صادق لبنان منذ أيام على تعديلات كيغالي- روندا المتعلقة ببروتوكول مونتريال بشأن حماية طبقة الأوزون، وعلى إتفاقية باريس، الملحقة بالإتفاقية الإطارية بشأن التغير المناخي.
أن يبرم لبنان هذه الاتفاقيات والتعديلات أمر مطلوب وجيد، ومن شأنه أن يجعل لبنان متماشيا مع متطلبات الإلتزام بالسياسات، التي تؤدي إلى حماية طبقة الأوزون من الإستنفاذ والتدهور، مع كل ما يمكن أن يؤدي استنفاذ طبقة الأوزون من مخاطر على الحياة على الأرض والتنوع الحيوي وعلى صحة الإنسان. وكذلك أن يصادق على إتفاقية باريس، التي أقرت في العام 2015 بشأن تطوير سياسات التخفيف والتكيف المتعلقة بالتغير المناخي، وذلك تنفيذا للإلتزامات الدولية بتحقيق كل ما هو مطلوب من إجراءات وسياسات واستراتيجيات لتخفيف انبعاثات غازات الدفيئة، ومنع تجاوز نسبة الإحترار الكوني لأكثر من درجتين مئويتين، وسياسات التكيف مع ما بدأت تظهر من أحداث مناخية، مترافقة مع تأثيرات سلبية على حياة كثير من الشعوب في العالم، ومسببة لخسائر إقتصادية وبشرية كبيرة، ومخاطر صحية واجتماعية بعيدة المدى.
إذن أن يصدق لبنان على هذه الاتفاقيات ولو بتأخير بضعة سنوات، مسألة تصنف في خانة الخطوات السليمة في الإتجاه الصحيح. ولكن، يبرز عندنا أسئلة كثيرة تتعلق بكيف يرسم لبنان سياساته في كل القطاعات الأخرى، في كثير من الحالات على نقيض تام من ضرورات الإلتزام بغايات وأهداف هذه الإتفاقيات.
فيما يتعلق ببروتوكل مونتريال وحماية طبقة الأوزون، لقد حقق لبنان تقدما كبيرا على طريق وقف وتخفيف استخدام الغازات والمواد المستنفذة لطبقة الأوزون. ونفذ برامج على مدى سنوات طويلة استهدفت تدريب عاملين في قطاع التبريد والتدفئة، وقطاعات أخرى كانت تستعمل غازات الكلوروفليوروكربون CFCs، حيث استبدلت ببدائل لا تؤدي إلى استفاذ طبقة الأوزون. هذا الجانب الإيجابي في ما أنجز في هذا المجال، ولكن في الجانب السلبي، لم نر حتى الآن قرارات فعالة تمنع تصنيع واستيراد عبوات رش الرذاذ المستعملة لغازات تنتمي للمواد المستنفذة للأوزون. إن اتخاذ مثل هذا الإجراء سيكون له فعالية أكبر في مكافحة استعمال هذه المواد في لبنان، أو منعها في أجهزة تبريد السيارات والمركبات الآلية.
أما فيما يتعلق بسياسات تغير المناخ المطلوب من لبنان أن يعتمدها تماشيا مع التزامات اتفاقية باريس لتغير المناخ، فهي لا تقتصر على استقبال تقارير وتصاريح عن انبعاثات غازات الدفيئة من بعض الشركات والمؤسسات، وكثير منها لا يتعلق نشاطه بشكل مباشر بانبعاث غازات الدفيئة المسببة للتغير المناخي، مثل بعض البنوك، فهذا خطوة إيجابية، ولكنها بعيدا دون الحد الأدنى المطلوب للسياسات اللبنانية الهادفة لتخفيف انبعاثات غازات الدفيئة، ولا سيما في قطاع إنتاج الطاقة والقطاعات الصناعية والزراعية وقطاع النقل، وأخيرا وليس آخرا في قطاع إدارة النفايات عالي الأهمية في هذا السياق.
في قطاع الطاقة، علينا أن نمضي سريعا بتشجيع وتسهيل وتحفيز إنتاج الطاقة المتجددة والنظيفة، وأقول النظيفة، لأن البعض يتجاهلها ويزج ببعض التقنيات تحت عنوان الطاقة المتجددة حتى ولو كانت على درجة عالية جدا من التلويث، وضمنا بانبعاثات غازات الدفيئة المسببة للتغير المناخي، مثل محارق النفايات، ومطامر النفايات دون معالجة مسبقة للمكونات العضوية القابلة للتحلل.
وفي قطاع النقل، نحن بحاجة ملحة إلى سياسات ذكية في هذا القطاع، من شأنها أن تخفف أزمة النقل وكلفته العالية على الأفراد وعلى الإقتصاد الوطني عموما، بالإضافة إلى كون هذا القطاع واحدا من أكبر القطاعات استهلاكا للوقود الأحفوري. إن سياسة النقل الوطنية المطلوبة، تتجاوز الإحتفاليات الفولكلورية ببعض المجالات المتعلقة بإدخال سيارة تعمل على النظام الهجين (الهيبريد) أو تعمل على الطاقة الكهربائية، بل تصل إلى تغيير جذري في نظامنا للنقل عبر اعتماد سكة الحديد والقطار والترام، ومنظومة شاملة من النقل المشترك داخل المدن وما بين المدن.
