وأخيرا يتنفس اللبنانيون الصعداء بعد أن نضجت طبخة الحكومة، حتى وإن كانت التوقعات محدودة، والآمال بالنهوض بالبلد وبيئته واقتصاده وماليته وقضايا حياة شعبه تشوبها الشكوك وقلة الثقة.

ولكن على الرغم من قساوة ما يعانيه لبنان من أزمة خانقة على كل المستويات، نرى ضرورة طرح جملة من الأولويات البيئية، التي لا بد لأي وزير يشغل حقيبة وزارة البيئة، أن يطرحها في طليعة جدول أعماله.

أولا، لا بد من الإدراك العميق أن بيئة لبنان وموارده الطبيعية هي الثروة الحقيقية لشعبنا سابقا وحاضرا ومستقبلا. ولا مناص من إعادة نظر جذرية بالسياسات المعتمدة حتى الآن حيال بيئة لبنان، وتلويث أوساطها وتدهور مواردها وتدميرها لدرجة كبيرة، تجاوزت في بعض الحالات مستوى اللَّاعودة، مع ما يرتب ذلك من خسائر ومخاطر كبيرة، تترافق بتهديد فظيع للأمان الصحي لشعب لبنان وأجياله القادمة.

إن وضع سياسة بيئية شاملة ومتكاملة، ترتكز في فصولها على مضامين القانون الإطاري لحماية البيئة رقم 444 للعام 2002، أصبحت حاجة ملحة لا تحتمل أي تأجيل أو تأخير. إن هذا القانون، الذي يعتبر من أهم التشريعات البيئية في بلدان منطقتنا العربية، يشكل مرجعية ممتازة لوضع سياسات بيئية سليمة تطاول كل القطاعات وكل الأوساط البيئية وكل مناحي ووجوه الحماية لبيئة لبنان.

ولذلك، نرى أن أولوية الأولويات لأي وزير للبيئة في الحكومة الجديدة أن يفتح ورشة عمل جدية لوضع المراسيم التطبيقية كلها لهذا القانون، دون أي تأجيل أو مماطلة. إن استكمال وضع وإقرار المراسيم التطبيقية لقانون حماية البيئة يمثل أولوية ذات أهمية إستثنائية، ليس فقط لناحية معالجة ما تعانيه بيئة لبنان من دمار وتدهور وتلوث، بل أيضا في مجال حماية ما تبقى من مكامن الغنى والجمال والقيمة في بيئتنا ومواردنا الطبيعية.

من كبريات الأولويات، العودة سريعا عن الخطيئة الكبرى، التي تمثلت في إقرار “قانون الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة” بصيغته الحالية، والعمل الجاد والسريع على وضع وإقرار تعديلات واسعة عليه، وإزالة ما يعتريه من أخطاء وشوائب ومكامن ضعف وخلل وتعارض مع العديد من القوانين والتشريعات ومباديء الإدارة السليمة بيئيا للنفايات الصلبة. واحدة من أهم المخاطر، التي مررت في نص هذا القانون تتعلق بتشريع استيراد النفايات الخطرة. نحن لا نرى أي مصلحة وطنية في الإطاحة بكل ما يمنع استيراد النفايات الخطرة إلى لبنان، إن على مستوى القوانين اللبنانية النافذة أو على مستوى التزام لبنان باتفاقية بازل نصا وروحا، التي لبنان طرف فيها.

من كبريات الأولويات، وضع استراتيجية سليمة بيئيا وآمنة صحيا ومعقولة الكلفة للإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة، مرتكزة على أفضليات الفرز من المصدر، والفرز في مراكز مجهزة وفعالة، وأفضليات التدوير لاسترداد قيمة الموارد الثانوية، وإعادة إدخالها في الدورة الإنتاجية للصناعة اللبنانية. وأفضلية معالجة المكونات العضوية بالتسبيخ لإنتاج الكومبوست عالي الجودة، الذي يستورده سوقنا اللبناني بعشرات ملايين الدولارات سنويا. وكذلك عبر أفضلية تطوير معامل الهضم اللَّاهوائي، وتسهيل إنشاءها واستثمارها في المناطق، حيث بإمكانها استقبال، ليس فقط المكونات العضوية من النفايات الصلبة، بل أيضا الوحول المتولدة عن محطات معالجة المياه المبتذلة ونفايات المسالخ والملاحم، دون العظام، وكذلك نفايات أسواق الخضار والسمك، وذلك لتوليد البيوغاز، وبالتالي إنتاج الطاقة الكهربائية الأنظف. والتخلي الكامل عن سياسات وخطط ومشاريع إنشاء المحارق، المركزية وغير المركزية، لمخاطرها الكبيرة، أولا، على سلامة الإدارة المتكاملة للنفايات وسلامة البيئة. وثانيا، على الأمان الصحي للشعب اللبناني. وثالثا، لاعتبارها بابا مشرعا لهدر فظيع للمال العام. ورابعا، لأنها ستكون مدخلا لاستيراد النفايات من الخارج، وخصوصا من الدول الأوروبية الصناعية، بما فيها النفايات الخطرة لتدميرها في محارق لبنان المركزية وغير المركزية.

