بالأمس، في مظاهرة بيروت ضد المحارق، كنا كثرا، فاق عددنا كل التوقعات. كان يمكن أن نكون أكثر بكثير لو تم تفادي بعض الهفوات في تعميم الدعوة، وفي التنسيق مع كل الناشطين في المجتمع المدني، ولو أن البيئيين المنظَّمين في حركات وتجمعات وجمعيات حشدوا ما يتمتعون به من قوة واتساع انتشار على مساحة الوطن.
وكنا لنكون أكثر بكثير لو أن الشعب اللبناني تمكن من مواجهة حملات التضليل المنظَّم، التي تحتشد فيها قوى السلطة كلها، باستثناء عدد قليل جدا من النواب والقوى، التي جاهرت بمعارضتها لمشاريع المحارق، ولمشروع القانون، الذي يعطيها الضوء الأخضر للإنتشار الواسع في كل المناطق، وفي أحجام ونماذج متفاوتة.
عبَّر شباب لبنان، بنخبهم النشطاء، عن اعتراضهم على السياسات البيئية المدمرة للسلطة السياسية، ممثلة بالحكومات والبرلمانات المتعاقبة وبقواها السياسية المسيطرة. ونزلوا إلى الشارع في اعتصام وتظاهر سلمي، حضاري، راق، لا تشوبه شائبة. وسننزل بأعداد أكبر في المرات القادمة إذا لم يستمع المسؤولون إلى صوت الضمير، وإعادة النظر بسياسة المحارق الخرقاء، التي لجؤوا إليها للخروج من أزمة إدارة النفايات المستمرة والمتمادية منذ عقود. وإذا لم تتراجع الحكومة ومعها كل السلطة السياسية عن خيارات تدمير البيئة، وتلويث كل أوساطها، وتعريض صحة اللبنانيين لأكبر المخاطر، لناحية ازدياد نسبة الإصابات بالأمراض السرطانية والمزمنة والمستعصية والمميتة، ونهب المال العام عبر عقود إدارة النفايات، التي دأبت على عقدها منذ سنوات طويلة دون الخروج الحقيقي من أزمة النفايات وما يرافقها من تدهور بيئي وصحي وهدر فظيع للمال العام.
لماذا نحن ضد محارق النفايات؟ لأنها تتعارض تماما مع كل مباديء الإدارة المتكاملة، السليمة بيئيا والآمنة صحيا ومعقولة الكلفة. لأنها في تعارض كبير مع حقائق العلم والأرقام المتعلقة بالتركيب الحقيقي لنفايات لبنان، وبالقيمة الحرارية الحقيقية التي تختزنها. فنفايات لبنان تحتوي على 63 بالمئة منها نفايات عضوية، تحتوي بدورها على 60-70 بالمئة ماء. وبالتالي، إن كل طن من نفايات لبنان الصلبة المنزلية يحتوي على كمية كبيرة من الماء تحتاج إلى كميات كبيرة جدا من الطاقة لتخفيفها إلى ما يسمح باشتعال هذه النفايات. ونفايات لبنان تحتوي على نسب قليلة من المكونات الغنية بالقيمة الحرارية، مقارنة مع نفايات أوروبا وأميركا والدول الصناعية المتقدمة عموما. إن نسبة المكونات العضوية في نفايات لبنان ربما هي الأعلى في العالم، في حين أن نسبة المخلفات البلاستيكية لا تزيد عن 7-8 بالمئة، ونسبة الورق والكرتون لا تزيد عن 17-18 بالمئة. وهذا يعني أن المكونات الغنية نسبيا بالطاقة في نفايات لبنان هي نفسها المكونات، التي نسعى لفرزها وتدويرها وإعادة إدخالها في الدورة الإنتاجية لمصانع لبنان. ولذلك نحن ضد حرق الموارد وتدميرها، بل مع تدويرها وتلبية حاجة الصناعة اللبنانية للموارد الثانوية، لما فيها من كفاءة إقتصادية، وتشغيل يد عاملة إضافية، وتنمية للمجتمعات المحلية.
نحن ضد المحارق لأنها تتعارض كليا مع مبدأ تخفيف النفايات، وهو المبدأ الأساس في الإدارة المتكاملة السليمة بيئيا والمستدامة. المحارق بالوعة الموارد، النفايات وغيرها، وهي عامل تشجيع على زيادة كميات النفايات وليس على تخفيفها. ولأن مشغلي المحارق سوف يسعون إلى زيادة أطنان النفايات الداخلة إلى محارقهم وليس إلى التقليل منها، إذ أن دخلهم وربحهم مرتبطان بزيادة كميات النفايات التي تستقبلها محارقهم.
نحن ضد المحارق لأن مروجي وسماسرة المحارق يمارسون التضليل الممنهج على النواب والوزراء والقوى السياسية عموما بإيهامهم أنهم سيولِّدون الطاقة من النفايات. إن هذه المقولة في لبنان تشكل كذبة كبيرة، إذ أن كمية الطاقة، التي تحملها نفايات لبنان، معبر عنها بالقيمة الحرارية الدنيا لمكونات هذه النفايات وكمياتها النسبية، تتراوح بين 4.5 – 5.5 ميغاجول لكل كلغ (4.5-5.5 Mj/Kg)، وهي كمية بعيدة جدا عن الحد الأدنى المطلوب للبحث، من حيث المبدأ، بخيار الحرق، حيث يكون هذا الحد الأدنى 11 ميغاجول وما فوق لكل كلغ (>11 Mj/Kg).
