الزراعة…مشيمة سوريا الإقتصادية.

لاتزال  الزراعة، رغم مرور تسع سنينٍ من الحرب الشعواء على سوريا، تشكل الحبل السري الذي يعتاش عليه ملايين السوريين، حيث يعتمد حوالي 70% من الشعب السوري، بشكلٍ مباشر أو غير مباشرٍ،  على هذا القطاع الإقتصادي الواسع، يستهلكون مما ينتجون(يزرعون)، بدءاً من الحبوب والخضروات، مروراً بالفاكهة على أنواعها، وصولاً إلى الزيتون والفستق الحلبي… الخ، بينما تعتبر مزروعات أخرى كالقمحِ والقطنِ، من المزروعات الإستراتيجية التي طالما اعتمدت عليها الدولة ولاتزال، لدعم الإقتصاد الوطني.

 

و تُشكل الأراضي الصالحةٍ للزراعة، أكثر من ثلث مساحة البلاد، (حوالي 6.5 مليون هكتار) تُزرع بالأشجار المثمرة والمحاصيل الزراعية على أنواعها، منها حوالي 1,7 مليون هكتار، تُزرع قمحاً، بنوعيه الطري والقاسي.

 

تضرر هذا القطاع كما غيره من قطاعات الإقتصاد السوري، فقد أوضحت تقارير برنامج الأغذية العالمي أنَّ  “امتداد فترة الجفاف في وقت مبكر من موسم الزراعة يليه هطول أمطار غزيرة خارج الموسم(نتيجةً للتغير المناخي)، إضافة إلى تبعات الحرب الدائرة، قد تسببا في وصول الإنتاج الزراعي السوري إلى أدنى مستو له منذ ثلاثة عقود”. أضف إلى هذين السببين العقوبات الإقتصادية التي فرضت على سوريا، لتتجاوز قيمة الأضرار حتى عام 2017 ،حاجز الــ 16 مليار دولار .

 

لم تقم المجموعات الإرهابية، عبثاً، أو من فراغ، بتدمير ممنهج لكل مقومات الزراعة في سوريا، بدءاً من حرمان الفلاحين الوصول إلى أراضيهم، ومنعهم من نقل مسلتزمات الزراعة (بذار ، سماد وسائل الري) لابل وسرقتها، مروراً بمنعهم من تسليم محاصيلهم المختلفة إلى الدولة، ووصولاً الى نهبِ بنك “إيكاردا” للمصادر الوراثية، دون هدفٍ، إنما كان ممنهج، وبتوجيه من داعميها الذين يعرفون تمام المعرفة  :

 

أولاً: أنّ هذا القطاع يُشكل أحد أهم ركائز الإقتصاد الوطني السوري، ويلعب دوراً مهماً، فالصادرات الزراعية تُسهم بنصيبٍ مهم من التجارة الخارجية ( حوالي 30 في المئة)، وفي توفير القطع الأجنبي.

ثانياً كونه يُسهم في سد حاجة السوق المحلية من العديد من السلع، ويوفر العديد من المواد الخام لمختلف القطاعات الإقتصادية والصناعية.

 

ثالثاً: يُساهم في توفير فرص العمل، وسبل العيش لأعداد كبيرة من السكان (تقريباً 50 في المئة من السكان، يرتبطون بالقطاع الزراعي، بشكل مباشر أو غير مباشر).

 

رابعاً: يحتل المرتبة الثانية بعد النفط، من حيث عائدات التصدير في ميزان الصادرات السورية.

 

حكاية القمح…الذهب الاحمر

منذ أن هجَّنَ الفلاح السوري و زرع نوعاً من القمح البري وحيد الحبة،  في سهول ووديان الجزيرة السورية، منذ عشرة آلافٍ وخمسمائةِ سنةٍ، وإلى يومنا هذا لاتزال المنطقة الشرقية من البلاد (مساحتها 41.8 من مساحة سورية وتضم محافظات دير الزور،الحسكة والرقة)، تحتل المرتبة الأولى من حيث الإنتاج،  حيث تعطي 64 في المئة من إنتاج البلاد من القمح المروي ، و38 في المئة من القمح البعلي.  تليها في ذلك المنطقة الوسطى (تغطي نحو  27,6 في المئة من مجموع مساحة البلاد وتضم محافظات حمص وحماة)، تنتج 31 في المئة  من حجم الإنتاج العام من القمح المروي. فيما تزرعه المناطق الأخرى(الجنوبية والشمالية)، وإن بنسبٍ أقل.

