دأبت مؤخرا القوى النافذة في السلطة السياسية، التي تتحكم بسياسات وخيارات إدارة ملف النفايات في لبنان منذ مطلع التسعينات وحتى اليوم، على اعتبار المحارق الحل السحري لأزمات النفايات، التي أوصلت البلاد إليها سياساتهم الفاشلة وعالية الكلفة البيئية والصحية والمالية على مدى عقود.
يحلو لهم تسمية المحارق بـ “التفكك الحراري” تخفيفا لصدمة الرفض الشامل لها على مستوى الرأي العام والبيئيين وكل العارفين بمخاطر المحارق على البيئة والصحة العامة والمال العام.
كل ما تقولونه في حملة الترويج البهلوانية للمحارق، التي تقومون بها عبر الحملات الإعلامية وتنظيم المؤتمرات المعلبة، وصولا إلى اللجوء إلى “الكليبات” المصورة، هو غير قابل للتصديق، لأنكم لم تنفذوا يوما ما عرضتم على الرأي العام من حلول ومعالجات طارئة ومؤقتة وتمهيدية، وإغداق الوعود الكاذبة بالحلول المستدامة، التي لم تعرفها ممارساتكم على امتداد السنين واستمرارا حتى اليوم وما تعدون الناس به للمستقبل.
كانت بداية “الخطة الطارئة لإدارة النفايات”، التي وضعتها وزارة البيئة وأقرتها الحكومة في العام 1997، للخلاص من أزمة النفايات التي انفجرت مع إقفال مكب برج حمود العشوائي، و”حرق” محرقة العمروسية على يد الأهالي المتضررين من تلوثها وسمومها.
قالت الخطة الطارئة بضرورة فرز النفايات وتدوير كل ما هو قابل للتدوير من مكوناتها، التي تشكل ما يقارب 30-35 بالمئة من مجمل النفايات الصلبة المنزلية. وتسبيخ المكونات العضوية هوائيا لإنتاج “الكومبوست” لاستعماله في تحسين التربة الزراعية. تشكل المكونات العضوية ما يتراوح بين 55 و63 بالمئة من كمية النفايات في لبنان. على أن يصار بعد إنجاز هذه العمليات إلى نقل متبقياتها، التي يسميها البعض “عوادم”، لكي يتم طمرها في المطمر الصحي، الذي أنشيء في منطقة الناعمة، وكانت تقدر في ذلك الوقت بحوالي 20-25 بالمئة من مجمل كمية النفايات الصلبة المنزلية، التي تجمع في بيروت وجبل لبنان.
ماذا حل بهذه الخطة منذ اليوم الأول لتطبيقها وحتى يوم إقفال المطمر وانفجار أزمة النفايات في تموز 2015؟
أولا، تم وضع عقد التشغيل مع الشركة الملتزمة على قاعدة احتساب الكلفة على طن النفايات، جمعا ونقلا ومعالجة وطمرا. وبذلك تكون مصلحتها في زيادة كمية النفايات وليس في تخفيفها، وبالتالي ضرب الحلقة الأولى المتمثلة بالتخفيف لأي خطة إدارة متكاملة سليمة بيئيا للنفايات.
ثانيا، تم اعتماد شاحنات تضغط النفايات و”تخبصها” لتجمعها وتنقلها إلى مركز الفرز في الكرنتينا، الذي بدأ بقدرة فرز لا تتجاوز 10-12 بالمئة، واستمر بهذه القدرة منذ 1997 وحتى اليوم. إن نقل النفايات إلى معمل الفرز بواسطة شاحنات ضاغطة يصعب ويعقد بل ويفشل بشكل كامل عملية الفرز النوعي والكمي للنفايات، وهذا ما حصل بالفعل منذ البداية وحتى اليوم.
ثالثا، تم تشغيل معمل الكورال للتسبيخ Composting بقدرة لا تزيد عن 300 طن يوميا من المكونات العضوية للنفايات، بوسائل وطرق بدائية، وبقي على هذه القدرة وهذه الوسائل والطرق منذ 1997 وحتى اليوم.
رابعا، كان يتوقع أن يخدم مطمر الناعمة مدة 15 عاما في المساحة الأولى التي أنشيء عليها، ولكن هذه المساحة امتلأت خلال 3-4 سنوات من بدء تشغيله، مما اضطر إلى توسعته عدة مرات ليصبح على مساحة تقارب عشرة أضعاف المساحة الأولية، والتي امتلأت حتى موعد إقفاله في العام 2015، أي بعد حوالي 18 عاما من تشغيله.
ماذا بقي من الخطة الطارئة التي أقرتها الحكومة في العام 1997؟
عمليا لم يبق شيئا يذكر.
