تتفاقم المشاكل الحياتية في لبنان يوماً بعد يوم، إلا أن قضايا البيئة لا تزال تتفاقم بشكل كبير، وأحدث الفصول وليس آخرها إستفحال أزمة النفايات في صيدا في اليومين الأخيرين والتخوّف من انتقالها إلى بيروت. وبالتالي فقد بات ملحاً ضرورة المعالجة الجذرية لهذه القضايا، التي تتصدر الحياة اليومية للمواطنين. هذه المعالجة تتطلّب الإرتكاز إلى مصادر علمية وبيئية مرموقة بعيداً من التزلّف بالقدرة على حل المشكلة دون طرح أساسها ودقتها على أصحاب الإختصاص قبل استفحال الأزمة.
خبير موقع greenarea.info البيئي الدكتور المهندس ناجي قديح، وبتكليف من رئيس بلدية صيدا المهندس محمد السعودي ومحافظ لبنان الجنوبي الأستاذ منصور ضو، كان قد قام بمهمة تقييم المصادر المحتملة للروائح الكريهة في منطقة ساحل صيدا، وتقييم عمل معمل فرز النفايات ومعالجتها، وذلك في الفترة الممتدة بين شهر كانون الأول 2017 وشهر شباط 2018، وقدم تقريرا مفصلا عن مهمته، مرفقة بتوصيات لمعالجة أزمة النفايات في صيدا وآثارها البيئية والصحية.
وفي حين أعلن بالأمس السعودي العمل على تطبيق كل مندرجات تقرير الدكتور قديح والعمل بتوصياته توصلاّ لمعالجة الشوائب والثغرات كافة، نلخّص لكم أبرز ما ورد في التقريرالمذكور المتوفّر بكامل تفاصيله على هذا الرابط : https://greenarea.com.lb/ar/259694/
.. تناول التقرير متابعة لكل مصادر الروائح الكريهة الموجودة في منطقة ساحل صيدا الممتدة من المرفأ الجديد حتى جسر سينيق، ولاحظ أن هناك عدة مصادر للروائح أهمها معمل الجلود، والبحيرة التي نشأت عن السنسول الذي أقيم لردم البحر إثر معالجة مكب النفايات العشوائي في صيدا، حيث كان يصب آنذاك مجرور مياه الصرف الصحي، وتجري ولا تزال عمليات ردم البحيرة بالردميات وأنواع مختلفة من النفايات، تنقل إليها من مصادر متنوعة من المدينة واتحاد بلديات صيدا والزهراني، بما فيها نفايات الدباغات وغيرها من نفايات صلبة وصناعية مخلوطة بردميات البناء. ويأتي بعد هذه البحيرة معمل فرز النفايات ومعالجتها في صيدا، وهو أكبر معمل نفايات للهضم اللاهوائي للنفايات العضوية في كل لبنان، ويلي المعمل محطة ضخ مياه الصرف الصحي لمسافة 1500-1800 متر في عرض البحر، حيث تعيدها مع روائحها أمواج البحر والرياح الغربية والجنوبية الغربية المسيطرة في معظم أيام السنة على الساحل اللبناني.
وخلص التقييم على ضوء المتابعات والزيارات الميدانية على مدى أكثر من شهرين، شملت زيارات في معظم ساعات النهار والليل، لتحديد دقيق للمصدر الرئيس للروائح الكريهة التي تقلق راحة حياة أهل صيدا وجوارها، وتهدد أمانهم البيئي والصحي، وتبين أن البحيرة التي تستقبل مجرور مياه الصرف الصحي وكميات كبيرة جدا من النفايات المتنوعة المخلوطة مع الردميات، مما يسمح بعمليات تعفن وتحلل هوائي ولاهوائي في مياه البحيرة والمنطقة المردومة منها، مما يطلق الروائح التي تنقلها الرياح ونسيم البحر إلى صيدا وجوارها. في حين أن المصادر الأخرى المتمثلة بمعمل الجلود ومعمل فرز النفايات ومعالجتها ومحطة ضخ الياه المبتذلة تعتبر مصادر ثانوية للروائح، تسهم في مفاقمة الوضع الثقيل أصلا بسبب البحيرة الملوثة.