 

والجدير ذكره هنا أنَّ الدولة السورية، تُسيطر اليوم على المناطق (الجنوبية والوسطى والساحلية) فيما تبقى أجزاء كبيرة من المنطقة الشرقية والشمالية، تحت سيطرة الفصائل الإرهابية والقوى الإنفصالية (قسد وأخواتها)، وهذا يعني الكثير.  ذلك كون تلك المناطق،التي تمتد من سهول الرقة والحسكة ودير الزور شمال شرق سورية، أضف إليها إدلب ، تعتبر العمود الفقري للإنتاج العام  من القمح السوري( تنتج 70 في المئة من الغلة).

 

ويُشكل القمح أحد أهم أعمدة الإقتصاد الوطني، حيث بلغ الإنتاج الإجمالي منه، قبل الحرب، بلغ حوالي  4.1 مليون طن سنوياً خلال الفترة بين عامي 2002-2011، وكانت منظمة الــ”فاو” تعتبر سوريا “مخزن القمح في الشرق الأوسط”. و قد احتلت سوريا المركز الثالث عالمياً بتصدير القمح القاسي بعد كندا والولايات المتحدة، (يمتاز هذا النوع من القمح بكبر حجم الحبوب والبلورية واللون العنبري الأصفر).

 

بناء على ما تأسس، فقد استخدمت الفصائل الإرهابية، حرق المحاصيل كسلاحٍ لمحاربة الدولة السورية، علماً أن ذلك مخالفةً صريحة  لاتفاقية روما لعام 1996 حول الأمن الغذائي (تنص على أنه لا يجوز استخدام الغذاء أداة للضغط السياسي والإقتصادي)، فأحرقوا حوالي 25 ألف دونم، في منطقة تل أبيض في الرقة وحدها(بحسب احصائيات “قسد” ذاتها)، ليتجاوز إجمالي الأراضي المحروقة في كل البلاد، المئة ألف دونم، كما منعوا الفلاحين الذين نجت حقولهم من الحرائق، من إخراج المحصول من المنطقة وتسليمه لمؤسسة الحبوب (الحكومية)، فكانوا بذلك يحرمون الشعب السوري منه ويرسلونه إلى تركيا ومنها إلى “إسرائيل” !!.

 

دفع  فقراء الشعب السوري ثمن تخريب الإرهابيون للقطاع الزراعي(طبعاً يمكننا وبكا ثقة اضافة الدور الكبير للفساد الاداري المستشري في مؤسسات المعنية بالشأن ذاته)، تراجعاً فظيعاً في أمنهم الغذائي، بعد أن كانت سوريا تتغنى به قبل الحرب (تراجع حوالي 40 في المئة بين عامي 2010 و2018).

 

نعم…هناك أمل

بعد ثماني سنوات عجاف، جاءت الأمطار الغزيرة هذا الشتاء، لتعطي الأمل في موسمٍ جيد جداً من القمح، ،وتشير مصادر مؤسسة العامة للحبوب، أنَّ عمليات تسويق القمح والشعير تحسنَّت عن العام الماضي بحوالي ثلاثة أضعاف، وأن الكميات المسوقة قد تتجاوز المليون طن في الموسم الحالي،علماً أن الموسم الماضي انتهى بتسويق 349 ألف طن فقط.

 

وتصدرت محافظة الحسكة الترتيب بالنسبة للكميات المسوقة، حيث تم تسويق 290 ألف طن، تليها محافظة حماة بـ130 ألف طن ومحافظة حلب بـ100 ألف طن، ومحافظة حمص بـ30 ألف طن قمحاً، ودرعا بـ17 ألف طن وباقي المحافظات من 6 آلاف طن وما دون، فيما فاض محصول الشعير(بلغ انتاج هذا العام حوالي 400 ألف طن) فلم يبقى مكان لحبةٍ واحدةٍ في كل مخازن المؤسسة العامة للحبوب(تقصير كبيرمن المؤسسة العامة للحبوب)، وعليه توقفت عن استلام الموسم ما آثار غضب الفلاحين، وهذا التحسن مرتبط بعدة عواملها أهمها:

 

أولاً:عودة عشرات آلاف الهكتارات، في المنطقة الوسطى والجنوبية، والتي كانت تزوّد البلاد، قبل الحرب، بــ(40) في المئة من الغلة القمحيّة السنويّة، إلى سيطرة الدولة السوريّة (تزرع درعا القمح القاسي فيما تزرع القنيطرة القمح الطري).

