يعود تاريخ مصطلح “كولونيالية النفايات” إلى أواخر الثمانينات من القرن الماضي، حيث يقال بأن أول من استخدمه كان وزير البيئة الألماني، حين سمَّى ممارسات التخلص من النفايات، ولا سيما الخطرة منها بـ “كولونيالية النفايات”. والبعض يقول بأن هذا المصطلح استخدم للمرة الأولى من قبل مندوبي الدول الإفريقية في اجتماع للخبراء لاتفاقية بازل، عند الحديث عن ضرورة حظر التجارة الدولية بالنفايات الخطرة، حين صنفت هذه التجارة كشكل من أشكال استغلال الفقراء من قبل الدول الغنية والمتقدمة صناعيا. وحظي هذا الأمر بتأييد عدد من الدول المتقدمة. إن وزير البيئة الألماني قد سمَّى ممارسات نقل النفايات الخطرة من البلدان الصناعية المتقدمة في أوروبا وشمال أميركا إلى الدول الإفريقية بـ “كولونيالية النفايات”. هناك رأي آخر يقول به بعض المؤرشفين لمحاضر اجتماعات الخبراء لاتفاقية بازل، بأن مندوب اللوكسمبرغ في اجتماع الخبراء المنعقد في 13 شباط (فبراير) 1989 قد طالب الخبراء المجتمعين بالعمل الجاد من أجل إنهاء “كولونيالية النفايات”. كل هذه المصادر تتحدث عن أن هذا المصطلح استعمل لأول مرة في هذا الإجتماع بالذات.
في كل الأحوال، إن “كولونيالية النفايات” ولاحقا أصبحت “كولونيالية النفايات والتلوث” تشكل حقيقة مرة، عرفها العالم في السبعينات والثمانينات، ولا تزال مستمرة حتى يوما هذا، متخذة أشكال وغلافات وتمويهات شتى.
إن كولونيالية النفايات تصف كيف أن النفايات والتلوث تشكل جزءا من سيطرة فئة على أرض فئة أخرى. ويعبر هذا المصطلح، الذي لا يزال راهنا وحاضرا، عن أنماط القوة والسلطة في مسألة التخلص من النفايات، عبر نقلها وفرض مواقع وآليات التخلص منها والتلوث، الذي تحدثه لشعوب وسكان المناطق، التي يجري إخضاعها بكل الوسائل الممكنة لتتحول إلى “مكب” لهذه النفايات، أو إلى ضحية التلوث الذي تحدثه في بيئتها، هواء ومياها وأرضا وسلسلة غذائية.
مع مرور الأيام، ومع استمرار ممارسات الإتجار غير المشروع، وأحيانا المغلف بغشاء قانوني تمرره فئات متواطئة ومشاركة في صنع القرار في البلدان النامية، وفئات ترتبط مصالحها الفئوية بهذه المصالح للدول النافذة، أصبحت هذه المصطلحات على لسان الشعوب والحكومات والمنظمات المدنية المدافعة عن البيئة وعن حقوق الإنسان والعدالة البيئية والإنسانية عموما، للدلالة على حالات التخلص من مختلف أنواع النفايات الخطرة خارج حدود الدول المنتجة لها، عبر تصديرها بكل الوسائل، ومن ضمنها النفايات الإلكترونية والملوثات العضوية الثابتة والنفايات الصناعية ونفايات تفكيك السفن والنفايات الصلبة المنزلية. وقد ظهرت لاحقا مصطلحات رديفة في كثير من مناطق العالم، مثل “أمبريالية الزبالة” و”الكولونيالية السامة” و”الكولونيالية النووية” و”الإرهاب السام”، وكلها للدلالة على نقل كل أنواع النفايات من مناطق ودول التقدم الصناعية والغنى والنفوذ السياسي العالمي إلى مناطق ودول أضعف وأفقر وأقل نموا وأقل نفوذا.
