في بلد مثل لبنان، هل المسألة البيئية وانعكاساتها على الصحة تشكل فعلا هاجسا صادقا وحقيقيا لدى الوزراء، عندما يتخذون قراراتهم؟ ولدى الحكومات عندما تقرر خططها حيال هذا الملف أو ذاك؟
على ضوء خبرات الناس وتراكم تجاربها، كثيرون يشكِّكون في صدق الدوافع البيئية والصحية، حتى وإن بدا أحيانا أن هناك انعكاسات إيجابية، محدودة الفعالية بيئيا وصحيا، لبعض القرارات.
عندما قرر وزير البيئة تخفيض الرسوم الجمركية على السيارات العاملة على الطاقة الكهربائية والهجينة، أو إعفاءها كليا من هذه الرسوم، رحَّبنا بالقرار واعتبرناه في الإتجاه الصحيح، حيث أنه يشكل حافزا لتشجيع الناس على اقتناء هذه الأنواع من السيارات، ما ينتج عنه تخفيفا، ولو طفيفا، لتلوث الهواء الجوي من قطاع النقل، وبالتالي تخفيفا للمخاطر على الصحة العامة المرتبطة بالتعرض لهذا التلوث.
ولكن، إذا نظرنا في مسألة تلوث الهواء الجوي من قطاع النقل وتأثيراته على الصحة العامة وكلفته الإجمالية على الإقتصاد الوطني، وإذا حدَّثنا حسابات الكلفة، التي احتسبتها دراسة للبنك الدولي مع مراكز أكاديمية في لبنان في أواخر التسعينات، حيث بلغت حينها 150 مليون دولارا سنويا، لتجاوزت اليوم حدود الـ 200 مليون دولارا، بعدما تضاعف عدد المركبات الآلية في لبنان، وبعدما زاد عدد السكان وعدد المقيمين من عرب وأجانب، خصوصا في السنوات الأخيرة، هل يلبي الإكتفاء بقرار تخفيض الرسوم الجمركية على تلك السيارات “البيئية” الحاجة الإستراتيجية إلى سياسات تخفيض مستويات التلوث من قطاع النقل؟
على رأس تلك السياسات المطلوبة، وضع خطة نقل وطنية تعتمد على النقل المشترك (النقل العام)، وتنويع وسائل النقل العامة لتشمل قطارات سكك الحديد، وخطوط باصات منتظمة بين المدن، وشبكات ترامواي وترولي (باصات تعمل على الكهرباء)، وخطوط مترو تحت الأرض وفوقها.
إن الإكتفاء بملامسة قشور الملفات الساخنة بخطورتها على البيئة والصحة العامة لا يمكن احتسابه إنجازا نفاخر به، في ظروف تفاقم الأزمات في كل القطاعات وفي كل مجالات حياة اللبنانيين، ومع وصول مستويات تلوث الهواء، من مصادر قطاع النقل وقطاعات أخرى، مستويات مقلقة جدا، وتشكل تهديدا عالي الخطورة على الأمان الصحي للمواطنين في لبنان، ولأجيال عديدة قادمة.
قرار وزير الطاقة والمياه مؤخرا، بشأن حصرية استعمال “المازوت الأخضر” والتوقف عن استعمال “المازوت الأحمر”، يأتي أيضا تحت عنوان الحد من تلوث الهواء، والتباهي بتخفيف آثار تلوث الهواء على الصحة العامة. هذا ما يدعو إلى نقاش وطني واسع بشأن الدوافع الحقيقية لهذا القرار، وحول الجهات المستفيدة منه.
السؤال البديهي الذي يطرح نفسه، هل أن وزير الطاقة والمياه يسعى فعلا لتخفيف مصادر تلوث الهواء؟ وهل هو، مع كل الحكومة، مهجوس فعلا بمكافحة تلوث الهواء والتلوث البيئي عموما؟ وهل أن القرار المذكور اتخذ من أجل تحقيق هذه الغاية دون غايات أخرى؟ علما بأن الوزير لم يرفق إعلانه عن هذا القرار بلوائح مواصفات النوعين من المازوت، وأسعارهما ومجالات استعمالهما، ولا سيما ما يتعلق بتركيز الكبريت والآزوت (النيتروجين)، والحد الأدنى للقدرة الحرارية (كمية الطاقة لوحدة الوزن)، لكي يكون متاحا للشعب اللبناني القيام بالمقارنة الشاملة، وتقييم أهمية وصوابية هذا القرار، وتبريراته الإستراتيجية.