من المهم تذكير وزير البيئة الجديد، والحكومة كلها، والمجلس النيابي أيضا، أن استرداد الطاقة من النفايات لا ينحصر نظريا بالحرق وحده، الذي لا نراه مقبولا للطرح على الإطلاق بالنسبة إلى نفايات لبنان بتركيبها ونسب مكوناتها، بل ومن الأفضل والأولى الذهاب نحو تقنية الهضم اللَّاهوائي لتوليد البيوغاز، الذي يشبه بخصائصه الغاز الطبيعي، لإنتاج الطاقة الأنظف بيئيا، مقارنة مع كل خيارات الحرق الأخرى، بما فيها أفضل أنواع الفيول والوقود الأحفوري الأخرى.

من كبريات الأولويات العمل على تنظيم قطاع المقالع والكسارات والمرامل، التي نهشت جبال لبنان وغاباته وغطاءه الأخضر، وذلك عبر إعادة الإعتبار للمخططات التوجيهية، وللآليات القانونية للترخيص وإلغاء بدعة “المهل الإدارية”، وإعادة الدور القيادي للمجلس الأعلى للمقالع والكسارات والمرامل برئاسة وزير البيئة، وتشديد الرقابة على سلامة عملها، والإحترام الصارم لشروط الإستثمار والتأهيل بعد الإقفال.

من أعظم الأولويات أيضا، إعادة النظر الجذرية بسياسة ادارة الثروة المائية، والتراجع الكامل عن سياسة بناء السدود الفاشلة، والتي يمكن اعتبارها مسربا خطيرا لهدر المال العام وتدمير الموارد الطبيعية وهدر الثروة المائية. من ضرورات الإستراتيجية المائية الجديدة المطلوبة أن تنظر للثروة المائية، ليس فقط من الناحية الكمية، بل من ناحية الجودة والنوعية، والحفاظ عليها عبر حمايتها من كل أسباب التلوث.

على وزير البيئة الجديد وكل الحكومة الجديدة، أن يعلموا أن التنمية المستدامة والحقيقية تستلزم إعادة النظر الجذرية في استراتيجية الصرف الصحي، التي يعتمدها مجلس الإنماء والإعمار منذ ثلاثة عقود، وهي سياسة أثبتت فشلها وعقمها الفظيع على كل المستويات.

هناك هدفان، على أي سياسة لمعالجة الصرف الصحي أن تحققهما معا، أو أن تحقق واحد منها على الأقل بصورة مؤقتة، وهما: أولا، تخفيف مستويات التلوث، الذي يسببه صرف المياه المبتذلة غير المعالجة الى الأوساط البيئية المختلفة، بحرا ونهرا وتربة. وثانيا، إعادة استعمال المياه في الري أو أي استعمالات مفيدة أخرى، بحيث يعاد احتساب المياه المعالجة مع حسابات الثروة المائية العذبة المتاحة وطنيا.

إذا نظرنا إلى كل ما نفذه مجلس الإنماء والإعمار من مشاريع تندرج تحت العنوان العام لإدارة الصرف الصحي، نرى أنه لم يتحقق أي من هذين الهدفين، في أي من المشاريع، وفي أي من المناطق اللبنانية على الإطلاق. نحن ندعو وزير البيئة الجديد وكل الحكومة الجديدة، أن تعيد النظر بمعايير تقييم السياسات والخطط والمشاريع، وذلك بالإقلاع عن الإكتفاء بمعيار الكلفة (مئات ملايين الدولارات)، بل باعتماد معايير تقيس مستوى تحقيق الأهداف المبتغاة لهذه السياسات والخطط والمشاريع بطريقة علمية وموضوعية، ومدى انتمائها فعلا لمفهوم التنمية المستدامة.

من كبريات الأولويات أيضا أن يولي وزير البيئة الجديد، وكل الحكومة الجديدة، اهتماما خاصا بمعالجة النفايات الصناعية السائلة والصلبة، وكذلك الإنبعاثات في الجو، بما يتوافق مع معايير الجودة البيئية الوطنية، التي تتطلب تحديثا وتطويرا شاملا بأقصى السرعة الممكنة.

وكذلك العمل على وضع الخطط المناسبة لتخفيف تلوث هواء المدن من مصادر قطاع النقل، التي وصلت إلى مستويات مقلقة وهي تهدد السلامة الصحية العامة لعموم السكان، ولا سيما الأكثر هشاشة وضعفا، مثل المرضى وكبار السن والأمهات الحوامل والأطفال والرضع.

هذا فيض من غيض الأولويات الأكثر إلحاحا، لكي يتولى وزير البيئة الجديد والحكومة الجديدة فتح ورشتها، والعمل الجاد من أجل تحقيقها.

هذه هي الإنجازات الحقيقية، التي يتطلع إليها شعبنا، وفورا دون تأخير أو تلكؤ أو إبطاء.

 

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This