وفي القطاعات الصناعية والزراعية، المطلوب إرساء سياسات فعالة وطويلة المدى لترشيد استهلاك الطاقة، وإدخال مصادر أنظف للطاقة مثل الغاز الطبيعي، أو البيوغاز المتولد عن عمليات الهضم اللَّاهوائي للمكونات العضوية من النفايات ووحول محطات معالجة المياه البتذلة ونفايات المسالخ والملاحم دون العظام ونفايات الحدائق والأعشاب وتقليم الأشجار والأحراج.
أما في قطاع إدارة النفايات، وهنا التناقض الكبير بين احتفاليات إبرام إتفاقية باريس للتغير المناخي وكثير من الإتفاقيات البيئية الدولية الأخرى، وبين السير قدما ودون أي تردد نحو اعتماد خيار المحارق، بما في ذلك من قبل وزير البيئة، المؤتمن على تطبيق أهداف الاتفاقيات الدولية البيئة، التي يوقعها لبنان، حيث أن وزارة البيئة هي السلطة المختصة بمتابعة وتطبيق هذه الاتفاقيات.
إن السير في خيار المحارق تحت تسميات تضليلية مختلفة، منها التركيز على التمسك بمصطلح “التفكك الحراري” تهربا من استخدام “المحارق”، المصطلح الحقيقي لتسمية هذه التقنية، أو بالهروب إلى مصطلح “من نفايات إلى طاقة”، تلطيا وراء الأزمة الخانقة للطاقة الكهربائية في لبنان، والتي هي وليدة السياسات الطاقوية الفاشلة للحكومات اللبنانية، التزاما منها بمصالح القطاعات الطفيلية، التي يسميها البعض “مافيات”، التي نشأت على هامش أزمة الكهرباء واستيراد المشتقات النفطية في لبنان. إن السير في سياسة المحارق لإدارة النفايات هي على نقيض تام مع إبرام لبنان لاتفاقية باريس واحترام إلتزاماتها. فبدل العمل على تخفيف انبعاثات الدفيئة، يذهبون إلى مضاعفة هذه الانبعاثات عدة أضعاف مع محارق النفايات، هذا عدا عن التلويث البيئي الكبير بانبعاثات على درجة عالية من السمية، وتهديد الصحة العامة بأكبر المخاطر.
في أستراليا، انطلاقا من اعتبار محارق النفايات، بما فيها ما يطلق عليها إسم “من نفايات إلى طاقة”، مصدرا هاما جدا للإنبعاثات المسببة لتغير المناخ، ولتعارضها الكبير مع الإلتزام بمضامين اتفاقية باريس لتغير المناخ، دلت الدراسات على أن الإنتقال إلى هذه التقنية قد أعاد أستراليا إلى الإنزلاق في سياسة زيادة الكربون على نقيض التزامها بسياسة تخفيضه.
وعلى هذا الأساس اعتبرت المحكمة أن هذه المنشآت هي على تعارض مع التزام أستراليا باتفاقية تغير المناخ.
مؤخرا، وبالتأسيس على ما حصل في أستراليا، لقد اعتبرت محاكم في بريطانيا أن التأثيرات المناخية لمحارق النفايات، بما فيها منشآت “من نفايات إلى طاقة”، هي صالحة لأخذها بعين الأعتبار لتحديد الموقف من أي منشأة جديدة من هذا النوع. وقد ارتكزت المحكمة في قراراها على هذا التعارض مع اتفاقية باريس للتغير المناخي حيال المحرقة في منطقة “لاتروب فالي” La Trobe Valley وكل محارق النفايات الجديدة NSW incinerators.
نحن البيئيين اللبنانيين، سوف لن نتردد باللجوء إلى القضاء، لمقاضاة أصحاب مشاريع محارق النفايات، مهما اتخذت من تسميات مضلِّلة، مرتكزين في ذلك على القوانين والتشريعات البيئية اللبنانية، وعلى السوابق القضائية في العديد من البلدان، بما فيها أستراليا وبريطانيا.
التنمية المستدمة تتحقق أيها السادة والسيدات، ليس بالخطب الرنانة، ولا بالكلام الجميل من على مختلف المنابر، من قبل مسؤولين لبنانيين أو من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وإنما بوضع سياسات تنموية متناسقة ومتآزة في كل القطاعات، على توافق وانسجام مع أهداف التنمية المستدامة، ومع الإلتزامات والأهداف المنصوص عنها في الإتفاقيات الدولية، التي يبرمها لبنان، وفي المقدمة منها إتفاقية باريس للتغير المناخي، وغيرها من الإتفاقيات البيئية الدولية.