في معرض تقييمه لعمل معمل فرز النفايات ومعالجتها، توقف التقرير بتفصيل دقيق وتقني لكل العمليات التي تتم داخل المعمل، وخلص إلى الإستنتاج أن عمليات الفرز وفصل المواد القابلة للتدوير، وتدوير المواد البلاستيكية، ومعالجة المكونات العضوية، بعد إخضاعها لعمليات تنظيف دقيقة تتطلبها تقنية الهضم اللاهوائي التي يعتمدها المعمل، وعمليات الهضم اللاهوائي، ومعالجة البقايا الصلبة الخارجة من مفاعل الهضم اللاهوائي واستقرارها وتهويتها وتسبيخها الهوائي، ونزع الكبريت من البيوغاز المنتج، كلها عمليات تتم بنجاح جيد جدا. يعود سبب النجاح الجيد جدا للعمليات في المعمل إلى 3 عوامل رئيسة:
- التجهيز التقني الجيد للمعمل حيث هناك عدد كاف من الغرابيل وأحزمة النقل والفصل، وكذلك التجهيز بالآلات لنقل النفايات ومكوناتها من نقطة إلى أخرى على خطوط عمل المعمل، وكذلك تجهيز المعمل بآلات للفرز الآلي مرتكزة على الفصل بالجاذبية Gravity separation، ومرتكزة أيضا على الفصل البصري Optical separation.
- اعتماد نظام تشغيل دقيق ومنظم يرتكز على ثلاثة خطوط، خط للمواد غير العضوية، وخط للمواد العضوية، وخط إضافي للتخفيف من كمية المتبقيات المتولدة عن العمليات. هذا النظام الفعال يؤدي إلى فرز وفصل نسبة عالية جدا من النفايات، مما يخفف نسبة المتبقيات إلى حد مقبول، وهو الأفضل في لبنان مقارنة مع كل معامل الفرز العاملة في كل المناطق، ولا سيما معملي الكرنتينا والعمروسية.
- العدد الكافي من العمال في كل نوبة من النوبيتن لنظام العمل، مما يسمح بفعالية جيدة بفرز وفصل النفايات عن الأحزمة الناقلة المتحركة.
وتوقف التقرير بشرح مفصل وواف عند نقاط الضعف في نظام الإدارة المتكاملة للنفايات المطبق في صيدا واتحاد البلديات، وشارحا مساوئها الكبيرة، التي تنعكس سلبيا على المردود البيئي والصحي. أهمها:
- عدم وجود مطمر صحي نظامي لنقل متبقيات عمليات المعمل إليه للتخلص النهائي منها بطريقة مقبولة بيئيا وصحيا، وهذا ما أدى إلى تراكم كميات هذه المتبقيات على مدى سنوات، محدثة جبلا من المتبقيات في باحة داخل مساحة المعمل. وهذا ما يعتبر عبئا ثقيلا على المعمل وعلى المدينة برمتها.
- نظام الجمع والنقل الذي يستخدم شاحنات تضغط وتكبس النفايات، بحيث يوصل النفايات إلى معمل الفرز والمعالجة بحالة يرثى لها، ما يصعب عمليات الفرز ويجعلها تتطلب جهودا كبيرة إضافية لإتمام العمليات بشكل مرض وناجح.
توقف التقرير أيضا ليتناول وصف النفايات المنقولة من بيروت، والحالة الموجودة فيها هذه النفايات، حيث تخضع في معمل الكرنتينا لعملية غربلة في غربال قطر فتحته 8 سم، بحيث يتم عزل المواد ذات الحجم الكبير، مما يحسن نسبة المكونات العضوية في النفايات من حوالي 55 بالمئة إلى 70-75 بالمئة.
ناقش التقرير أيضا الخيارات التي يعتمدها المعمل للتعامل مع المتبقيات، وشرح الخيارات الأخرى التي يمكن اعتمادها للتسريع من التخلص من جبل المتبقيات المتراكم في المعمل، معتبرا أن هناك ضرورة ملحة للتخلص من جبل المتبقيات اليوم قبل الغد نظرا للأضرارالبيئية التي تنتج عن استمراره.
وقيَّم الحاجة الملحة لإنشاء وتشغيل مطمر صحي نظامي في المنطقة لاستقبال كل جبل المتبقيات المتراكم، ومتبقيات العمليات اليومية للمعمل.
وخلص التقرير إلى مجموعة من التوصيات إذا ما طبقت بالسرعة اللازمة تؤدي إلى الحد من المشاكل البيئية والصحية الناتجة عن الخلل الكبير في منظومة الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة في صيدا، وإلى تحسين ملموس للوضع البيئي والصحي في مدينة صيدا وجوارها.
التوصيات
- لتخفيف الروائح المنبعثة باتجاه المدينة، علينا الحد من انبعاث الروائح القوية من مصدرها الرئيسي في منطقة الساحل، أي من البحيرة التي يجري ردمها، وذلك عبر استكمال ردمها بردميات نظيفة، خالية كليا من أي نوع من أنواع النفايات، وذلك بالسرعة القصوى دون تأجيل.
- بعد استكمال ردمها، يمكن معالجة سطح المساحة المردومة بطريقة تؤدي إلى التخفيف الكبير من الروائح التي تنبعث منها. يمكن شرح هذه الطريقة تفصيليا في تقرير منفصل بعد إنجاز الردم الكامل.
- إلى حين استكمال ردمها بالكامل، يمكن العمل على تخفيف الروائح المنبعثة منها حاليا. يمكن تحقيق ذلك بإضافة مواد كيميائية محفزة لعمليات الأكسدة، وبهذه الطريقة تؤكسد وتفكك المواد ذات الرائحة الكريهة، وتقوم بتعديل رائحتها. هناك عدد كبير من هذه المستحضرات والمواد التي تساعد على تعديل الروائح الكريهة المنبعثة من منشآت ومواقع مماثلة. يمكن تحضير تقرير تفصيلي عن هذه العملية لاحقا، على أن يتضمن مشروعا لمعالجة الروائح وتخفيفها والتحكم النسبي بها.
- إنشاء مطمر صحي نظامي على وجه السرعة لكي ينقل إليه جبل المتبقيات ليطمر فيه بطريقة سليمة بيئيا، وذلك بالسرعة القصوى دون تأجيل. يجب أن يخضع اختيار موقع هذا المطمر الصحي النظامي للحد الأدنى من المعايير البيئية والبعد عن الأماكن السكنية.
- يكون هذا المطمر الصحي النظامي أيضا المكان المخصص لاستقبال متبقيات معمل فرز ومعالجة النفايات في صيدا.
- المساعدة في تسهيل تسويق “الوقود البديل”، المصنَّع بمواصفات مقبولة، لجهة المؤشرات الكيميائية ولجهة القيمة الحرارية للمنتج، لاستعماله في أفران معامل الإسمنت. هذا ما تضمنته خطة وزارة البيئة للإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة المنزلية.
- إن اعتماد نظام فصل النفايات العضوية عن غير العضوية من المصدر وجمعها ونقلها منفصلة إلى معمل الفرز والمعالجة سيساعد كثيرا على تحسين أداء ورفع فعالية نظام الإدارة المتكاملة للنفايات، وسيخفف من كمية المتبقيات المطلوب طمرها، وهذا سيؤدي بدوره إلى إطالة عمر استخدام المطمر الصحي. هذا ما نشجع البلدية على السير لاعتماده بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني البيئية وغير البيئية.
إن اعتماد نظام منفصل لجمع الأقمشة والألبسة من المصدر سيساعد كثيرا على اختزال الصعوبات المتعلقة بفرز هذه المكونات بعد خلطها بالنفايات، وسيخفف إلى حد كبير من كمية المتبقيات ويساعد على إطالة عمر المطمر. ومن جهة أخرى سيتيح الفرصة لإعادة استعمال هذه الألبسة والأقمشة وتدويرها، وتصنيع سلع جديدة منها. هذا أيضا ما نشجع البلدية على السير به بالتعاون مع الجمعيات البيئية وغير البيئية.