بداية، لا بد من الإضاءة على أني إبن النبطية والجنوب، وصيدا ليست مدينة بعيدة عني، لا جسديا ولا عاطفيا ولا روحيا، بل تسكن فيَّ، وأسكن فيها، ولي صهر وعائلات قريبة في صيدا. في هذه المدينة، عندي الكثير الكثير من الأصدقاء والأخوة.
ولا بد من التأكيد أيضا أنني أحترم كل الإحترام المنطلقات، التي يطلق منها الأستاذ أسامة سعد، نائب الشعب اللبناني، صرخته وحرصه، الذي لا يرقى إليه الشك بالدفاع عن مصالح صيدا وأهلها في بيئة نظيفة وصحة آمنة. وهذا بالطبع ما نتشارك به بالكامل.
إن تقديري وتقييمي للمسائل الأساسية، التي تناولها تقريري، الذي أعددته بتكليف من رئيس بلدية صيدا المهندس محمد السعودي ومحافظ لبنان الجنوبي الأستاذ منصور ضو، محكوم بالموضوعية العلمية، ومحصور بالقضايا المحددة، ولا سيما المتعلقة بالروائح ومصادرها، وبتقييم عمل معمل الفرز والتدوير والمعالجة.
إن الموضوعية العلمية في عملية التقدير والتقييم، تطلبت من الناحية المنهجية، تناول تقييم كل نظام الإدارة المتكاملة للنفايات المعمول به واقعيا في صيدا واتحاد البلديات، حيث قمت بمناقشة كل حلقاته وتحليلها ومحاكمتها ووضع الخلاصات منها.
تطرق التقرير بالتفصيل للمصادر الواقعية للروائح الكريهة في منطقة ساحل صيدا، الممتدة من المرفأ الجديد حتى جسر سينيق. وهي عديدة، تبدأ من معمل الجلود، وبعده الموقع القديم للمكب، وبعده البحيرة التي نتجت عن بناء سلسول مقفل في البحر، بحجة حماية المكب العشوائي، ولكن في الواقع هو لردم البحر، واكتساب مساحات جديدة على الواجهة البحرية، على حساب الأملاك البحرية العامة. في فترة إعداد التقرير، كانت تصب في البحيرة مجارير الصرف الصحي غير المعالجة. لم يكن موضوع التقرير مناقشة مسألة ردم البحر، ولا التعبير عن المواقف الشخصية منها. بل كانت المهمة محصورة في البحث الموضوعي عن مصادر الروائح، التي تعاني منها مدينة صيدا وجوارها. يلي البحيرة معمل الفرز والتدوير والمعالجة، حيث يوجد هناك جبلا من متبقيات عمليات الفرز والتدوير والمعالجة التي يقوم بها، يسميها البعض خطأ “عوادم”، ومتبقيات مختلف حلقات هذه العمليات التي تتم داخل نطاق الحدود الجغرافية للمعمل. وتأتي بعد المعمل محطة ضخ المياه المبتذلة إلى البحر بعيدة عن الشاطيء 1500-1800 متر (التي يطلق عليها إسم “محطة المعالجة” وهي ليست كذلك بعد)، حيث يعيدها البحر إلى الشاطيء مرفقة بروائحها المميزة، عند هيجانه وهبوب الريح الغربية والجنوبية الغربية المسيطرة على الساحل اللبناني في معظم أيام السنة.
وخلصت إلى الإستنتاج بأن كل هذه المصادر مشاركة بنسب متفاوتة بالروائح، التي يحملها نسيم البحر إلى مدينة صيدا وجوارها. وفي هذا السياق، قدرت بطريقة حاسة الشم (طريقة ذاتية) للتحقق من المصدر الرئيس للروائح، وذلك على تكرارات عديدة طوال شهرين، وفي أوقات مختلفة من النهار والليل، بأن المصدر الرئيس للروائح الكريهة هي البحيرة، التي كانت تصب فيها مجارير الصرف الصحي، وتنقل إليها نوعيات مختلفة من النفايات مخلوطة بالردميات، أو منتحلة صفة ردميات. تتم عمليات تعفن وتحلل وتفكك هوائي ولاهوائي للمواد العضوية المنقولة مع مياه الصرف الصحي ومع النفايات المرمية فيها، مما يطلق روائح كريهة مميزة لهذه العمليات.
أشرت بكل موضوعية إلى أن هناك أيضا روائح كريهة مصدرها المعمل من موقع جبل المتبقيات، عند تحريكه والتدخل بالآليات فيه. وكذلك في موقع العمليات الهوائية، حيث كانت إدارة المعمل حينها تقوم بتأهيل هذا القسم وتأهيل البيوفلتر فيه، وأنجزت عمليات التأهيل قبل تاريخ إعداد التقرير.
ولكني قدَّرت بكل تأكيد أن البحيرة هي المصدر الرئيس للروائح وليس المعمل، على الرغم من أنه مصدر غير رئيس للروائح. وكذلك تعتبر محطة ضخ مياه الصرف الصحي إلى البحر مصدرا غير رئيس للروائح الكريهة أيضا.