فنسبة الفرز لم تتجاوز الـ10-12 بالمئة حتى اليوم، بل أن استحداث معمل الفرز في العمروسية لم يحقق تحسناً في نسبة الفرز، بل بقي معمل العمروسية، خلال كل مدة تشغيله منذ افتتاحه وحتى اليوم، لا تزيد نسبة الفرز فيه عن 8 بالمئة فقط.
لم يتم تنفيذ أي إجراء لزيادة نسبة الفرز في معمل الكرنتيا أو لرفع كفاءة المعمل وتجهيزه وتطوير العمل فيه، حيث لا يزال منذ إنشائه وحتى ساعة كتابة هذه السطور على حاله، على رغم كل القرارات والتصريحات والإعلانات، التي أهدرت لتضليل الرأي العام بشأن تطوير تجهيزاته ورفع كفاءته وزيادة نسبة الفرز فيه.
لم يتم تنفيذ أي إجراء لتطوير تجهيزات معمل الكورال للتسبيخ Composting ولا لزيادة قدرته الاستيعابة ولا لتحسين وتطوير العمليات فيه لتحسين نوعية المنتج، بل بالعكس تم الإبقاء على ضعف قدرته التشغيلية وسوء نوعية الكومبوست الذي ينتجه، بل شهد تدهورا كبيرا في هذه النوعية.
هل كل ما حصل منذ 1997 حيال “الخطة الطارئة” حدث بالصدفة؟
نحن نقول أن ذلك لم يحدث صدفة، بل بقصد وتصميم، لأن هذا يتلاءم كليا مع مصالح القوى، التي تتحكم بهذا الملف، وحققت من خلال ما تم ممارسته منذ ذلك التاريخ وحتى إقفال مطمر الناعمة مئات ملايين الدولارات، وربما المليارات أيضا.
مصالح هذه الفئات في السلطة تتعارض كليا مع إرساء سياسة الإدارة المتكاملة والسليمة بيئيا للنفايات، لأن مع تحقق هذه السياسة تفقد القدرة على نهب المال العام، الذي يتأمن لها مع إدارة الملف والإنتقال به من أزمة إلى أزمة، ومن خطة طارئة، إلى خطة مؤقتة، وإلى إجراءات تترافق بعقود بكلفات تقاس أيضا بمئات ملايين الدولارات دون تحقيق فعلي لمعالجات سليمة لملف النفايات، تحمي البيئة والصحة العامة والمال العام.
منذ اليوم الأول لإقفال مطمر الناعمة ولمدى شهور، تركوا النفايات تتراكم في شوارع بيروت وأحيائها، وفي ساحاتها وباحاتها، وتحت جسورها وعلى أرصفتها وفي مجاري الأنهر والسواقي وفي أوتوستراداتها وأزقتها، تتعفن فتتصاعد روائحها الكريهة وتنتشر في مساكنها وبيوتها وبناياتها، وتجتذب القوارض والحشرات والحيوانات حتى امتلأت بيروت جرذانا وفئرانا وقططا وكلابا، وانتشرالذباب والبعوض، وكنت ترى أهل بيروت يعبرون الشوارع وقد غطوا أنوفهم بالفوط والكمامات. تسربت من جموع النفايات سوائل قاتمة ملأت الشوارع والدساكر حاملة السموم إلى مسافات بعيدة عن مواقع تراكمها بألوف الأطنان. انتشرت الحرائق المفتعلة على يد شبان لا يعرفون شيئا عن مخاطر انبعاث أدخنة الحرق العشوائي لأطنان النفايات في شوارع عاصمتهم وأحيائها، وفي كل مناطق بيروت الكبرى وجبل لبنان، وعمت هذه الظاهرة كل ربوع البلد، التي امتلأت مكبات ومزابل عشوائية.
كل ذلك، حصل بالفعل، ولم يتحسس حكام لبنان ضرورة الدعوة لاجتماع طاريء أو استثنائي لمعالجة هذا الوضع الكارثي والمهين لعموم الشعب اللبناني، والخطير على صحته.
ماذا كان هم الحكومة والسلطة السياسية للبلاد في هذه الحقبة المقرفة من أشهر أزمة الغرق في النفايات التي غطت بيروت وكل لبنان؟
كان همها ببساطة توضيب الصفقات على أرضية هذه الأزمة. فطرحت خطط إنشاء مطامر ومكبات في “الأطراف”، وهذا تعبير مقزز وعنصري، في عكار وعنجر وإقليم الخروب والجنوب، فكان الرفض الشعبي الكبير، حيث استفزت خطاباتهم وخططهم ومشاريعهم مشاعر الجميع، ونظمت حركات الرفض والإحتجاج في كثير من المناطق.