لا تزال الدول الإفريقية تشكل هدفا ونقطة وصول لهذا النوع من الصفقات والتجارة الملتبسة والمشبوهة، وغير الأخلاقية في كل الأحوال، حيث تنقل إليها، بأشكال مختلفة، ملايين الأطنان من النفايات الخطرة، وذلك تحت عناوين تضليلية. فأحيانا تحت عنوان إنتاج الطاقة الرخيصة، وإضاءة الأرياف، وأحيانا أخرى تحت عناوين التطوير الصناعي ونقل التكنولوجيا، وفي غالب الأحيان تنمو في الواقع مكبات عشوائية تلوث البحر والمياه السطحية والجوفية والتربة والسلاسل الغذائية، مساهمة في تهديد الصحة البشرية والصحة البيئية، ومهددة التنوع الحيوي في تلك البلدان.
تحت هذه الحجج الكاذبة، نقلت البلدان الصناعية المتقدمة، في أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا واليابان، ملايين الأطنان من النفايات الإلكترونية بحجة إهدائها إلى شعوب تلك البلدان، حيث أن عمرها التكنولوجي قد استنفذ، وهي ستتحول إلى نفايات خطرة خلال بضعة شهور من تصديرها. وفي حالات أخرى تنقل النفايات بحجة أنها نفايات صناعية لإعادة التدوير، في حين أن معظمها في حالة تالفة غير صالحة لإعادة التدوير، يكون مصيرها المكبات العشوائية، التي تنمو كالفطر في أرياف البلدان الإفريقية والآسيوية، معرضة صحة البيئة والصحة البشرية لأكبر المخاطر.
إن هذه الممارسات قد أدت بالفعل إلى وضع اليد على مساحات من الأراضي، بأشكال مختلفة، تحولت إلى مكبات، يتم فيها أنشطة تعريب القليل مما هو صالح للتدوير لبيعه على يد الفقراء. في حين يكون وجود هذا الموقع دافعا للتوسع ووضع اليد على مساحات إضافية، وخطوة خطوة يتم قضم مساحات شاسعة من الأراضي، ما يؤدي إلى انخفاض حقيقي لقيمة العقارات المجاورة، مما يسهل التوسع لوضع اليد على المزيد.
إن “كولونيالية النفايات والتلوث” ليست فقط عملية إخضاع وفرض للنفوذ من قبل دول متجبرة على دول فقيرة ضعيفة، بل يمكن لهذه الكلولونيالية أن تكون داخلية، أي داخل البلد نفسه. حيث تفرض القوى المتسلطة والنافذة مواقع للتخلص من النفايات على رغم إرادة سكانها وأصحابها، ممارسة قوة السلطة والنفوذ بكل أشكاله. هذا ما نراه في لبنان على سبيل المثال، منذ ثلاثة عقود وحتى اليوم. فنرى أن الدولة، وبآليات مختلفة، ودون اعتبار لإرادة سكان المناطق، أو سكان المناطق المتأثرة، ودون احترام حقيقي لكل التشريعات البيئية، التي تقول بضرورة وضع الدراسات البيئية الضرورية، من دراسة التقييم الاستراتيجي للخطط والسياسات، ودراسات تقييم الأثر البيئي والإجتماعي للمشاريع، واحترام الحد الأدنى من معايير الموقع والإنشاء والتشغيل. ونرى في كثير من الأحيان، أن البلدية أيضا تمارس سلطة فرض اختيار مواقع لتحويلها إلى مكبات عشوائية، غير آبهة لا بإرادة سكان المناطق القريبة والمتأثرة، ولا بتخريبها بعيد المدى للبيئة وتهديد الصحة وسلامة المنظومات البيئية، ولا من جهة أخرى بالتخريب الذي تحدثه على مصالح الناس في عقاراتهم القريبة والبعيدة.
