من حيث المبدأ، في التخطيط الاستراتيجي لوضع السياسات البيئية، ومنها سياسة مكافحة تلوث الهواء، التي يطلق عليها في كثير من البلدان، سياسة جودة الهواء Air Quality Policy، يأتي الرصد والتقييم في آخر قائمة الإجراءات. وهو بالأساس لمتابعة وتقييم فعالية الخطوات الرئيسة، التي من المفترض أن تتضمنها خطط تخفيف مصادر التلوث في سياق سياسة مكافحة التلوث، ورصد نتائجها على مدى الوقت.
إذن الرصد، ووضع محطات لقياس مؤشرات تلوث الهواء في مناطق مختلفة، هو ليس إجراء يؤدي إلى التحكم بمصادر التلوث، ولا إلى التخفيف من مستويات وتراكيز الملوثات، ولا هو حلقة رئيسة في خطة مكافحة تلوث الهواء، بل هو خطوة لمتابعتها ومراقبة وتقييم فعاليتها.
ولكن في لبنان، تغيب السياسات والخطط والبرامج والأنشطة، ويحضر الرصد، المترافق بضجيج بشأن الإنجاز، في حين أنه إجراء معزول عن أي سياق لرؤية استراتيجية لمكافحة التلوث.
نحن نعلم أن محطات الرصد هي تقدمة من جهات أجنبية، تأتي خارج سياق التخطيط الاستراتيجي المفقود على مستوى وزارة البيئة والحكومات اللبنانية المتعاقبة عموما، بل تطبيق لبروتوكولات تعاون، وصرف لهبات مقدمة من هذه الجهة أو تلك.
هناك مصادر متعددة لتلوث الهواء، ليس فقط في بيروت الكبرى كما يظن البعض، بل على كامل الأراضي اللبنانية، بما فيها المناطق الجبلية والريفية، التي كانت تنعم في السابق بالهواء العليل والنظيف، ووصل إليها في السنوات الأخيرة تلوث الهواء بمستويات كبيرة، مع انتشار المزابل العشوائية للنفايات، وإشعال أو اشتعال النار فيها بشكل منتظم خلال معظم أيام السنة، وطبعا تتفاقم في فصلي الصيف والخريف. يضاف إلى المزابل العشوائية التي تبث السموم في هواء معظم المناطق اللبنانية، ما يقوم به البعض من حرق عشوائي، في الهواء الطلق، لكابلات متعددة الإستعمالات، وللإطارات، ولمنتجات تالفة تحتوي على معادن ذات قيمة، مثل النحاس والألمنيوم والرصاص. في هذه المنتجات تكون المعادن مغلفة بلدائن بلاستيكية وكاوتشوكية، تحتوي على هالوجينات، مثل الكلور والفليور والبروم، بحيث يؤدي حرقها إلى انبعاث لائحة طويلة من الملوثات والغازات والمركبات عالية الخطورة على البيئة والصحة البشرية، بالإضافة إلى الجزيئات الصلبة متناهية الصغر، وهي أيضا عالية الخطورة على الصحة، بحيث تخترق مباشرة إلى الحويصلات الرئوية، ومنها تنتقل إلى الدورة الدموية حاملة معها مركبات كيميائية عالية السمية.
هذه الملوثات هي عالية الخطورة لأنها تتميز بأربع ميزات مهمة لجهة تهديدها لسلامة البيئة والصحة البشرية وعلى المدى البعيد. هذه الميزات هي : السمية العالية جدا، والثبات والإستقرار المديد جدا، والقدرة على التراكم الحيوي بحيث تدخل السلسلة الغذائية للإنسان، والقدرة على الإنتقال من وسط بيئي إلى آخر، من الهواء إلى التربة فإلى المياه والمنتجات الحيوانية. هذه الملوثات تحتوي على مركبات من أكثر المركبات خطورة، مثل الديوكسين والفوران ومثيلاتها الفليورية والبرومية، بالإضافة إلى المعادن الثقيلة عالية السمية والجزيئات متناهية الصغر.
نموذج لحرائق الكابلات وانبعاث دخان غني بالملوثات السامة والخطيرة، رصدناه صباح اليوم الجمعة، 12 تموز 2019، على أوتوستراد الغازية – صيدا، في منطقة الغازية غرب الأوتوستراد، مقابل بلدة مغدوشة، بحيث غطت الأدخنة الكثيفة منطقة الأوتوستراد باتجاه مغدوشة غربا، وباتجاه صيدا مع الرياح الجنوبية الغربية.
ما هو مطلوب في لبنان، ليس الإكتفاء الشكلي برصد الملوثات. ونقول الشكلي، لأننا على ثقة تامة أن ثروة المعطيات حول مستويات مختلف مؤشرات تلوث الهواء في مختلف المناطق، لا يجري استعمالها لتقييم سياسة وخطط مفقودة أصلا، ولا يتم استخدامها لأي هدف يؤدي إلى التخفيف من كوارث تأثيرات تلوث الهواء على الصحة العامة، والارتفاع المضطرد في نسب التعرض والإصابة بمختلف الأمراض السرطانية، وغيرها من الأمراض المزمنة.
ما هو مطلوب فعلا، هو وضع وتطبيق سياسات تطاول ممارسات الحرق العشوائي، أي إدارة سليمة للنفايات. وسياسات تطاول قطاع النقل، أي السير بجرأة في وضع وتطبيق سياسة النقل العام على المستوى الوطني، بما في ذلك القطار والترام وشبكة الباصات والنقل البحري وتنظيم حركة نقل البضائع والركاب، بما يؤدي إلى وضع حد لهذه الفوضى الكارثية لنمو غير قابل للتحكم لقطاع نقل يعتمد أساسا على السيارة الخاصة.
ما هو مطلوب فعلا، وضع وتطبيق سياسة تهدف إلى التخفيف من الإنبعاثات المتولدة عن قطاع الطاقة بوضعه المأساوي حاليا من خلال اعتماده على المولدات المنتشرة على ضفاف غرف نوم اللبنانيين في كل المناطق، والتي تبث سمومها مباشرة في عقر دارهم وفي عقر صدورهم. واستبدال هذه الحالة الخطرة بالتوسع باعتماد الطاقة النظيفة والمتجددة، وهي متوافرة المصادر في لبنان.
ما هو مطلوب فعلا، وضع وتطبيق سياسة التحكم بالإنبعاثات المتولدة عن قطاع الصناعة، وذلك بترشييد استعمال الطاقة والموارد الأخرى، وتنويع مصادر الطاقة بإدخال الطاقة النظيفة والمتجددة.
المطلوب فعلا هو التصدي لوضع سياسات تهدف إلى تخفيف التلوث من مصادره كميا ونوعيا، وليس فقط الركون إلى برنامج رصد هو أصلا لا غاية استراتيجية له، ولا هو يخدم بمعطياته متابعة وتقييم فعالية سياسة هي لا تزال غير موجودة حتى الآن.