في بلد تفشل فيه وزارة الطاقة والمياه، وقبلها وزارة الموارد المائية والكهربائية، ومعها كل الحكومات المتعاقبة منذ بداية التسعينات حتى اليوم، وبغض النظر عن انتماء الوزراء السياسي والحزبي، حيث أن هذه الوزارة تعاقب عليها وزراء ينتمون إلى كل أحزاب وتيارات وحركات وكتل السلطة السياسية الحاكمة في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية، تفشل في إرساء سياسة طاقوية تؤمن للبنانيين وللإقتصاد اللبناني طاقة كهربائية كافية وموثوقة ومستمرة وبأسعار معقولة، بل هي تبقيه، على مدى ما يقارب الثلاثة عقود متتالية، رهينة انقطاع فاضح للكهرباء في مختلف المناطق اللبنانية، وتحت رحمة قطاع طفيلي يتحكم بمصائر الناس ومصالحهم، ويبتزهم بأسعار عجزت وتعجز كل السلطات عن التحكم بها، بحجة أنه يوفر خدمة تخلفت الدولة عن تأمينها.
في بلد يكافح فيه وزير الطاقة والمياه، مسخِّرا كل ثقل تياره السياسي في معركة تمرير عقود إيجار بواخر لتوليد الكهرباء، بكلفات تفوق بناء ما يحتاجه لبنان من معامل إنتاج للطاقة الكهربائية. وفي بلد تنمو فيه أسعار المشتقات النفطية كالفطر، أسبوع وراء أسبوع، بحجة ارتفاع أسعار البترول العالمية، في حين أن نسب ارتفاع أسعار المشتقات النفطية عندنا، تفوق بأضعاف نسب ارتفاع أسعار النفط العالمية، لما تحمل من أثقال الرسوم والضرائب غير المباشرة.
في بلد يجري فيه تحميل المشتقات النفطية رسوما وعبئا ضريبيا، هو الأكبر من بين كل السلع الإستهلاكية، متناسيا أنها سلعة استراتيجية، ترتبط بسعر كلفتها أسعار مئات السلع الأخرى، بل مستوى أسعار السلع والخدمات كلها، في اقتصاد “حر” متفلت ومتوحش، لا رقابة جدية فيه على شيء.
في بلد تنتشر فيه مئات، بل ألوف المكبات العشوائية، التي ترمى فيها كل أنواع النفايات، بما فيها النفايات الطبية والخطرة والصناعية، تشتعل فيها النيران، التلقائية والمفتعلة، وتبث في أجواء لبنان كله مئات ألوف الأطنان من الملوثات عالية الخطورة على البيئة والصحة البشرية.
في بلد يسير من فشل إلى فشل في إدارة ملفاته البيئية، وفي المقدمة منها ملف إدارة النفايات، المترافق دائما مع هدر فظيع للموارد الطبيعية، هواء، وبحرا وشاطئا، وأنهارا، ومياها جوفية، ومع تلويث خطير لكل أوساط البيئة، ومع نهب للمال العام متفلت من أية ضوابط، حيث بلغت عقود النفايات، للعام الفائت فقط، ما يزيد عن نصف مليار دولار من الأموال العامة، دون أي فعالية، أو تحقيق تقدم، أو نجاح في إدارة هذا الملف…
في بلد يؤسَّس فيه لتوجه خطير في الأعوام القادمة، يتمثل بإقامة محارق للنفايات، باهظة كلفة الإنشاء، وكلفة التشغيل والصيانة، وتشكل مصدرا إضافيا خطيرا ومقلقا لتلويث الهواء الجوي في المدن، والمناطق السكنية المحيطة بها، ومصدرا لمخاطر كبيرة، تتعلق بالتخلص، السليم بيئيا والآمن صحيا، من كميات الرماد السام المتولد عنها.