نحن شهود على كيف مورست كل أشكال الضغط والترغيب والترهيب على سكان منطقتي الكوستابرافا (الشويفات والضاحية) وبرج حمود والجديدة، وكل ما قامت به الدولة والقوى السياسية النافذة وبعض البلديات وبعض زعماء المناطق من أجل ليِّ ذراع المعترضين والمطالبين بالعدالة البيئية والصحية. وكلنا شهود أيضا كيف مورست الضغوط على القضاء لكي يتراجع عن أحكامه، التي أصدرها بحق ما سمي بمطمري الكوستابرافا وبرج حمود، على الرغم من كل ما يشوبهما من خلل في شروط الموقع والإنشاء والتشغيل، وإدارة ما يتولد عنها من ملوثات سائلة وغازية. نحن شهود أيضا، على كيف أن وضع اليد على هذه العقارات لتحويلها إلى ما سمي بمطامر صحية وهي في الحقيقة غير نظامية، قد أدى، وبعد فترة قصيرة جدا، إلى قرارات التوسعة لوضع اليد على مزيد من المساحات، وكيف عمدت الدولة، ولا سيما القوى النافذة فيها، التي تتحكم بقرارت إدارة النفايات، إلى تقاطع طمر النفايات مع ردم البحر، والسير قدما في توسعة مساحات طمر البحر لاكتساب مئات آلاف الأمتار المربعة على الواجهة البحرية، بحجة توسعة مطامر النفايات.
إن هذا النموذج اللبناني للمارسات في قطاع النفايات والتلويث، هو “كولونيالية نفايات وتلوث” داخلي، يفرضها أصحاب النفوذ بكل وسائل السلطة والقوة والحيلة والإغراء والترهيب، وذلك على حساب سلامة البيئة والصحة البشرية والمال العام، وتهديد الأمان الصحي لأجيال قادمة.
نحن أمام نموذج جديد لممارسة “كولونيالية النفايات والتلوث” مع خيارات الدولة والبلديات، كبيرة ومتوسطة، باعتماد المحارق للنفايات، على الرغم من كل ما يشهده البلد من حالة اعتراض ورفض، وبالدوس على إرادة سكان المناطق المعنية ومصالحها الحقيقية في بيئة نظيفة وصحة آمنة، والإئتمان على مالها العام. وبتجاهل كامل لمستويات التلوث القائمة حاليا والمقلقة لناحية آثارها الخطيرة على الصحة العامة، وبتعمية كاملة عن مستوى التلوث التراكمي الذي سينشأ مع محارق النفايات.
شكل تمرير “قانون الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة”، على رغم كل ما يعتريه من مغالطات وتشويه، وكل ما تم الدس فيه من مصطلحات وكلمات، تجعله آلية لتغطية استيراد النفايات، ولا سيما الخطرة منها، وآلية تسمح بخلط النفايات الخطرة مع غير الخطرة، لحرقها في المحارق، التي يتحضرون لإنشائها وتشغيلها.
في هذه المسألة بالذات، نحن أمام نموذج مزدوج لكولونيالية النفايات والتلوث. فمن جهة هي كولونيالية داخلية يعبر عنها في ممارسة التسلط وفرض الخيارات، التي لاتتلاءم مع مصالح الناس الحقيقية في بيئة نظيفة وصحة آمنة. ومن جهة أخرى، هي تعبير عن كولونيالية خارجية، فرضتها الدول المانحة في مؤتمر “سيدر” بتمويل للمحارق بقرض ميسر قيمته مليار ومئتي مليون دولارا لإنشائها. إن هذه المحارق هي حاجة أوروبية أكثر منها لبنانية، ولذلك تحظى بهذه الحظوة الأوروبية لجهة التمويل الميسر، بل قل هي حاجة تلبي تقاطع مصالح أصحاب مشروع المحارق في لبنان مع مصالح بعض الأوساط الأوروبية، المتمثلة بحاجتهم الملحة لتصدير كميات كبيرة من نفاياتهم الصناعية، ولا سيما البلاستيكية الصلبة، لحرقها في محارق تستحدث في لبنان، وفي إفريقيا بقيمة 60 مليار دولار، وفي الهند حيث سيتم إنشاء 100 محرقة جديدة.