ثانياً: عودة السكان إلى مناطق عملهم، وتوفر الأسمدة والمبيدات وغيرها من أساسيات الزراعة.

ثالثاً: قيام الحكومة السورية برفع سعر شراء القمح إلى 185 ليرة للكيلو الواحد  (رصدت الدولة مبلغ 400 مليار ليرة سورية لدفع مستحقات الفلاحين بشكل فوري).

رابعاً: الأمطار الغزيرة التي هطلت والمناخ المتوسطي الذي لم يتأثر كثيراً بالإحتباس الحراري.

 

هذا الموسم الوفير من الذهب الأصفر، سيعود بمردود كبير على خزينة الدولة، كا سيُفعل دورة الحياة الإقتصادية، كونه سيوفر على الدولة ملايين الدولارات التي كانت تذهب لإستيراد القمح، و سيضخ مئات المليارات من السيولة في الأسواق وسينعكس على شراء الحاجات الضرورية ويُحرك الأسواق الراكدة نوعاً ما، وربما سيساعد على ردم الهوة الكبيرة بين مستوى الدخل ومتطلبات المعيشة.

 

من حلب الى “كنساس”.

قبل نشوب الحرب كان العلماء يُخزنون في بنك المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة “إيكاردا”، الواقع في ريف محافظة حلب، أكبر مجموعة عالمية من بذورِ الشعير والفول والعدس، إضافة إلى أنواع أصلية من بذور القمح القاسي والقمح الطري. من تلك التي اكتسبت منذ آلاف السنين مورثات تأقلمت طبيعياً مع الإجهادات البيئية،تم جمعها من مناطق عرفت أقدم ممارسات تدجين المحاصيل في الحضارات البشرية.

 

علم الباحثون في جامعة ولاية كنساس، والذين كانوا يبحثون عن نوع مقاوم لهجمات ذبابة “هِس” المُدمرة، والتي  أدت إلى خسائر في غلة القمح الاميركي السنوية تجاوزت حدود الــ 10 في المئة، بموضوع المخزن، فتوجهوا الى  الحكومة الأميركية، التي بدورها وجهت أحد قادة المجموعات الإرهابية في المنطقة، من الذين كانوا يعملون قبل الحرب، في مخازن “إيكاردا”، كي يحمي البذور من القذائف والصواريخ، ومن ثم سرقتها وتهريبها عبر الحدود اللبنانية، لتصل الى حقلٍ مغطى في ولاية “كنساس” الأمريكية، حيث أجريت التجارب عليها، وكانت النتيجة، أنَّ نوعاً من بذور القمح السوري، تدعى  “Aegilops tauschii أو “الدوسر”، هو الوحيد (من بين 20 ألف نوع آخر من النباتات، تم تدميرها بسبب تلك الآفة)  الذي لم تقترب منه الذبابة، وهكذا أنقذ الإرهابيون بواسطة القمح السوري، محصول القمح الأميركي من تهديدات آثار التغيّر المناخي.

 

أخيراً…تحية لابد منها.

صحيح أن مفهوم العمال في نداء “كارل ماركس” الشهير (ياعمال العالم إتحدوا) قد تغيير اليوم، فعمال القرن التاسع عشر كانوا يعتمدون المنجل والمطرقة كوسائل إنتاج، بينما يعتمد عمال اليوم على الحاسوب والحصادة، ووسائل التواصل الإجتماعي، التي تنقل لهم آخر التطورات في عالم الزراعة.

 

غير أنَّ هذا الكلام الفلسفي لاينفي عن الفلاح السوري، صفة الإنسان المكافح(التعيّب) الذي يعمل اليوم تحت نير المجموعات الإرهابية، التغيير المناخي، والفساد والروتين الحكومي،  معتمداً طوال السنة على موسم القمح، كي يتقدم وأسرته خطوة الى الأمام، فيقع يوم الحصاد بين مطرقة الإرهاب وسندان  السماسرة والتجار.

تحية للفلاح السوري، أول زَارِع ومُهجِّن للقمح في التاريخ، العاشق الوفي لأمه الأرض، فهو منذ بدء الخليقة يولد من التراب، ويعيش معمداً برائحة التراب، وعندما يموت يعيدونه الى التراب، فيوصيهم أن يكتبوا على قبره:

إنّا نُحب عطرَ الوردِ …لكن سنابلَ القمحِ منهُ أطهر.

 

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This