كنا نتوقع من وزراء الزرعة، الذين تعاقبوا على هذه الحقيبة في الحكومات المتتالية، أن يقوموا بإجراء التحديثات والتعديلات الضرورية على تركيب ووظيفة وآلية عمل لجنة المبيدات. في طليعة هذه التعديلات المطلوبة تحرير هذه اللجنة من السيطرة المطلقة لممثلي شركات استيراد الأدوية الزراعية، مما يجعل من وظيفتها شبه معطلة لناحية الرقابة على استخدام المبيدات والأسمدة الزراعية، بحيث يتم تفادي المخاطر المباشرة وبعيدة المدى المتأتية عن فوضى استخدام هذه المركبات والمستحضرات، التي تتميز بسمية متوسطة وعالية، وبعضها بسمية عالية جدا، على البيئة والصحة البشرية والتنوع الحيوي في مختلف المنظومات البيئية المائية والبرية. ومن الأولويات الملحة أيضا إشراك الأكادميين المستقلين وممثلين عن المجتمع المدني المتخصص بمتابعة إدارة الكيماويات الخطرة بما فيها المبيدات الزراعية في هذه اللجنة.
تطالعنا الأخبار من وقت لآخر عن حالات مثيرة للقلق تتعلق بمخاطر كبيرة ترتبط باستيراد واستخدام ومراقبة المبيدات الزراعية. فمن أخبار تمرير مبيدات زراعية مسرطنة وإدخالها إلى لبنان بطرق إلتفافية، إلى دخول مبيدات زراعية ممنوعة عالميا تحت أسماء تجارية مختلفة، فإلى توالي أخبار من مختلف المناطق اللبنانية عن فوضى في استخدام المبيدات الزراعية لناحية الكميات والأنواع وأوقات الرش. يتم ذلك على خلفية غياب كامل لسياسة الترشيد العقلاني المطلوب اعتمادها وتطبيقها في استخدام المبيدات الزراعية، وفي كثير من الحالات ترك هذه المهمة إلى مروجي ومسوقي الأدوية الزراعية، التابعين لشركات الإستيراد والتوزيع، بدل أن تكون هذه السياسة من وضع وتطبيق ومراقبة وزارة الزراعة ومصالحها في المناطق وبرامجها على المستوى الوطني.
إن ما تناقلته الأخبار في الأيام الأخيرة عن السماح بإدخال أطنان من الأرز تحتوي على مستويات عالية من بقايا المبيدات الزراعية تفوق المستويات المقبولة عالميا، يطرح بكل جدية وإلحاح مسؤولية وزارة الزراعة عن القيام بكل ما يُمكِّنها من الرقابة الكاملة على مستويات بقايا المبيدات في المنتجات الغذائية، الزراعية والمصنَّعة. تأتي في مقدمة القضايا في هذا السياق وضع تشريعات دقيقة وواضحة، تتضمن لوائح بحد التركيز المقبول لبقايا المبيدات في مختلف السلع الغذائية، ولا سيما المنتجات الزراعية واسعة الإستهلاك باعتبارها مكوِّن رئيسي لوجبات غذاء ملايين اللبنانيين، مثل الأرز والحبوب الأخرى والبقوليات والخضار والفاكهة والمعلبات والمنتجات الغذائية المصنعة.