أما في تقييم عمل المعمل نفسه، وسير العمليات فيه، منذ لحظة وصول كميونات النفايات وتفريغها ودخولها خطوط الفرز وعمليات الفصل عالية الكفاءة، نظرا للعدد الكافي من الآليات وغرابيل الفصل والأحزمة المتحركة للفرز، والعدد الكافي للعمال العاملين على كل نقاط تلك الخطوط، وفعالية نظام عمل المعمل على نوبتين، هو تقييم عالي الموضوعية والدقة.
إذا كان المعمل يقوم بعمليات الفرز والفصل والتدوير والمعالجة اللاهوائية والتسبيخ بكل نجاح، إذن أين تكمن المشكلة في إدارة نفايات صيدا؟
إن الإجابة على هذا السؤال المفصلي، تتطلب النظر بكل علمية وموضوعية وحيادية إلى مجمل نظام إدارة النفايات المعمول به واقعيا في صيدا واتحاد البلديات. وهذا ما ناقشه التقرير بكل عمق وموضوعية وحيادية.
هناك حلقات ثلاثة رئيسة لإدارة النفايات الصلبة، وهي: حلقة الجمع والنقل، وحلقة الفرز والتدوير والمعالجة، وأخيرا حلقة التخلص النهائي من متبقيات عمليات الفرز والتدوير والمعالجة.
هذه الحلقات الثلاثة، إما أن تكون مترابطة ومتكاملة، عندها نكون في حالة الإدارة السليمة للنفايات. وإما أن تكون ناقصة ومتناقضة، وبالتالي يكون فشل نظام الإدارة كله، مما يولد المشاكل البيئية والآثار الصحية.
ماذا يحصل واقعيا في صيدا واتحاد البلديات لهذا النظام؟
- نظام الجمع والنقل، يستخدم شاحنات تضغط النفايات، بحيث توصلها إلى معمل الفرز والتدوير والمعالجة بحالة يرثى لها من التداخل، وهذا ما يصعِّب على المعمل القيام بالعمليات. معمل صيدا على الرغم من هذا الواقع، يتجاوز هذا التناقض، ويحقق نسبة جيدة جدا من الفرز والفصل.
- معمل الفرز والتدوير والمعالجة، يقوم بفرز وفصل النفايات على درجة عالية جدا من الناحية الكمية والنوعية، وذلك بفضل التجهيز التقني الجيد جدا، والعدد الكافي من العاملين في مختلف حلقات النظام، ونظام العمل الفعَّال المعتمد في المعمل. إذن النجاح بعمليات الفرز على الرغم من “خبيصة” النفايات، التي تصله من نظام الجمع والنقل، يكون بسبب عوامل ثلاثة: التجهيز التقني الجيد، ونظام العمل الفعال، والعدد الكافي للعمال.
- التخلص النهائي من المتبقيات، يفترض أن تنقل المتبقيات إلى موقع للتخلص النهائي منها، وذلك في مطمر صحي نظامي، كامل الأوصاف الهندسية الإنشائية، والوظيفية التشغيلية.
لنقيِّم سوية نظام إدارة النفايات المعمول به واقعيا في صيدا واتحاد البلديات، ماذا نرى؟
- إن الحلقة الأولى، المتعلقة بالجمع والنقل، التي تنقل نفايات مضغوطة و”مخبوصة” إلى معمل للفرز، لا تخدم بل تصعِّب مهمة المعمل.
- غياب الحلقة الثالثة، أي المطمر الصحي النظامي للتخلص النهائي من المتبقيات.
ماذا ينتج عن ذلك؟
ينتج عن ذلك تراكم كميات المتبقيات في حرم المعمل، مما شكل جبلا عاليا، هو عبء على المعمل نفسه، وعبء على المدينة كلها.
على الرغم من نجاح المعمل في القيام بالعمليات، التي تعود له لجهة الفرز والتدوير والمعالجة، ينمو على هامشه جبل من المتبقيات، التي تتراكم في باحته، بدل أن يتم التخلص النهائي منها في مطمر صحي نظامي، ينهي ويقفل حلقات نظام إدارة النفايات.
يقولون أن هناك عقدا قديما وعقدا جديدا يلفُّه الغموض بشأن مسؤولية الشركة المشغِّلة للمعمل عن التخلص من المتبقيات.
إن أمر مناقشة العقود وتحديد المسؤوليات لدى أطرافه، لم تكن وهي ليست من اهتمامي، فهذا شأن حقوقي، وأنا لست خبيرا بالحقوق.
في نهاية التقرير هناك لائحة توصيات، لو طبقت، لوضعت حدَّا لكل ما تعاني منه صيدا وجوارها من معاناة.
يبقى كلمة أخيرة. كل محبتي لجميع أهل صيدا وجوارها، فأنا حين أقوم بعملي، لست طرفا في النزاعات السياسية، والمشادات المحلية، بل خبير بيئي أفخر بالموضوعية، والعلمية، والإستقلالية، والحرية، التي أتمتع بها، وهي رصيدي كله في الدنيا والآخرة.