ليس التعارض قائما بين جمهور المحتجين، وما يعبرون عنه من مصالح فئات واسعة من الشعب الفرنسي، وبين السياسات المطلوبة لتطبيق إلتزامات إتفاقية المناخ، الهادفة إلى الحد من استخدام الوقود الأحفوري، وبالتالي انبعاثات الكربون المسببة للاحتباس الحراري، المؤدي إلى التغير المناخي.
وليست الضرائب على أسعار الديزل والبنزين هي بالضبط أفضل الإجراءات لتحقيق أهداف تخفيف انبعاثات الكربون. فالعدالة المناخية، تتحقق بوضع السياسات الإستراتيجية الهادفة إلى التخفيف التدريجي لاستخدام الوقود الأحفوري، المسبب لانبعاثات الكربون، في القطاعات المختلفة، وفي مقدمتها قطاعات إنتاج الطاقة، والصناعة، والنقل. لا يمكن اقتصار إجراءاتها على خطوات معزولة تطاول الأسعار الإستهلاكية للمشتقات النفطية، ولا سيما تلك المتعلقة بقطاع النقل، حيث أن أي ارتفاع لأسعارها على المستهلكين ينعكس ارتفاعا شاملا على معظم السلع والخدمات، التي تلامس مباشرة حياة الفئات الشعبية الواسعة.
ليس من العدالة في شيء، أن تلجأ الحكومات، وفي هذه الحالة، حكومة الرئيس الفرنسي، إلى رفع أسعار الديزل والبنزين، وفرض ضريبة إضافية بحجة تطبيق سياسات مناخية، تحت إسم ضريبة على الكربون. هذه الإجراءات المتمثلة بفرض ضرائب جديدة على وقود قطاع النقل، ما هي إلا سياسات تلبي مصالح اقتصادية ومالية لسلطة المؤسسات المالية الحاكمة في فرنسا، والتي تمثلها إدارة ماكرون كما هو معروف. إن التخفي وراء حجج مناخية لوضع اليد على دخل المواطنين، عبر ضرائب جديدة غير مباشرة، تؤدي بتفاعلاتها إلى رفع كلفة العيش على عموم فئات الشعب، عبر استهداف مستهلكي المشتقات النفطية، ليست هي السياسة المطلوبة لمواجهة استحقاق تنفيذ التزامات اتفاقيات تغير المناخ، بل المطلوب سياسات تستهدف بشكل مباشر الشركات العملاقة لمنتجي الوقود الأحفوري، تنقيبا وإنتاجا وتسويقا وتوزيعا.
السياسات المناخية العادلة، هي تلك التي تسعى لتطوير الإنتاج الفعلي لمصادر طاقة نظيفة ومتجددة بديلة، تنافس عبر آليات السوق الرأسمالي، وبدعم واضح من حكومات الدول الصناعية الكبرى المتقدمة، عبر اعتماد استراتجيات واضحة للتخفيف التدريجي من توظيف الرساميل في قطاعات التنقيب والإنتاج والتسويق والتوزيع لكل المشتقات النفطية، وفي الإطار الأوسع لكل أنواع الوقود الأحفوري، وفق سلم للأولويات، وتقسيم دقيق للمراحل الإنتقالية.
نعتقد أن نموذج السياسات المناخية المعتمدة من قبل الحكومة الألمانية، هو النموذج الأكثر عدالة، حيث لا يضع الإجراءات المطلوبة مناخيا بمواجهة مباشرة مع مصالح الناس والقطاعات المستهلكة، بل يذهب بعيدا في تطوير مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة، مما يؤدي إلى انخفاض بنسبة الإعتماد على الوقود الأحفوري في كل القطاعات. أي بتطوير جدي وعميق لبدائل، فعالة ومتوافرة وموثوقة، عن الوقود الأحفوري في سوق الطلب على الطاقة في كل القطاعات، بما فيها قطاع النقل.
