تشريع الضرورة… لتمرير صفقاتكم وليس لتنمية لبنان
د. ناجي قديح
في المرحلة التي عاشها لبنان بدون رئيس للجمهورية، وكان البرلمان في حالة عطلة مستمرة، توافقت قوى السلطة السياسية، على الرغم من كل خلافاتها وتناقضاتها، على عقد جلسة تشريعية للهيئة العامة للمجلس النيابي تحت عنوان “تشريع الضرورة”. كل اللبنانيين يتذكرون هذا المصطلح، الذي ابتدعته عبقرية سياسيينا عندما نضجت لحظة تبادل المنافع والصفقات.
أقر يومها في تلك الجلسة القانون المتعلق بقرض البنك الدولي لتمويل سد بسري بقية ما يزيد عن 480 مليون دولار، سد بسري المثير للجدل الكبير حول جدواه ومواصفات موقعه والخسائر البيئية والاقتصادية، التي يرتبها، والمخاطر، التي يطرحها من زاوية الميزات الجيولوجية والزلزالية لأرض الموقع. وأقر بالمقابل قانون تمويل خطة معالجة تلوث نهر الليطاني بقيمة 1100 مليار ليرة لبنانية، إضافة لقرض البنك الدولي بقيمة 50 مليون دولار. وهكذا تمخض “تشريع الضرورة” عن إقرار هذين القانونين.
تذكرنا هذه الحادثة عندما تمت دعوة اللجان المشتركة البرلمانية لإقرار عدد من القوانين، تمهيدا لإقرارها الفوري عند تشكيل الحكومة وعقد أول جلسة تشريعية للمجلس النيابي الجديد. أقرت هذه الجلسة، بنقاش لم يمتد لأكثر من نصف ساعة بالتمام والكمال، قانون إدارة النفايات، على الرغم من وجود عدد كبير جدا من الشوائب والثغرات، وأكاد أقول من “الأخطاء الفاضحة” في مسودته، التي أقرتها جلسة اللجان المشتركة.
مشروع القانون هذا، لمن لا يتابع من اللبنانيين، يعود تاريخ وضع مسودته الأولى إلى العام 2003 – 2004، حيث أحيل إلى المجلس النيابي لمناقشته وإقراره.
14 عاما تناقش اللجان النيابية مشروع هذا القانون…ينام سنوات في الأدراج، ليعاد إيقاظه عند الضرورة، إما لإيهام اللبنانيين بأن قانونا لإدارة النفايات يجري تحضيره، ويتضمن استراتيجية وطنية لإدارة النفايات، ثم يعود إلى “الكوما”. استمر ذلك طوال كل تلك السنين حتى جاء مؤتمر “سيدر” وتضمن مجموعة من القروض لعدد من المشاريع، بينها مشروع بناء وتشغيل 3 محارق للنفايات بكلفة 1.2 مليار دولار. وهكذا تكونت ظروف جديدة لتشريع الضرورة، حيث أن مؤتمر سيدر يشترط إقرارا 13 عشر قانونا ليأخذ مساره إلى حيز التنفيذ، كان باكورتها قانون إدارة النفايات، الذي يتضمن إطلاق الضوء الأخضر لإقامة المحارق، ولو من ضمن ما يسمونه إدارة متكاملة للنفايات.
اللجان المشتركة النيابية لم تأخذ وقتها في النقاش، على الأقل لتنظيف النص القانوني من ما يحمل من شوائب فاضحة، إن لم يكن لمناقشة الاستراتيجية السليمة بيئيا والآمنة صحيا لإدارة متكاملة للنفايات. فكان أن “احترقت بصلتهم”، التي بقيت 14 عاما على نار خفيفة، أو موضوعة في الثلاجة، فإذا بمؤتمر سيدر يطلق محركات تشريع الضرورة للقانون، الذي لم يكتمل تكوُّن ملامحه بعد، فالمهم تمرير صفقة المرحلة، التي أجمع عليها طاقم السلطة السياسية، صفقة محارق النفايات.
الأمر الخطير يتجاوز ما ستشكله المحارق الثلاثة من تلوث بيئي يرتقي إلى مرحلة جديدة من خطورته مع ما يحمل من تهديدات واسعة وعميقة على الصحة العامة. بل الأمر الأكثر خطورة يتصل بما ستشهده مناطق لبنان كلها، من جنوبه إلى شماله، ومن بقاعه إلى جبله، إضافة إلى بيروت والمناطق الساحلية، من طفرة مرعبة لنشوء عشرات، وربما مئات المحارق البدائية، والتي لا تنتمي إلى أي من التقنيات المتطورة لهذه المنشئات عالية التعقيد، والتي تتطلب مهنية رفيعة لتشغيلها وصيانتها وإدارتها والتحكم بالملوثات، التي تبثها وبإدارة سليمة بيئيا للرماد، الذي يتولد عنها، وهو نفاية خطرة وفق تصنيفات اتفاقية بازل، التي ينتمي إليها لبنان.
مع هذا التطور، سيدخل لبنان عصر الإنهيار البيئي والصحي الشامل، وسيحقق أرقاما قياسية بالتعرض والإصابة بالأمراض السرطانية والمزمنة الخطيرة، التي تهدد صحة هذا الجيل من اللبنانيين والأجيال القادمة أيضا.
سوف نستعرض نماذجا مما نسميه شوائب فاضحة في نص القانون، الذي أقرته اللجان النيابية المشتركة دون نقاش.