بدأوا بنسج صفقة “ترحيل” النفايات، غير آبهين بالشبهات التي تحيط بشركائهم في هذه الصفقة الخطيرة، حيث اعتمدت “مافيا” تصدير النفايات التي تعاونت مع الجهات المعنية في الحكومة، تزوير الوثائق واستعمال المزور لتمرير صفقتها غير المشروعة وفق معايير ضوابط القانون الدولي لنقل النفايات، التي تحددها اتفاقية بازل.
وبعد ذلك، استفاقوا على مشاريع ردم البحر القابعة في أروقة بعض الوزارات ومجلس الإنماء والإعمار، ولا سيما في منطقة الجديدة – برج حمود، ومنطقة الكوستابرافا على ساحل الشويفات، وهي مشاريع قديمة، سبق لكثيرين إعدادها والحديث عنها. كانت هذه لحظة نضوج تمرير صفقة الجمع بين طمر النفايات وردم البحر، فكانت خطة استحداث مطامر على الشاطيء في هاتين المنطقتين. وما استحداث المطامر إلا لتحقيق الهدف القديم الجديد والمتجدد بردم البحر.
ألم يتم ردم البحر بالنفايات في برج حمود؟ ألم يتم تصميم مطمر الكوستابرافا مع إبقاء جانبه الغربي دون عزل؟
قالوا أن هذين المطمرين يشكلان حلا مؤقتا لأربع سنوات، فإذا بها تغص بمئات آلاف الأطنان من النفايات، التي تنقل إليها دون فرز حقيقي في معملي الكرنتينا والعمروسية، ودون تسبيخ جدي في معمل الكورال.
ماذا حصل بهذين المطمرين؟ امتلآ قبل المهل المحددة لتشغيلهما، وجرى إتخاذ قرار توسعتهما على مراحل…مشروع ردم البحر في هاتين المنطقتين يتحقق تدريجيا ويتحول إلى حقيقة واقعة، وأزمة النفايات لا تزال مسلطة على رئات وقلوب وجيوب اللبنانيين.
الآن، تروجون للمحارق بأنها الترياق الشافي…وتمعنون بالتضليل حيال الفرز والتدوير والمعالجة، في حين أنكم تخططون لمحارق تزيد قدرة استيعابها عن كميات النفايات الإجمالية، التي تتولد في لبنان يوميا.
ماذا تخططون بالفعل؟
لو كنتم صادقين في خطة الإدارة المتكاملة لكنتم قمتم بما هو مطلوب لتشغيل عشرات معامل الفرز المنتشرة في مناطق لبنان، حيث تزيد قدرتها الاستيعابية عن كل كميات النفايات المنتجة في لبنان. وكنتم قمتم بتأهيلها وتجهيزها بحيث تقوم بالفرز الفعال، كميا ونوعيا، لتلبية حاجة المصانع اللبنانية من الموارد الثانوية لإعادة إدخالها في دورتها الإنتاجية، توفيرا للموارد وللطاقة ولكلفة الإنتاج.
لو كنتم صادقين لكنتم نفذتم جملة القرارات، التي اتخذتموها بشأن زيادة قدرة استيعاب معمل الفرز في الكرنتينا، وتطوير عمل معمل التسبيخ في كل المناطق، ورفع كفاءة عملها وجودة منتجها.
لو كنتم صادقين لكنتم توقفتم عن استخدام الشاحنات الضاغطة في جمع ونقل النفايات واستبدلتموها بشاحنات تجمع دون ضغط.
لو كنتم صادقين لكنتم انطلقتم بجدية في مشروع الفرز من المصدر، متكئين على تعاون واسع من قبل منظمات المجتمع المدني والبلديات في إنجاح ذلك، وبالتعاون أيضا مع المدارس والجامعات.
لا نصدقكم، ولا نثق بكم، أنتم تحضرون لإنشاء محارق بقدرات كبيرة تفوق كميات نفايات لبنان، فكيف بأضاليلكم بأنها لمتبقيات عمليات الفرز والتدوير والمعالجة، أي لما تسمونه “العوادم”. إنكم تضللون، بل ربما تخططون لاستيراد نفايات من الخارج، حيث تتفاقم أزمة التخلص من النفايات الصناعية والبلاستيكية في أوروبا والعالم.
إنكم تتحركون وفق مصالحكم في استنزاف ملف النفايات لنهب المال العام، استكمالا لسياساتكم، التي تنفذونها منذ 1997 وحتى اليوم. وتريدون الاستمرار الآن باستبدال المطامر لمجمل النفايات أو 90 بالمئة منها، بمحارق لمجمل النفايات أو 90 بالمئة منها. كنتم بعقود تقاس بمئات ملايين الدولارات، وها أنتم ذاهبون مع المحارق إلى عقود بمئات ملايين الدولارات، غير آبهين ببيئة لبنان وصحة اللبنانيين لهذا الجيل والأجيال القادمة، وممعنين في نهب المال العام تحت عنوان النفايات والتخلص منها.