في بلد السياسات الملوِّثة في كل المجالات والقطاعات والإتجاهات، يأتي من يقول أن قرار “المازوت الأخضر” يتخذ بهدف تخفيف تلوث الهواء، باعتبار أن هذا النوع من المازوت يحتوي على نسبة أقل من الكبريت، وبالتالي يتسبب بانبعاث كميات أقل من ثاني أوكسيد الكبريت، وهو ملوث للهواء، لا تقارن مخاطره مع الديوكسين والفوران والمعادن الثقيلة والملوثات المسرطنة، والمسببة للأمراض المزمنة والخطيرة، التي ستنبعث من محارقكم، التي تخططون لإنشائها في العديد من ربوع لبنان.
في أوروبا، ترافق تحسين نوعية المازوت، المستعمل في التدفئة، مع تطوير تقنيات الحراقات، وخصوصا حراقات التكثيف Chaudière à condensation، التي تتيح الإستفادة من طاقة تكثيف بخار الماء، الموجود في غازات احتراق الوقود، بالإضافة إلى طاقة المحروقات نفسها.
في أوروبا، تعتمد مواصفات “المازوت البيئي الفقير بالكبريت” وبالآزوت (النيتروجين) Qualité Eco pauvre en soufre، حيث يكون فيه الحد الأقصى لمحتوى الكبريت 50 جزء من مليون أو 0.05 % كبريت، والحد الأقصى لمحتوى الآزوت (النيتروجين) 100 جزء من مليون أو 0.1 %، وأن يكون الحد الأدنى للقدرة الحرارية 42.6 مليجول/كلغ.
هل القرار يتناسب مع مصالح الشركات المستورِدة، بحيث تحقق نسبا أعلى من الأرباح مع ما يسمى “المازوت الأخضر” في لبنان؟ هذا ما سيكون بالفعل الدافع الرئيس وراء اتخاذه. من غير المعروف بعد ما إذا كانت مواصفات “المازوت الأخضر” اللبناني، تتطابق مع المواصفات الأوروبية لـ”المازوت البيئي الفقير بالكبريت” الأوروبي، ليس فقط لناحية محتوى الكبريت، بل أيضا لناحية كل موشرات ومعايير الجودة الأخرى.
لو كان الدافع البيئي يكمن حقا وراء هذا القرار، لكنا لاحظنا أنه قرار يأتي في سياق سياسات شاملة لحماية البيئة من التلوث، هواءً وبحرا وأنهارا ومياها جوفية وتربة، وفي سياق سياسات متكاملة ومستدامة لإدارة الموارد الطبيعية، وحمايتها من التدهور والإستنزاف والتدمير، جبالا وهضابا وغطاء أخضرا وسهولا وشاطئا، وفي سياق سياسات إدارة حكيمة للموارد المائية، مرتكزة على معطيات العلم في مجال الجيولوجيا والهيدروجيولوجيا، بحيث يعاد النظر بشكل كامل باستراتيجية بناء السدود الفاشلة والمدمرة وضعيفة الفعالية، وذات التأثيرات التخريبية بعيدة المدى على المنظومات البيئية وتنمية اقتصادات المجتمعات المحلية وفق رؤية التنمية المستدامة.
إلَّا أنه بالتأكيد ليس كذلك، ولهذا يصبح التلطي وراء الأهداف البيئية، مثل تخفيف تلوث الهواء، لتمرير هذا القرار أو ذاك، مثاراً للسخرية.
لبنان يحتاج إلى سياسات واستراتيجيات بيئية تحمي كل موارده من التدهور الفظيع الذي تشهده، وتحد من نهب المال العام، الذي يرافق السياسات الفاشلة، وتحد من إخضاع قرارات الوزراء والحكومات للمصالح الفئوية للقوى النافذة في السلطة وأتباعهم وأزلامهم، على حساب المصالح الإستراتيجية العامة للشعب اللبناني، لهذا الجيل والأجيال القادمة.