في المادة الأولى، المتعلقة بالتعريفات، إليكم بعض النماذج للمثال لا للحصر:
النفايات الصلبة: هي نفايات تحتوي على مكونات صلبة أو سائلة أو غازية….إذن في قانون الجمهورية اللبنانية هناك نص يقول أن النفايات السائلة والغازية هي نفايات صلبة. ليعود فيستدرك في السطر الثالث من هذا التعريف أن الإنبعاثات الغازية في الجو والمياه المبتذلة مستثناة من هذا التعريف.
إن الانبعاثات في الجو والمياه المبتذلة لا يمكن تعريفها بأي شكل من الأشكال بالنفايات الصلبة. ويجب أن يكون لها أنظمة خاصة من الإدارة البيئية السليمة لتفادي تأثيراتها الضارة على البيئة والصحة العامة.
النفايات غير المنزلية: …. وهي تتضمن على سبيل المثال العصارة الناتجة عن إدارة النفايات الصلبة.
نحن نرى أن العصارة، التي تتولد عن النفايات الصلبة المنزلية وما شابهها، تتطلب إدارة خاصة من ضمن الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة المنزلية وما شابهها.
النفايات الخامدة أو العوادم (Inert material): هنا نقترح عدم استعمال كلمة عوادم، لسببين، أولها، أن كلمة خامدة وبالأجنبية Inert هي كافية للدلالة عن المواد المراد الإشارة إليها، وذات الخصائص الكيميائية غير النشيطة وغير التفاعلية. وثانيها أن كلمة “عوادم”، التي تستعمل بشكل واسع، وبرأينا غير دقيق، للدلالة على متبقيات عمليات الفرز والتدوير والمعالجة للنفايات الصلبة المنزلية، ليست بالضرورة مواد خاملة، وهنا يتولد الخلط غير العلمي لمصطلحين بدلالات مختلفة.
والأفدح من ذلك، ما جاء في هذا التعريف: “كذلك تعتبر من النفايات الخامدة الجزيئات الناعمة للرماد الذي لا يصنف رماد متطاير، لكنس الشوارع، للزجاج المكسور، للإسمنت، للقرميد (brick)، للبلاط والسيراميك، للتربة والصخور، للألياف الزجاجية، للمعادن التي يمكن أن تمر من خلال منخل (مصفاة) صغير الحجم.”
هذا التعريف ليس له علاقة بالعلم، ولا سيما ما يتعلق بالمعادن. فكون قطع المعادن صغيرة الحجم أو يمكن أن تمر عبر منخل أو مصفاة لا يغير من خصائصها التفاعلية، بل بالعكس تماما، كلما صغر حجم الجزيئة المعدنية كلما زادت تفاعليتها ونشاطها التفاعلي (وهذا عكس الخمود والخمول أي عدم التفاعلية). من المعروف أن المعادن الثقيلة تنتمي إلى المواد ذات التأثيرات الضارة الكبيرة على الصحة البشرية، وبعضها عالي السمية.
ماذا سيقول الباحثون في المركز الوطني للبحوث العلمية؟ وماذا سيقول أساتذة لبنان؟ ليس فقط أساتذة الجامعات اللبنانية، بل طلاب وتلامذة لبنان؟ عندما يرون هذا الكلام في متن نص قانون في بلدهم. ماذا سيقول عنا العالم إذا رأى أن في لبنان، بلد الإشعاع والنور والتحضر، نصا قانونيا يتضمن هذه الترهات؟
يصل استفزاز الحس السليم للإنسان العاقل مع تعريف “الحمأة Slag“، حيث يقول: ” هي المواد التي تنتج عن عملية تحويل النفايات بعد حرقها بواسطة تقنية التفكك الحراري وهي مواد غير مضرة….
إذن أيها اللبنانيون، يقول لكم قانون إدارة النفايات أن الحمأة الناتجة عن حرق النفايات في محارقهم السحرية المسماة “تفكك حراري”، هي غير مضرة. وبالتالي تصلح لتحضير شوربة المساء، أو طبق الحمية الصحية لمكافحة السمنة.
“الحمأة غير مضرة”. هذا الهراء، يقدمه لنا مشرِّعو البرلمان على أنه حقيقة، لأن سماسرة المحارق، يقولون لهم ذلك. ولأن سماسرة المحارق قد قالوا لهم أيضا أن “التفكك الحراري” هي تقنية سحرية لا ينتج عنها إلا موادا مفيدة، تصلح لتناولها لمن يعاني من فقر الدم!
مشرعو لبنان يريدوننا أن نصدق سماسرة المحارق، الذين يقرأون عليهم محاضرات السلامة والحماية البيئية والأمان الصحي لتقنيتهم السحرية. هم يصدقون سماسرتهم، ويدرجون ذلك في نص قانوني…دون فتح المجال الواسع لنقاش وطني لهذا القانون…
إنها المهزلة – المأساة في بلد يصدِّر العقول التقنية وغير التقنية إلى كل بلدان العالم.
هذا غيض من فيض…والشوائب تمتد للإطار التنظيمي والمؤسساتي، ولمضمون الرؤية والاستراتيجية والإدارة المتكاملة، التي يتم تغييب الإستهداف فيها، وتغيب مفاهيم الحماية البيئية والأمان الصحي وعقلانية الكلفة.
إنه قانون “غب الطلب” لتمرير صفقات المحارق وتعميم الخراب البيئي والصحي على كل مناطق لبنان.