كما كان متوقعاً، في غياب الحلول الاستراتيجية المستدامة لأزمة النفايات، كرّت سبحة المحارق. هكذا، بدأت تكبر لائحة البلديات التي تدرس اعتماد هذا الخيار بحجة أن المطامر على وشك الامتلاء، وأن المحارق تخفف من حجم النفايات التي تذهب الى الطمر. فبعد بلدية بيروت، بدأت بلديات أخرى، من بينها الجديدة والشويفات وزحلة وغيرها، تكليف شركات استشارية لدرس إمكانية إنشاء محارق، موهومة بأنها وقعت على الحل «البديل» و«المستدام» لأزمة النفايات.
مع هذا التوجّه، معطوفاً على محاولات سابقة لم تنته فصولاً بعد مع بلدية طرابلس وبلديات في الجنوب تدرس منذ مدة خيار الحرق، ومع تنظيم رحلات «استكشاف وترويج» لممثلين عن بلديات وعن «المجتمع المدني» إلى محارق في أوروبا… يكتمل السيناريو التراجيدي لمسلسل خطير لن ينتهي الا بتحوّل لبنان محرقة كبيرة، وهي كارثة أكبر من تلك التي عرفها يوم تركت أكثر من نصف نفاياته في الشوارع عام 2015.
لا يحصل كل ذلك من فراغ. فالحكومات المتعاقبة منذ 2010 أكدت خيار التفكك الحراري (الحرق) الذي أدرج من ضمن برامج التمويل لـ«باريس 4» (سيدر). كما أن هناك من يستفيد من وجود هاجس حقيقي من عودة النفايات الى الشوارع، ومن تأبيد الحلول «الطارئة» السيئة، كردم البحر. أضف إلى ذلك أن معظم المقاولين العاملين في هذا القطاع يجزمون بأن المشكلة ــــ لا سيما في بيروت وجبل لبنان الأكثر اكتظاظاً ــــ هي في عدم إيجاد أراض كافية لاستخدامها مطامر لمعالجة النفايات المنزلية، وأن المطامر الموجودة تصل الى قدرتها الاستيعابية بسرعة، كما في مطمر الناعمة الذي جرى توسيعه أكثر من مرة، وكما في المطامر الجديدة التي بدأ العمل على توسيعها (الكوستابرافا)، أو التي سيطلب توسيعها في أول اجتماع تعقده الحكومة الجديدة (برج حمود ـــــ الجديدة).
أمام هذا كله، تصبح «مبررةً» مساعي البلديات لاعتماد خيار المحارق! فذريعة «قلّة الأراضي» وأن «الحرق يخفف من حجم النفايات بعد ترميدها» منطقية ظاهرياً. لا بل يذهب بعضهم الى أن مبدأ «التخفيف» (وهو على رأس مبادئ معالجة النفايات) ينطبق على الحرق! في حين أن هذا المبدأ يقوم أساساً على تجنب إنتاج الكثير من النفايات (قبل أن تصبح نفايات)، قبل التفكير في اعتماد أي تقنية لتخفيف حجمها بعد إنتاجها. وهذا ما يتجنب تبنيه أي من العاملين والمستثمرين في النفايات، سواء جماعات الفرز وإعادة التصنيع أو الطمر أو الحرق.
يبدو أن مسوقي الحرق أو الطمر فهموا خطأ المقدمات المنطقية الارسطية، كالقول بما أن «كل إنسان ميّت»، فإن دفنه أو حرقه هو الحل الوحيد، إذ إن هذا المنطق يتجاهل المهمة الانسانية الاساسية الأوْلى، وهي الاهتمام بحياة هذا الإنسان وتأمين الشروط والظروف الضرورية له للعيش بصحة… لا الاهتمام بنهاية الحياة فقط. ولذلك، يفترض بأي استراتيجية أن تهتم بتأمين شروط العمر المديد للسلع أكثر من اهتمامها بمآلها الأخير. من هنا يصبح مشروعاً السؤال: لماذا تجاهلت الحكومات ووزراء البيئة المتعاقبون تبنّي هذا المبدأ وترجمته في استراتيجية وقوانين تفرض ضريبة على منتجات تتحول، بسرعة وبكثرة، الى نفايات، وتدعم منتجات صديقة للبيئة؟

مبدأ «التخفيف» يقوم على تجنب إنتاج النفايات وليس تخفيف حجمها بعد إنتاجها
وبالمناسبة، فإن الحل الاستراتيجي للتخفيف من مشكلة النفايات ليس من مهام البلديات التي يلقى على عاتقها التفكير في حلول، أسهلها تلزيم شركات لحرق النفايات. رمي المشكلة على البلديات، بعد عجز الحكومات، بات يتخذ مناحي في غاية الخطورة، إذ يتركها لقمة سهلة لسماسرة التقنيات، لا سيما الخطرة منها، الذين أفادوا من الافكار النفعية والسطحية التي طالبت بلامركزية الحل وتحرير أموال البلديات لتشجيعها على الاستثمار في مشاريع مكلفة لا قدرة لأي بلدية على تركيبها وتشغيلها وترحيل ملوثاتها.
كل ما يحصل يخالف أبسط المبادئ الاستراتيجية التي تقول «خطة مركزية قوية تنتج لامركزية ناجحة. ومركزية ضعيفة تحول اللامركزية الى فوضى خطيرة». وأي خيار بلدي استراتيجي الآن (مثل خيار المحارق)، قبل تأليف حكومة جديدة وتسمية وزير بيئة جديد، تكون مهمته الاولى إنتاج استراتيجية للنفايات يعدّل على أساسها القانون ويحدد المهام المركزية واللامركزية وما يجب تشجيعه وما يفترض تجنبه… سيكون كالانتحار.

حبيب معلوف – الاخبار