لا يمكن توصيف مشكلة نهر الليطاني وبحيرة القرعون على أنها أزمة تلوُّث فحسب، بل هي غير منفصلة عن أزمة إدارة الثروة المائية في لبنان، إن لناحية نوعية وجودة المياه، وإن لجهة عقلنة استخدامها وفقا لخطط استراتيجية تضمن استدامتها من خلال الحد من هدرها وتبديدها، ومواجهة فوضى استهلاكها كما هو الحال اليوم.
في هذا السياق، يمكن الإحاطة ببعض أسباب كارثة تلوث نبع عين الزرقا (البقاع)، والتي لا تقتصر على رمي “زيبار” الزيتون، فهي أولا لم تكن مجهولة الأسباب، وتاليا، تبدو جلية كعين الشمس، خصوصا في ظل واقع يحكمه الفساد، وتسوده المماطلة وتتحكم به سياسة الاستمهال في اتخاذ إجراءات جدية وسريعة للمعالجة، فضلا عن وقف الصرف العشوائي للأموال المرصودة لمعالجة تلوث النهر في غير موقعها المفترض، ولا في اتجاهاتها الصحيحة والفعالة.
مخيمات النازحين
وفقا لهذا الواقع، باتت الكوارث الإضافية والفضائح متوقعة، تماما كالتعديات على النهر التي شملت تعديات مخيمات النازحين السوريين، وإحداها على العقار 16 في منطقة الصرفند وتمثلت في إشغال بناء مخالف ومؤجر يضم مئات النازحين السوريين، حيث قامت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بإنشاء سياج ضمت من خلاله حرم قناة ري القاسمية لإشغالها من قبل النازحين، الى جانب ترك المياه العادمة مسلطة الى النهر وأقنيته، وهذا الأمر يطاول سائر المخيمات القائمة غير بعيد عن مجرى الليطاني، وبذلك تكون المفوضية، عن قصد أو غير قصد، شريكة في قتل مصادر المياه وتفاقم معاناة اللبنانيين والنازحين على السواء، وفي حدود معينة “شريكة” في التعدي على الأملاك العامة ومصادر المياه.
مياه عين الزرقا
أما عن مشكلة زيبار الزيتون وتركه يتدفق إلى النهر، فهي تماما كالسماح للبلديات والمصانع وغيرها في تلويث النهر تاريخيا، ومثلما سارت معظم الخطط بعيدا عن الإتجاه السليم والوحيد لصرف الأموال التي تم رصدها لبناء وتشغيل محطات معالجة للمياه المبتذلة، التي تلوث النهر وحوضه، ما يشير الى ان الفساد هو السائد في مختلف المجالات.
وبالرغم كل الإجراءات التي اتخذتها “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” لرفع التلوث عن النهر وملاحقة الملوثين والمطالبة بمحاسبتهم، ورغم اجراءات النيابة العامة الاستئنافية في البقاع ضد أصحاب معاصر الزيتون في بلدة سحمر، بقي زيبار الزيتون يتدفق في مجرى نبع عين الزرقا الذي تضاعفت فيه نسب مادة “الفينول” عن الاسبوع الماضي، ورغم استدعاء بلدية سحمر بسبب ضخها مياه النبع الملوثة نحو المنازل، الا ان الضخ لم يتوقف ايضا، ما يكشف مماطلة القوى الأمنية والجهات المعنية في ملاحقة الملوثين وتطبيق القوانين.
المؤسسات الصناعية
وزير البيئة طارق الخطيب الذي وجه كتابا الى وزارة الداخلية لإلزام البلديات عبر محافظي البقاع والجنوب وبعلبك الهرمل، بإقامة مستنقعات اصطناعية وتحويل الصرف الصحي الى اماكن يتم زرعها بالقصب والنباتات في انتظار الانتهاء من محطات التكرير قبل نحو يومين، هو نفسه كان قد قام في العاشر من شباط (فبراير) 2017 بجولة ميدانية في عدد من مراكز معالجة النفايات والمؤسسات الصناعية في البقاع، وانضم اليه وزير الصناعة حسين الحاج حسن يرافقهما وزير الاتصالات جمال الجراح، والنواب امين وهبي، علي فياض، انطوان سعد وشانت جنجيان ومحافظ بعلبك الهرمل بشير خضر ومحافظ البقاع القاضي انطوان سليمان للوقوف على مدى التزام المصانع بطرق المعالجة وعدم تلويثها للمحيط وخصوصا مجرى نهر الليطاني.
ولفت الخطيب يومها إلى أن “كل المؤسسات الصناعية مدعوة الى الاستفادة من دعم مشروع LEPAP لتحسين أدائها البيئي، وبالتالي تطوير أعمالها وأرباحها، وتحسين سمعتها تجاه المستهلكين والمجتمعات المحلية المحيطة بها تطبيقا لمبدأ المسؤولية اجتماعية البيئية للشركات”.
