كل اللبنانيين أصبحوا على علم أن ما سمي بقانون “الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة” في لبنان، ما هو إلا إعلان الضوء الأخضر لإطلاق مشاريع محارق النفايات من كل حجم ونوع، وفي كل المناطق اللبنانية.
قبل إقرار القانون في اللجان المشتركة، حرم النواب من مناقشة جدية لصيغة مشروع القانون آنذاك، وأقروه في جلسة استمرت لبضعة دقائق فقط، وكأن هناك أمرا جللا ينبغي تمريره دون نقاش. أحيط هذا القانون بحظوة خاصة واهتمام استثنائي، ودائما دون نقاش جدي وعميق، لا في جلسة الهيئة العامة ولا قبلها. كيف لا وهذا القانون ينتمي إلى القوانين، التي تحظى بعناية ودعم ودفع الدول المانحة في مؤتمر “سيدر”، حيث أعد لثلاثة محارق كبرى قرضا ميسرا بمليار ومئتي مليون دولارا، كل واحدة بكلفة إنشائية من 375 مليون دولارا. إنها صفقة دسمة فعلا….
بعد إقرار هذا القانون، الذي انتحل إسم “الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة”، وهو في الحقيقة لن يكون يوما أداة للإدارة المتكاملة، حيث أن تطبيقه يتطلب وضع 14 قرارا تصدر عن وزير البيئة، وأكثر من 5 مراسيم تصدر عن مجلس الوزراء، أصبح واضحا أن ما هو مطلوب من استعجال إقرار هذا القانون قد بدأ بالفعل، ألا وهو هدف إدخال البلد في عصر المحارق الكبيرة في المدن، والمتوسطة والصغيرة في القرى والبلدات والأقضية والمحافظات. وللتذكير فقط بأن المراسيم التطبيقية لقانون حماية البيئة رقم 444، الذي صدر في العام 2002، لا تزال تنتظر من يحضرها ومن يصدرها.
يبدو أن اقتسام مناطق النفوذ لإنشاء المحارق يسير على قدم وساق. فمن المعروف أن المحارق الكبرى هي من حصة الطرف، الذي يضع يده على ملف النفايات منذ عقود، وينتقل به من خطة طارئة إلى مطامر في الأطراف، فإلى مطامر شاطئية تتقاطع مع مشاريع ردم البحر، فإلى المحارق الكبرى. وأصبح الآن من المعروف أيضا، مع التقدم باقتراح القانون من قبل وزير الطاقة والمياه، بحيث “يجاز للاشخاص المعنويين أو الطبيعيين من القطاع الخاص وبعد الاستحصال على التراخيص القانونية اللازمة من وزارة الطاقة والمياه بتشييد وإنشاء معامل لمعالجة النفايات الصلبة الناتجة عن البلدات والقرى في الأقضية والمحافظات”، أن محارق القرى والبلدات في الأقضية والمحافظات هي وفق هذا القانون، المطروح للتصويت عليه في أول جلسة تشريعية، هي من حصة الوزير القوي وتياره. هل ستستتب الأمور لهذا الاقتسام، أم أن أطرافا أخرى ستدخل على خط انتزاع “نتشة” لها من “تورتا” المحارق؟ هذا ما سيظهر في الأشهر والسنوات القادمة.
لم يكلف نواب الأمة في البرلمان الجديد أنفسهم عناء مراجعة نص القانون، ولا التمعن بمواده وأبوابه، ولا في ما أقحم بين السطور من اختراقات خطيرة، تصب كلها في مصلحة اعتبار المحارق الغاية والهدف من هذا القانون، مغلفا برداء ثقيل من التضليل، المرفق بضجيج عال لمصطلحات “مخروقة” للإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة، استخدمت بذكاء لإفراغ الإدار المتكاملة من أي مضمون رؤيوي، يجعل من هدف هذه الإدارة استرداد الموارد الثانوية لإعادة إدخالها في الدورة الإنتاجية للصناعة اللبنانية، التي تشكل عماد القطاعات المنتجة للإقتصاد اللبناني، وتطوير الإقتصاد الدائري. وحيث تم “إذلال” التفكك البيولوجي، لناحية إخراجه من الأولويات الأساسية للإدارة المتكاملة، وتغييب تام، على مدى نص القانون، لتقنية الهضم اللَّاهوائي، التي تحوِّل المكونات العضوية من النفايات (دون الحاجة إلى تجفيفها)، إلى بيوغاز يستعمل لإنتاج الطاقة. بل حصر مفهوم استرداد الطاقة بالحرق وحده لا شريك له، مموها تحت عباءة المصطلح المحبب للجميع “التفكك الحراري”.
على الرغم من أننا نبهنا وكتبنا وطالبنا نواب الأمة أن يلتفتوا إلى ما زج من مغالطات في التعريفات، وفي مواد متعلقة بتحديد الأولويات الرئيسية، وبمصطلحات ملتبسة، كلها تنطلق من اعتبار هدف معالجة النفايات تحضيرها لتقدم على مائدة المحارق، التي توفر لمشغليها عقودا بمئات ملايين الدولارات. سوف يجهدون في توفيرها من ضرائب ورسوم جديدة تفرض على لقمة خبز اللبنانيين، عبر تحميل البنزين مزيدا من الرسوم والضرائب غير المباشرة، التي تؤدي إلى رفع أسعار كل السلع على الإطلاق.