إذن ماذا سيحدث في المحرقة لكي تنطلق عملية الحرق، وتستمر هذه العملية على درجة حرارة أعلى من 850 درجة مئوية؟
أمران سيحدثان بالتأكيد. الأمر الأول، سيسعى مشغلوا المحارق،ومعهم السلطات كلها من بلدية وغير بلدية، إلى الإستئثار بكل كميات المكونات القابلة للتدوير من ورق وكرتون ومخلفات بلاستيكية، نظرا لكونها تحمل الكميات الأكبر من القيمة الحرارية لنفايات لبنان. وهذا بالطبع يتعارض كليا مع مبدأ التدوير، الذي تقول به الإدارة المتكاملةوالسليمة بيئيا والمستدامة للنفايات. وهكذا نرى حتى الآن أن الحرق يتعارض كليا مع مبدأين رئيسين هما التخفيف والتدوير. والأمر الثاني، سيكون مشغلوا المحارق مضطرين لضح عشرات الأطنان من الفيول إلى غرف الإحتراق، لتأمين انطلاق عملية الإحتراق من جهة، ولتأمين درجة حرارة في غرف الإحتراق تفوق الـ850 درجة مئوية. إذن سيولدون الطاقة الكهربائية من أطنان الفيول الداخلة إلى غرف الاحتراق، وليس من نفايات لبنان الفقيرة جدا جدا بالطاقة.
دعوا عنكم هذه الكذبة، وهذا الضليل، واذهبوا لبناء معامل لإنتاج الطاقة الكهربائية لتنقذوا لبنان واللبنانيين من هذه المسخرة التي نعيشها، من تقنين وتخريب للإقتصاد وتنغيص عيش اللبنانيين، وإخضاعهم لابتزاز قطاع المولدات الطفيلي، الذي نشأ على هامش عجزكم وقصوركم وتآمركم ونهبكم للمال العام، واليوم تحمونه بحدقات العيون.
نحن ضد المحارق لأن هذه المنشآت تتعارض كليا مع مبدأ معالجةمكونات النفايات وتحويلها لتصنيع منتجات قابلة للإستعمال المفيد. هذا ينطبق تماما على المكونات العضوية، التي إن أحسنا وضع نظام فعال لفرزها من المصدر، أو لفصلها النوعي في مراكز الفرز، عبر منع استخدام شاحنات الكبس والضغط لجمع النفايات ونقلها، لاستطعنا معالجتها بيولوجيا وفق طريقتين، الأولى، التسبيخ الهوائي Aerobic composting، الذي يحولها إلى كومبوست محسن للتربة الزراعية وغير الزراعية، وهو منتج يستورده السوق اللبناني بعشرات ملايين الدولارات سنويا. ماذا ينقص الصناعيين المحترفين في لبنان من القيام بهذه العملية على أعلى مستوى من الكفاءة وإنتاج كومبوست من الفئة الأولى، صالح ليحل محل المنتج المستورد، أو يتم تصديره إلى الأسواق العالمية؟ بدل إبقاء هذه العملية في يد جهات عاجزة وقاصرة وغير مهنية، وفي غالب الأحيان يضربها الفساد المتفشي، وتنقلها من فشل إلى فشل في كل التجارب، التي شهدناها حتى الآن، في الكورال والنبطية وصور وطرابلس وأنصار والعديد من المراكز الأخرى، التي يتم إفشال العمل فيها، في غياب الرؤية والاستراتيجية والمهنية والكفاءة والشفافية. والطريقة الثانية للمعالجة البيولوجية للمكونات العضوية، هي عملية الهضم اللَّاهوائي Anaerobic digestion، التي يمكن أن تستقبل أيضا الوحول المتولدة عن محطات معالجة المياه المبتذلة، واستخراج البيوغاز الغني بالميثان، والذي يستعمل لإنتاج الطاقة، الحرارية والكهربائية. هذه هي الطريقة البيئية السليمة لاستخراج البيوغاز المولد للطاقة من النفايات العضوية، وليس حرقها، لأن الحرق يشترط تخفيض محتواها من الماء إلى أكثر من النصف، وهذا يتطلب هدر كميات كبيرة من الطاقة، في حين أن الهضم اللَّاهوائي عملية تتطلب كميات المياه الموجودة في النفايات العضوية ولا تستدعي تخفيضها. إذن، نحن ضد المحارق لأنها تلغي مبدأ المعالجة، الذي هو مبدأ رئيس من مباديء الإدارة المتكاملة السليمة بيئيا والمستدامة، وتستبدله بتدمير هذه المكونات وتحويلها إلى ملوثات غازية وجزيئية ورماد، كلها تتطلب جهودا وكلفة وتقنيات متطورة لتخفيفها والحد من مخاطرها الكبيرة على البيئة، وتهديدها الكبير للصحة العامة، كونها غنية بالمركبات عالية السمية، المسببة للأمراض السرطانية والهرمونية والمزمنة والمستعصية.
ماذا بقي من ادعاءاتكم بـ”الإدارة المتكاملة” في ظل اعتمادكم المحارق؟ ذهبت مع لهيب محارقكم وانبعاثات مداخنها ورمادها السام كل مقولات التضليل عن الإدارة السليمة للنفايات، ومباديء التخفيف والتدوير والمعالجة. وبقي فقط تدمير الموارد والعبث بقيمتها، بكلفة إنشاء وتشغيل تقدر بمئات ملايين الدولارات سنويا، تجمع من جيوب اللبنانيين وقوت أطفالهم، لتخضب جيوب أزلامكم وأتباعكم، على حساب سلامة بيئة لبنان وصحة أبنائه، لهذا الجيل وأجيال كثيرة قادمة.
لا لمحارقكم، كنَّا كثرا في الأمس، وفي المرات القادمة سنكون أكثر.