هذه المهمة ليست صعبة التحقق تقنيا، بل هي تحتاج إلى قرار حاسم على مستوى السياسات المفترضة حيال هذا الأمر عالي الحساسية والأهمية. إن منظمة الصحة العالمية ومنظمة الزارعة والتغذية العالمية والعديد من دول العالم، مثل الإتحاد الأوروبي وكندا والولايات المتحدة الأميركية وضعت لوائح دقيقة ومفصلة وواسعة الشمول، وهي تخضع دوريا للمراجعة والتدقيق على ضوء معطيات العلم والبحث العلمي والدراسات، التي تجري عالميا. إن لائحة المستويات المقبولة للمبيدات في الأرز المعتمدة من الإتحاد الإوروبي والمعدلة في العام 2017 تجدها في الجدول التالي:
من جهة أخرى، إن لبنان بلد طرف في العديد من الإتفاقيات الدولية، التي تتناول مسألة تحديث السياسات حيال العديد من المواد الكيميائية السامة، بما فيها وعلى رأسها المبيدات الزراعية. إتفاقية ستوكهولم بشأن الملوثات العضوية الثابتة، التي تضم لوائحها عددا من المبيدات الزراعية، وهذه اللوائح تخضع للتجديد والتحديث في كل مؤتمر، أي كل سنتين. من الضروري تحديث اللوائح، التي تعتمدها الحكومة اللبنانية عبر وزارة الزراعة، ليس فقط لناحية المواد بل أيضا لناحية التراكيز المقبولة لبقاياها في المواد الغذائية. هذه المواد، التي وضعت على لوائح المنع، أو التي تخضع لمهل سماح محددة، أو لقيود على استعمالها في مجالات محددة حصرا، ومنع استخدامها في مجالات أخرى، وكذلك لجهة البحث الواسع عن كل التسميات التجارية، التي يمكن للشركات العالمية أن تلجأ إليها من أجل نشر الغموض والضبابية على كثير من تلك المركبات، وتحمِّلها تسميات تجارية تخفي الإسم الكيميائي الحقيقي للمركبات والمستحضرات.
لا بد من متابعة أجواء النقاشات في هذه المؤتمرات، حيث تجهد بعض الدول، وعلى رأسها الهند، إلى إفشال محاولات ضم مبيدات جديدة إلى لوائح المنع والقيود، وتمارس تعطيل الوصول إلى قرارات حاسمة في هذا السياق. وهذا ما ظهر في المؤتمر الأخير لاتفاقية ستوكهولم، كما في المؤتمرات السابقة أيضا، تعطيل الهند لقرار وضع حد زمني ينتهي في العام 2020 للوقف الكامل لتصنيع وتصدير واستعمال المبيد الكلوري الأكثر سمية وثباتا وخطرا والمعروف باسم د.د.ت. من المعروف لدى الجميع أن الهند هي الدولة الوحيدة، التي تنفرد بتصنيع ملايين الأطنان من هذا المبيد، على الرغم من منع تصنيعه واستعماله في العديد من دول العالم لأكثر من نصف قرن. ولا تزال الهند تصدر كميات هائلة منه إلى البلدان النامية تحت تسميات تجارية تخفي حقيقة المادة الفعالة في مستحضراتها. وعلى الرغم من القيود الكبيرة عالميا لهذا المبيد، وحصر استعماله فقط في مجال مكافحة نواقل الملاريا، لا تزال الهند تستعمله وتصدره للإستعمال كمبيد زراعي إلى العديد من بلدان العالم بتسميات مختلفة.
نقول هذا الكلام لكي تأخذه وزارة الزراعة بعين الإعتبار حين القيام بالسماح باستيراد تسميات جديدة من المبيدات، وحين تعطي موافقتها على استيراد مواد غذائية ومنتجات زراعية دون التحقق من مستوى بقايا المبيدات فيها، أو استسهال التلاعب بهذه المستويات المقبولة.
لدى مصلحة الأبحاث الزراعية القدرة البشرية والتقنية والتجهيزات المخبرية، التي تسمح لها القيام بالمراقبة المطلوبة، ولكن التشدد في اعتماد لوائح المستويات المقبولة والتشدد في مراقبة دقة التحاليل، يشكلان ضمانة لسلامة المنتجات الغذائية، التي تعرض في السوق اللبناني وتدخل في تكوين وجبات ملايين المواطنين.
إن التعرض المزمن لمستويات صغيرة جدا من بقايا المبيدات الزراعية السامة له آثار خطيرة جدا على الصحة البشرية، لما يسببه من أمراض في العديد من أجهزة ووظائف الجسم، بما في ذلك الأمراض السرطانية والتشويه الخلقي والإضطرابات الوراثية والتناسلية والهرمونية، لهذا الجيل ولأجيال قادمة.