ولذلك بالطبع، شهدنا في مطلع شهر أيلول (سبتمبر) 2018 في اجتماع مجموعة العمل مفتوحة العضوية لاتفاقية بازل، الذي انعقد في جنيف، كيف أن مندوب الإتحاد الأوروبي طرح وبإلحاح غير مسبوق تعديل حدَّ تركيز محتوى المواد الخطرة في النفايات كي تصنف نفايات خطرة، ورفعه من 50 جزء من مليون (الذي تعتمده اتفاقية ستوكهولم للمولوثات العضوية الثابتة) إلى 10000 جزء من مليون، أي رفعه 200 ضعف.
إن رفع هذا الحد سيؤدي إلى تغيير في تصنيف بعض النفايات من نفايات خطرة، محظور على البلدان الصناعية المتطورة تصديرها إلى البلدان النامية وفق قرار الحظر 3/1، الذي صادق عليه لبنان، ودخل حيز التنفيذ مؤخرا، إلى نفايات غير خطرة يمكن تصديرها إلى هذه البلدان ومنها لبنان، دون عوائق أو ضوابط.
كل هذا يتم في مرحلة تغرق الدول الصناعية، ومنها الأوروبية، في نفاياتها الصناعية، وخصوصا نفاياتها البلاستيكية، بعدما توقفت الصين عن استيراد 56% من النفايات الصناعية للبلدان الصناعية في أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا واليابان.
في هذا النموذج بالتحديد، نحن أمام حقيقة “كلولونيالية النفايات والتلوث” الخارجي والداخلي على السواء في تقاطع مصالح على درجة عالية من الوضوح، على حساب بيئة لبنان وصحة شعبه وماله العام.
تجلت كولونيالية النفايات والتلوث أيضا في مثال صارخ تم في العشرين سنة الأخيرة، حيث نقلت أوروبا العديد من مصانعها عالية التلوث إلى بلدان نامية في إفريقيا وآسيا، وكانت حصة بلدان المغرب العربي في المغرب والجزائر وتونس أن نقلت إليها كل معامل الأسمدة الفوسفاتية الكيميائية، ولم يبق في أوروبا أي معمل من هذا النوع على الإطلاق.
الحجج والأغلفة اللماعة جاهزة دائما، تبدأ من نقل التكنولوجيا للبلدان النامية، مرورا بالتنمية الصناعية، وصولا للتنمية الاقتصادية، التي تحتاجها هذه البلدان بالفعل. ولكن في حقيقة الأمر، أن أوروبا تتخلص من التلوث البيئي والآثار الصحية، والكلفة العالية لإدارة التلوث والتحكم به وفق التشريعات الأوروبية الصارمة والمواصفات والمعايير القاسية عندها. وترتاح من كل هذه الورشة المقلقة والمكلفة، فترمي بالصناعات الملوثة في بلدان أخرى لا تستطيع تطبيق ما تضعه من تشريعات، لا تزال ناقصة ويشوبها الضعف وعدم القدرة على التنفيذ. أوروبا تنقل الصناعات الملوِّثة إلى بلدان أخرى، وتشتري منها بشروطها الميسرة المنتجات التي تحتاجها، وتوفر على نفسها عناء تحمل التلوث وتبعاته وكلفة معالجته والتحكم به.
مثال آخر، شهده العالم أيضا، تمثل بنقل الإستثمارات الزراعية الكبرى إلى البلدان النامية، تحت نفس الحجج والأغلفة اللماعة للتنمية الاقتصادية، ولكن في الحقيقة هي للتخلص من تبعات التلوث بالمبيدات والأسمدة الزراعية، وما يترافق معه من مخاطر على البيئة، تربة وثروة مائية، وحالات تسمم أثناء الرش وغيرها من المخاطر، إضافة إلى تحقيق الأرباح الإضافية من خلال الفارق في الكلفة بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية.
هذا أيضا نموذج آخر لكولونيالية النفايات والتلوث، تحت عناوين التنمية ونقل التكنولوجيا.
في لبنان، نحن ضحية “كولونيالية النفايات والتلوث” الداخلي، ومقبلون على “كولونيالية النفايات والتلوث” المزدوج، الداخلي والخارجي، حيث تحضر كل العدة لتحقيقهما. ويبدو أن تمرير “قانون الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة” يشكل أحد أهم وأفعل هذه الأدوات لتحقيق ذلك