هل دققتم في زج رماد المحارق، الذي يقول عنه هذا القانون أنه “مواد غير مضرة”، في فئة النفايات الخامدة Inert materials، وكذلك إقحام “المعادن التي يمكن أن تمر من خلال منخل صغير الحجم” في هذه الفئة أيضا، ما يثير السخرية والدهشة معا. هل يجهل مستشاروكم بأن المواد كلما صغر حجمها كلما زادت تفاعليتها؟ وكيف لمعادن صغيرة الحجم أن تصنف موادا خامدة؟
هل دققتم في بعض المصطلحات الملتبسة في طول هذا القانون وعرضه؟ هل برأيكم أن “تخفيف” النفايات هي مسألة مطلوب من البلديات والجمعيات الأهلية القيام بها؟ هل هذا هو مستوى فهمنا للتخفيف؟ في حين أن “التخفيف” يتطلب سياسات وقرارات وإجراءات اقتصادية ومالية تتخذها الحكومة والبرلمان. هل قرأتم عن قرار البرلمان الأوروبي القاضي بوقف استعمال المنتجات البلاستيكية وحيدة الإستعمال؟ هكذا تصاغ سياسات التخفيف أيها السادة.
لماذا يجب أن تتمتع “الهيئة الوطنية لإدارة النفايات الصلبة” بالاستقلالية المالية والإدارية، وأن تكون غير خاضعة لأحكام النظام العام للمؤسسات العامة؟
كل ذلك في كفة، وفي الكفة الأخرى ما جرى تسريبه في الباب الرابع، المتعلق بإدارة النفايات الصلبة الخطرة.
المادة 26 من القانون تتحدث عن “استيراد وتصدير ونقل النفايات الخطرة”. السؤال الكبير الذي يطرح نفسه، منذ متى أصبح “استيراد” النفايات الصلبة الخطرة حاجة وضرورة وطنية؟ فهل يعرف واضعو نص هذا القانون لماذا وضعت اتفاقية بازل؟ لا شيء يبرر الحديث في متن نص قانوني عن استيراد النفايات الصلبة الخطرة، حتى وإن أُتبعت بموافقة وزارة البيئة. فهل موافقة وزارة البيئة تلغي إبرام لبنان لاتفاقية بازل؟ إن حبر تصديق لبنان على “قرار الحظر III/1 لاتفاقية بازل” لم يجف بعد. ماذا يحضِّر أصحاب مشاريع المحارق للبنان؟ هل ينوون فعلا استيراد نفايات خطرة، أو تسهيل استيراد هذا الصنف من النفايات؟ أو إعطاء موافقة وزارة البيئة على مشاريع استيراد لنفايات خطرة إلى لبنان؟ أيها السادة، إن اتفاقية بازل قد وضعت بالأساس لحماية البلدان النامية، ومنها لبنان، من تصدير النفايات الخطرة من البلدان الصناعية إليها، بطرق ملتبسة وغير مشروعة. هذه البلدان النامية في إفريقيا وآسيا، ومنها لبنان طبعا، التي كانت ولا تزال ضحية تصدير نفايات خطرة إليها بطرق ووسائل مختلفة، وتحت عناوين متنوعة، جاءت اتفاقية بازل لتحميها من هذا الأمر، وجاء قرار الحظر، الذي ينص على منع الدول الصناعية من تصدير نفايات خطرة إلى البلدان النامية تحت أي ذريعة، أيضا ليشكل حماية لها من أن تتحول إلى مكب للنفايات الخطرة للبلدان الصناعية، عن طريق نشاط مافيات الاتجار غير المشروع.
والمادة 27 من القانون تتحدث عن سماح وزارة البيئة بصورة استثائية بخلط النفايات الخطرة مع غير الخطرة، وهذا أيضا ما يثير المخاوف والقلق الشديدين. ماذا يخفي بالضبط واضع هذا النص القانوني؟ فهل ينوي تحويل محارق النفايات، التي يخططون لإنشائها، إلى محارق لخليط من النفايات الخطرة وغير الخطرة؟
يبدو أن زج مسألة استيراد النفايات الخطرة ليست سهوة وقع فيها واضع نص القانون، لأن ذلك يعاد تكراره في النقطة (3) من المادة 27، حين تقول: “يتوجب على مؤمني الخدمات، والمشغلين، ومنتجي النفايات الصلبة الخطرة ومستخدميها ومستورديها وناقليها ….”، إذن مستورديها، فهل قرأ نواب الأمة في البرلمان اللبناني هذا الكلام؟ وهل هم فعلا يوافقون عليه؟ أم أن من زج بهذه التعابير خلسة في تلافيف النص القانوني كان يعرف أن نوابنا لا يقرأون ولا يمحصون، ولا يستشيرون العارفين، بل يُمنعون من النقاش، ويُستعجلون لرفع الأيدي والإقرار؟ نحن نسأل، وهذا من حقنا، فإذا كان هناك من عنده الجواب الشافي فليتفضل بفضله ونحن له مترقبون.
اتفاقية بازل تتيح للدول النامية، ومنها لبنان، أن تصدر أحيانا نفايات خطرة إلى البلدان الصناعي المتطورة بهدف معالجتها والتخلص السليم بيئيا منها. أما أن تستورد نفايات خطرة؟ فهذا تجاوز للاتفاقية ونسف لمضمونها وفلسفتها، وهذه المرة عبر تشريع وطني، يشرع استيراد النفايات الخطرة، ويشرع أبواب الفوضى والخراب البيئي والانهيار الصحي لشعب لبنان وأجياله القادمة.