إلا ان كل هذه الصولات والجولات لم تحرك المعنيين الى اليوم لجهة تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقهم، فتفاقمت الكارثة وعظُم حجم الجريمة، وتخلفت جميع القوى السياسية التي سمحت بتسليط شبكات الصرف الصحي مباشرة الى النهر، بحيث “فرخت” المصانع الملوثة لتصل الى 723 مؤسسة منها التي استمات في الدفاع عنها كل من وزيري الصناعة والبيئة على السواء لإعطائها مزيد من المهل وعدم السماح بإقفالها، ما يعني مزيدا من الإغتصاب للنهر ولحياة الناس وصحتهم.
مشكلة ثقة
إلا ان “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” التي تخوض المعركة لوقف التلوث في غياب اي جهد مقابل من الجهات المعنية تطبيق القانون 63، واصلت جهودها هذه المرة ايضا بالادعاء أمام القضاء على المؤسسات الصناعية الملوثة، وكان نهار أمس موعدا للنظر في 43 ملف بشأن تلويث الليطاني، ولكن الكثير من الشركات المدعى عليها لم يجر تبليغها، ولم يعقد أمام القاضي المنفرد الجزائي في زحلة محمد شرف ما يتخط العشر جلسات، ما تسبب بإرجاء الجلسات إلى 18 و20 كانون الأول (ديسمبر) من هذا العام.
هذا الواقع يضعنا أمام مشكلة ثقة، والكل معني بشكل أو بآخر، والجدير بالذكر أن “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” كانت قد نشرت قائمة طويلة بأسماء المصانع الملوِّثة، لكن جاء قرار وزير الصناعة متأخرا بإقفال 79 مؤسسة غير مرخصة و72 مرخصة تم تنبيهها كملوثة، فيما رأى رئيس المصلحة الدكتور سامي علوية أن هذه الخطوة يمكن أن يُبنى عليها إن نفذت، وإن استهدفت المؤسسات الملوثة لا تلك المخالفة للشروط الإدارية، مشيرا الى أن ما يعنينا هو إيقاف مصادر التلوث، ولذلك حددت المصلحة الجهات المسؤولة وفق مسوحات شملت خمسة مصادر هي: الصرف الصحي، النفايات الصلبة، الصرف الصناعي، التلوث الناتج عن القطاع الزراعي وسوء ادارة الموارد المائية.
وزارة البيئة تتخطى القانون
وبعد ان عمدت وزارة البيئة طويلا الى إعطاء مهل للمؤسسات الصناعية تسري من تاريخ التبليغ، تبلغت “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” قرارات توضيحية موجهة الى محافظ البقاع كمال
أبو جودة والى وزارة الصناعة، تؤكد فيها على تحديد تاريخ أقصى لتلك المؤسسات للإلتزام البيئي تحت طائلة الاقفال المؤقت والنهائي، وبالتالي، وبعد تاريخ تحدده وزارة البيئة يقتضي اقفال المؤسسات غير الملتزمة، وهذا ما يعد قفزا فوق قانون المياه وإلغاء مفاعيله، خصوصا في ما يتعلق بالالتزام البيئي خلال ستة اشهر من تاريخ صدوره، فيما يفترض أن المهلة في قانون المياه انتهت في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
كما لا ننسى أنه كان يفترض على “مجلس الإنماء والإعمار” أيضا العمل بوتيرة اسرع لمعالجة مشاكل التلوث مع المتعهدين، وكان يتوجب على وزارة الطاقة والمياه حماية هذا المورد المائي، وخصوصا بعد استلامها مبلغ وقدره 250 مليار ليرة لبنانية لتعمل على تلزيم الاشغال في شبكات الصرف الصحي التي لم تستكمل بعد وفقا للأولويات، وهذا التقاعس امتد الى كل الوزارات، بما فيها الداخلية التي سمحت للبلديات بتسليط الصرف الصحي على النهر منذ تسيعينات القرن الماضي الى اليوم، ولكي لا تبقى معضلة الصرف الصحي لبلدات الحوض الأعلى لنهر الليطاني، ولا تبقى إشكالية اشغال شبكات الصرف الصحي ومحطات التكرير، وتمويلها موضع استفهام وتقاذف المسؤوليات خصت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني.
المسح الشامل
وفي ما يلي، ينشر greenarea.info المسح الشامل للصرف الصحي للبلدات ولمحطات التكرير وشبكات الصرف، مع جدول المهل الذي أعلنته الجهات المختصة والتي قد يستغرق بعضها، لوصلها أو بدء التنفيذ، الى ما بعد العام 2021:
للإطلاع على الجدول كاملا إضغط هنا: بي دي اف: