةً ورياضةً واستجماماً…أيها المواطنون القاطنون في قرى وبلدات ومدن حوض النهر في قسمه الجنوبي، أيها الناشطون البيئيون المدافعون بإخلاص عن نهركم، أيها الإعلاميون الصادقون في حرصكم على نقل حقائق ووقائع حالة تلوث النهر. أيها الناشطون على مواقع التواصل الإجتماعي، المتعاطفون مع كل الجهات، لا فرق، إليكم ببساطة حقيقة تلوث نهر الليطاني في قسمه الجنوبي، التي لم يطرأ عليها أي تغيير يذكر منذ 2016 حتى الآن.
مصدران أساسيان لتلوث نهر الليطاني في مساره الجنوبي.
المصدر الأول، هو تدفق مياه الصرف الصحي غير المعالجة، والمجموعة في شبكات للمجارير والمنقولة عبر أنابيب جامعة Collectors لتصب مباشرة في مجرى النهر، في قسمه الجاف على بعد 2 كلم جنوبي جدار السد، أي مجارير مدينة سحمر، مكونة “جدولاً” للمياه المبتذلة بطول يزيد عن 3 كلم (صيف 2016)، ومجارير بلدة يحمر البقاع، التي تصب مباشرة في مياه النهر في منطقة “كعب بلاط”، منقولة في مجرى إسمنتي مقفل. وكذلك تتسرب إلى مجرى النهر، عبر حوضه، مياه مبتذلة غير معالجة لعدد آخر من قرى وبلدات حوض النهر في مساره الجنوبي.
المصدر الثاني، الذي أدى إلى تغيير كبير في مورفولوجيا النهر، أي في شكل النهر وسلامة تخت مجراه وضفافه، عبر تراكم كميات هائلة من الرمول والطين والطمي في مجراه، وتصل سماكتها في بعض المواقع إلى ما يقارب المتر أو أكثر. هذه الرمول والطين والطمي، جرفت إلى مجرى النهر من بعض مواقع المرامل، الواقعة على ضفة النهر مباشرة، أو من بعضها الواقع في جبال الريحان والعيشية والمحمودية، المربوطة مع مجرى النهر عبر بعض الينابيع أو المجاري الشتوية. وهذه في الغالب تتميز باللون البرتقالي.
هذه المرامل، وفي الأخص منها، مرملة “العرب” الواقعة في منطقة جسر لحد، شكلت وتشكل حتى الآن، على الرغم من توقف العمل فيها منذ بضعة سنوات، المصدر الرئيسي لجرف الرمال والطين والطمي إلى مجرى النهر مباشرة، حيث تفصلها عنه بضعة أمتار فقط، وهي مسلطة مباشرة عليه.
إن هذا الموقع للمرملة المقفلة، يتسبب بجرف ألوف الأطنان من الرمول والطين والطمي مع سيول مياه المطر، مع كل زخة مطر تحدث طوال فصل الشتاء والربيع، وحتى بدايات الصيف، كما حدث هذا العام (2018). هذا الموقع لا يزال مصدرا كبيرا لإمداد مجرى النهر بمزيد من الطين والطمي والرمول.
هناك أيضا، في جبال الريحان والعيشية والمحمودية عدد محدود من المرامل، المقفلة منذ سنوات، ولكنها واقعة مباشرة على ينابيع تبقى متدفقة، ولو بكميات أقل، طوال فصل الصيف. وبعضها يقع مباشرة على مجاري شتوية تتصل بمجرى النهر في فصل الأمطار الغزيرة. هذه المرامل تنقل رمولا وطينا وطميا ملونا باللون البرتقالي. وبالتالي حين يغلب على مياه النهر اللون البرتقالي، يكون مصدر التلوث آت من مرامل الجبال، إضافة لمرملة “العرب” على جسر لحد.
ما هو الحل، الذي من شأنه أن يحد من تدفق الرمول والطين والطمي إلى مجرى النهر؟
إن كل هذه المرامل والمواقع هي مقفلة منذ سنوات، ولكن بعضها لا يزال مصدرا لتدفق الملوثات الرملية والطينية والطميية إلى النهر، مع سيول الأمطار، ومع هبوب الريح. وبالتالي وجب إصدار قرارات بمعالجة هذه المواقع، أي باتخاذ إجراءات هندسية مدنية، وبوضع حواجز صخرية أو إسمنية، بما يحمي النهر من احتمالات تدفق المجاري الحاملة للرمول والطين إليه، وكذلك بتشجير يشكل حاجزا يثبت التربة الطينية والرملية، ويخفف من احتمالات انجرافها.
إن أي إجراءات أخرى، مهما كثرت أو قست أو كثر الضجيج حولها، هي غير فعالة ولا لزوم لها، إذ أنها لا تؤدي في إلى وقف أو تخفيف الضرر الواقع بالفعل على النهر ومجراه.
إذن، الدعوة موجهة إلى المسؤولين، في الوزارات المعنية، وزارة الطاقة والمياه والبيئة والداخلية والبلديات، وإلى المحافظين والمجالس البلدية، وإلى المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، أن يضعوا الإصبع على الجرح، وأن يتخذوا القرارات الملزمة بالمعالجة الفعلية لمصادر تلويث النهر، وليس الإستجابة لكارثة تلوث النهر عبر حملات إعلامية مضادة، أو في اتخاذ قرارات لا أثر حقيقي لها. إن قرار الإقفال لا يغير في الواقع شيئا، ولا يمس جوهر أسباب التلوث بشيء. المطلوب إجبار أصحاب المرامل والمواقع، أو المستثمرين السابقين لها، على أن يقيموا إنشاءات الحماية الفعالة لمياه النهر ومجراه.
إن الكميات المتراكمة عبر السنين الماضية، وتلك التي لا تزال تتراكم، منزلقة من المواقع غير المعاد تأهيلها، بما يحمي النهر ومجراه بطريقة فعالة، هي موجودة في تخت النهر ومجراه، وهي لا تزال موجودة حتى الآن، وإن ترسبت في القعر خلال فصل الصيف. إن أي تحريك للمياه، أو أي تدخل حركي أو ميكانيكي، بما فيه السباحة في النهر، يشكل سببا كافيا لإعادة تعكير النهر، وانتقال الجزيئات الصلبة للرمال والطين والطمي من حالة الترسب في القعر إلى الحالة المعلقة، وهي حالة العكرة التي تكسب مياه النهر ألوانا متفاوتة، من لون الباج الباهت، وهو يعود بشكل رئيس للطين المميز في موقع مرملة “العرب” في جسر لحد، وصولا للون البرتقالي، الذي يميز رمول جبال الريحان والعيشية والمحمودية.
نهر الليطاني ليس بألف خير، ولا هو بصحة جيدة…السباحة فيه محفوفة بالمخاطر، ولا سيما على الأطفال.
كفوا عن الضجيج، وانخرطوا جديا في المعالجة الحقيقية لأسباب التلوث…هذا ما يستحقه نهر الليطاني وكل المواطنين، الذين ترتبط مصالحهم بهذا النهر ومنظومته البيئية.