الفرق جوهري بين السياسات، التي تنتهجها ألمانيا في هذا المجال، وبين ما لجأ إليه الرئيس الفرنسي من فرض ضرائب على الديزل والبنزين. يكمن هذا الفرق، بأن ألمانيا، وهي البلد الرائد في أوروبا، بل في العالم أجمع، في مجال تطوير مصادر الطاقة الأنظف والمتجددة، حيث بلغت كمية الطاقة التي أنتجتها من مصادر نظيفة ومتجددة، طاقة الرياح والطاقة الشمسية وطاقة الكتلة الحيوية والطاقة المائية، رقما قياسيا بلغ 104 بليون كيلووات ساعة (kwh) خلال النصف الأول فقط من السنة الجارية 2018.
بلغت الطاقة المتجددة في ألمانيا في العام 2017 نسبة 36.1% من مجمل حاجات ألمانيا للطاقة. وهي تحقق اليوم نسبة 100% طاقة متجددة في قطاع الطاقة الكهربائية.
كلما زادت نسبة مصادر الطاقة المتجددة من مجمل استهلاك الطاقة في بلد ما، كلما انخفض بنفس النسبة استهلاك الوقود الأحفوري، دون الحاجة للجوء إلى فرض ضرائب جديدة على المشتقات النفطية تطاول عموم المستهلكين من الفئات الشعبية.
إن فرنسا تمثل نموذجا مختلفا تماما، حيث تعتمد في حوالي 72.3 % من حاجتها للطاقة الكهربائية على الطاقة النووية، في حين أن الطاقة المتجددة لا تتجاوز نسبة 17.8% فقط، والوقود الأحفوري نسبة 8.6%.
وضعت فرنسا هدفا لتحققه في العام 2020 يتمثل بالوصول إلى نسبة 23% طاقة متجددة، فهل بفرض الضرائب على جمهور المستهلكين تنوي الحكومة الفرنسية تحقيق هذا الهدف؟
إن أهداف زيادة نسبة الإعتماد على مصادر الطاقة المتجددة تتحقق عبر اعتماد سياسات جريئة وحازمة تطاول كل قطاعات الإقتصاد، ولا سيما تطوير آليات وتجهيزات تعمل على مصادر غير أحفورية للطاقة، مثل تطوير وسائل النقل الهجينة والعاملة على الطاقة الكهربائية المتولدة من مصادر نظيفة ومتجددة.
هل أمَّنت فرنسا مصادر للطاقة البديلة المتجددة لاستخدامها في وسائل النقل؟ هل طوَّرت صناعة وسائل نقل تعمل على طاقة غير أحفورية؟ إن هذين المسارين يمكن اعتبارهما سياسة مناخية عادلة، حيث تتأثر بتحقيقها برامج وخطط واستراتيجيات كبريات الشركات الصناعية والنفطية، وليس عموم المستهلكين من الفئات الشعبية الواسعة.
ليس بالأدوات المالية والضرائبية وحدها ترسم السياسات، وتتحق الأهداف الاستراتيجية الكبرى المتعلقة بتغير المناخ.
إن تغيير ملامح الإقتصاد العالمي لكي يتلاءم مع تحقيق أهداف سياسات التخفيف والتكيف المطلوبة لتطبيق التزامات اتفاقيات التغير المناخي هو هدف استراتيجي، على حكومات العالم أن تعمل على تحقيقه. ولكن، لا يمكن القبول بتحميل تبعاته على الفئات الشعبية.
بل المطلوب أن تتحمل كبريات الإحتكارات والشركات العالمية، في قطاعات النفط والوقود الأحفوري عموما والطاقة والصناعة، ولا سيما صناعة التجهيزات والآلات والآليات ومركبات النقل كل نتائج سياسة التحكم بالتغير المناخي.
هكذا فقط تتحقق العدالة المناخية دون المساس بالعدالة الاجتماعية….
هذه هي أهداف حركات الإحتجاج في فرنسا، التي نرى أنها عادلة ويجب أن تحظى بكل دعم، إذ هي لا تتعارض مع أهداف حماية الحياة على الأرض، التي يهددها التغير المناخي، بل تتعارض مع خيارات الإحتكارات الكبرى، التي تعبر عنها سياسات بعض الحكومات، ومنها سياسات حكومة ماكرون بالذات في فرنسا اليوم.