لا غرابة أن تكون مياه البحر في كثير من نقاط الساحل اللبناني ملوثة. وذلك لأن في لبنان هناك غياب شبه كامل للإدارة السليمة لكل أنواع النفايات، بما فيها تلك، التي تكلف المال العام مئات ملايين الدولارات سنويا على عقود للتخلص منها. وإذا احتسبنا الخسائر البيئية والصحية الناتجة عن سوء إدارة النفايات في لبنان، لدخلنا في نطاق أرقام هائلة لا قدرة لاقتصاد بلد صغير مثل لبنان على تحملها.
أشرنا في المقالة السابقة إلى أن سيلا من المياه المبتذلة غير المعالجة يصب مباشرة في بحر لبنان على امتداد الساحل. يضاف إليه تدفقات سائلة صناعية، بعضها يرمى مباشرة في البحر، عبر مصبات لصناعات قائمة في مدن وبلدات الساحل اللبناني، ولا سيما في بيروت وجبل لبنان، وبعضها يصب في مجاري الصرف الصحي، حيث ينتهي في البحر.
ومن جهة أخرى يشكل وجود العديد من المكبات العشوائية والمطامر غير النظامية للنفايات الصلبة، المنزلية وغير المنزلية، وهي خليط لنفايات من مصادر مختلفة، تشمل ضمنا نفايات صناعية وطبية، سببا إضافيا من أسباب تلوث البحر.
ينتج عن هذا الواقع بالطبع مستويات من التلوث متفاوتة الأهمية، في مختلف النقاط والمواقع، في مياه البحر على امتداد الساحل اللبناني.
تقريران هامان تم الإعلان عنهما في الأيام والأسابيع الأخيرة. تقرير صادر عن “مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية”، وهي مؤسسة عامة مستقلة تحت وصاية وزارة الزراعة، وبالتالي هي مؤسسة بحث علمي حكومية تتمتع بالثقة والمصداقية. وتقرير آخر أعلن عنه بعد مرور أسبوعين على التقرير الأول، صادر عن “المركز الوطني للبحوث العلمية”، وهو أيضا مؤسسة تابعة لرئاسة الحكومة، وبالتالي هي مؤسسة حكومية تحظى بالثقة والمصداقية العاليتين.
التقرير الأول أعلن ما يشبه حالة الطواريء حيال مستويات عالية جدا من التلوث الجرثومي والكيميائي وبالمعادن الثقيلة في مياه البحر في عدد كبير من المناطق الساحلية. أما التقرير الثاني فحصر التلوث المقلق في ستة مواقع، واعتبر أن مستوى التلوث مقبول في 4 مواقع، في حين اعتبر الوضع جيدا وغير ملوث في باقي المواقع المدروسة على طول الشاطيء اللبناني.
التقرير الأول أثار موجة عارمة من القلق عند كل الناس، وهذا القلق مشروع ومبرر طبعا. وأثار موجة من الإستهجان والتشكيك أيضا عند أوساط أخرى، استغربت وجود تلوث عالي بالمعادن الثقيلة والكيماويات، وشككت في سلامة التحاليل. أما التقرير الثاني فكان مقتصرا على درس مؤشرات التلوث الجرثومي، ولم يتناول المؤشرات الكيميائية والمعادن الثقيلة، بل أعلن نتائج مستويات هذه المعادن الثقيلة في الأسماك، وهي بالتأكيد غير مقلقة في الأسماك وثمار البحر، التي يتم صيدها في بحر لبنان.
أود في هذه العجالة إلقاء الضوء على جملة من الأمور. أولها، إن نقطة أخذ العينة هي على درجة عالية جدا من الأهمية. حيث يكون عادة تحديد موقع أخذ العينة مرتبطا بالغاية والهدف الاستراتيجي، الذي تبحث الدراسة لتحقيقه من جهة. وثانيها، مرتبط بنطاق وحدود صلاحية نتائج الدراسة من جهة أخرى.
إن أي تقرير علمي يعرض نتائج تحاليل مخبرية لمؤشرات جرثومية وكيميائية ومعادن ثقيلة، عليه واجب الإجابة على السؤالين الأساسيين: ما هو هدف الدراسة، وما هو نطاق صلاحية النتائج. لأنه من غير المقبول أن يجري تعميم نتيجة ما، محدودة في المكان والزمان والحركة (أي الدينامية) والانتقال عبر الانتشار، وما ينتج عن هذا الانتشار من تخفيف لتراكيز المؤشرات المدروسة، وما ينتج عن انتقال المواد الملوِّثة المدروسة على مسافات من موقع تدفقها.
لا يمكن لأحد أن يطلق استنتاجا من نوع “كل مياه البحر ملوثة”، وكل “المواقع ملوثة”، أو “ليس على الشاطيء اللبناني موقعا صالحا للسباحة”. إن هذه الإطلاقات، إن صح أن تقرير مصلحة البحوث الزراعية قد تضمنها، تكون في غير موقعها الموضوعي، حيث أن أي نتيجة لتحليل أي عينة هي محدودة في الزمان والمكان ونطاق الصلاحية. لماذا؟ لأن مكان أخذ العينة هي نقطة ثابتة، في حين أن مياه البحر متحركة. ولأن لحظة أخذ العينة ثابتة، ودينامية تدفق الملوثات وانتشارها وتخفيفها وانتقالها هي متحركة بأبعاد كثيرة. ولذلك يلجأ الباحثون عند درس مستويات التلوث في منطقة ما، إلى أخذ عينات في مواقع مختلفة جدا من المنطقة المدروسة، وإلى أخذ عدد كاف من العينات لدرسها، بغية التمكن من معالجة النتائج إحصائيا، وحساب المعدلات الوسطية، ودرجة الخطأ الإحصائي، وتحديد مجال الثقة الإحصائي بصحة نتائج التحليل.
إن تدفقات المياه المبتذلة المنقولة إلى مصبات الصرف الصحي في البحر، يمكن لها أن تحتوي كميات ملحوظة من المعادن الثقيلة، ولا سيما الزئبق، إن من مصادر صناعية أو حرفية (الطلي المعدني) أو طبية وخاصة عيادات طب الأسنان، التي لا تزال تستعمل بشكل كبير الملغم الزئبقي لحشوة الأسنان. في لبنان يتم استيراد ما يزيد عن 300 كلغ من الزئبق بأشكال مختلفة لغايات الإستعمال في طب الأسنان.
ومن جهة أخرى، هناك الكثير من المنتجات التي تحتوي على الزئبق، وهي واسعة الإستعمال. فمثلا، موازين الحرارة الزئبقية لا تزال واسعة الإستعمال في كثير من المستشفيات والمراكز والعيادات الطبية، وكذلك كل موازين القياس، وأجهزة كهربائية ومصابيح التوفير والبطاريات، وبعض أنواع الأدوية الزراعية والدهانات، كلها تحتوي عل كميات تزيد أو تنقص من الزئبق. لما كان لبنان يفتقر حتى اليوم إلى أنظمة متكاملة للإدارة السليمة لكل هذه الأنواع من النفايات يكون مصير هذه المنتجات، عند انتهاء عمر استخدامها، التخلص منها مع سيل النفايات. سيل خليط النفايات هذا يكون مصيره في المكب العشوائي أو المطمر غير النظامي. وبالتالي مصدرا محتملا لتلويث الأوساط البيئية، ومنها البحر، بالزئبق وغيره من المعادن الثقيلة والمركبات الكيميائية.
إذا قمنا بأخذ عينة من مياه البحر على مقربة من مصب هذه التدفقات، أو من مواقع هذه الإطلاقات، يكون من الطبيعي أن نجد فيها تراكيز عالية من هذه الملوثات. ولكن السؤال المنهجي هو، هل هذه التراكيز هي تمثيلية لكل مياه الساحل اللبناني؟ بالتأكيد لا، ولذلك على الباحث تحديد نطاق صلاحية نتائج بحثه، وإلا سقط في محضور التعميم والإطلاق غير العلمي.
نحن نرى أن أمان البحر، وكل الأوساط البيئية الأخرى، من هواء ومياه سطحية وجوفية وتربة، يكون بوضع سياسات واستراتيجيات إدارة متكاملة وسليمة بيئيا لكل أنواع النفايات، والتخلص منها بطرق آمنة بيئيا وصحيا، وليس عبر مواجهة التقارير بتقارير مضادة “لا تسمن ولا تغني من جوع”، ولا تغير شيئا من واقع التلوث الفظيع لبحرنا وبيئتنا بشكل عام، من كل المصادر، وبكل أنواع الملوثات.
نحن لا نوافق على الإستكانة الوطنية الشاملة حيال اعتبار التلوث الجرثومي العالي جدا في كل أوساطنا البيئية، بحرا وأنهارا، ومياها للإستعمال البشري، أمرا عاديا.
لا بد من إجراء التعديلات الجذرية الضرورية على سياسات واستراتيجيات الصرف الصحي في لبنان، ومشاريع مد الشبكات غير المنتهية بمحطات فعالة للمعالجة الثنائية على الأقل، قبل السماح برميها في البحر. وإجراء التحديث السريع للمواصفات والمعايير الوطنية، التي تحدد المستوى المقبول لمختلف مؤشرات التلوث في التدفقات المسموح رميها في البحر، أو في الأنهار.
سياسات حماية بيئة وموارد لبنان الطبيعية، هي المطلوبة الآن قبل الغد، تطبيقا للقوانين والأنظمة النافذة، وتحقيقا للأهداف المعلنة في البيانات والبرامج البيئية، التي تضج بها كل مستويات السلطة السياسية في لبنان، كي لا تبقى ضجيجا إعلاميا عاريا، لا يجد ترجمته في تغييرات على الواقع، نحو وضع بيئي وصحي أفضل لشعبنا وأجيالنا القادمة.