ينتشر على التواصل الإجتماعي سؤال يطرحه وزير البيئة لاستفتاء رأي الناس. يقول السؤال: “هل تؤيدون المحارق كأحد الحلول لإدارة النفايات ومعالجتها”؟
يبدو السؤال للوهلة الأولى أنه ممارسة للديمقراطية، ورغبة باستفتاء رأي الشعب في قضية المحارق، التي يمهدون الطرق لإيصال البلد إلى القبول بها. وما هي إلا حلقة من حلقات الأزمات المتتالية في إدارة النفايات الناتجة عن سياسات الدولة، التي تعتمدها منذ 1997 وحتى اليوم. يبدو أن دولتنا تنوي الإستمرار بها قدما في العقود الثلاثة القادمة.
المحارق، وفق هذه السياسة الرسمية المعتمدة حتى الآن حيال إدارة النفايات، هي تمادٍ في تهديد السلامة البيئية والأمان الصحي والإئتمان على حسن إنفاق المال العام. هذه السياسة، التي تنطلق من رؤية قوامها أن “النفايات كتلة من المرفوضات علينا التخلص منها”. ولذلك هم لا يأبهون بكيف تُجمع، ولا بكيف تُنقل، ولا بتفعيل وتطوير أعمال الفرز في مراكز الفرز والمعالجة، ولا في تفعيل وتطوير عمليات المعالجة والتحويل والتصنيع. هم يستمرون بالذهاب بأكثر من 95 % من كمياتها إلى المطامر، وفي مناطق لبنانية أخرى، يذهبون بكليتها إلى المكبات العشوائية. ها هم الآن يمهدون السبل لتقبل الذهاب بكل النفايات أو بـ 95% منها إلى المحارق. هذا بالطبع سوف يؤمن لهم استمرار العقود بمئات ملايين الدولارات، التي يتوقع أن تزيد بالتأكيد مع المحارق، مقارنة مع كل الأشكال السابقة.
هل كان لهذه الخيارات أن تستمر منذ ثلاثة عقود، ويريدون لها أن تستمر لثلاثة عقود أخرى، لوكان عندنا وزارة للتخطيط الاستراتيجي؟
إن لحظة إلغاء وزارة التصميم العام والتخطيط في العام 1977 كانت لحظة اختيار الفوضى في إدارة التنمية في البلد، وإخضاعها لقواعد المحاصصة في اقتسام الخيرات بين مكونات الطبقة السياسية، المتداولة أو المتشاركة على السلطة في لبنان حتى اليوم.
إن مجلس الإنماء والإعمار لم يملأ هذا الفراغ القاتل في تركيبة الدولة اللبنانية، وذلك لاعتباره مجلسا تنفيذيا، وليس جهازا للتخطيط الاستراتيجي لمشاريع التنمية.
ربما هذا التغييب المقصود لسلطة أو إدارة أو مؤسسة حكومية تعنى بالتصميم والتخطيط الاستراتيجي والتنسيق بين الوزارات والإدارات، هو غاية بحد ذاتها، تتيح المجال واسعا لأوساط السلطة ومراكز القوى فيها أن تفعل ما تشاء بما يلائم مصالحها، وبمعزل عن تلبية حاجات البلد للتنمية الحقيقية المستدامة، وللتعاطي مع ملفاته بما يؤمن هذه المصالح، ولو على حساب الحفاظ على موارده الطبيعية والمالية وتحقيق التقدم وتحسين مستوى ونوعية حياة اللبنانيين.
لو كان عندنا وزارة تصميم وتخطيط استراتيجي، لما كان الوزراء يمررون مخططات ومشاريع اعتباطية، وارتجالية وغير مدروسة بالعمق. أو في حالات أخرى، توضع لها دراسات شكلية للعبور إلى تنفيذها. كل ذلك بدافع تمرير المصالح الذاتية والفئوية على حساب موارد البلد الطبيعية والثروة الوطنية وحسن التصرف بالمال العام.
لو كان عندنا وزارة للتخطيط الاستراتيجي، ولو كانت وزارة البيئة تقوم بدورها كاملا غير منقوص، وتسهر على حسن تطبيق القوانين والمراسيم والتشريعات البيئية كلها، وتعمل على استكمالها وتطويرها، التي لو تحقق السهر على تطبيقها، لما كان لبنان يعيش فصول الكوارث البيئية، بكل انعكاساتها المدمرة على الموارد الطبيعية، وعلى الصحة العامة، وعلى حسن إنفاق المال العام.
إن معظم المشاريع، الكبرى والصغرى، تتم بدون درس جدي وعميق للآثار البيئية والإقتصادية والإجتماعية، ويتم التعاطي مع دراسات تقييم الأثر البيئي بطريقة شكلية، وعلى اعتبارها بطاقة مرور شكلية للمشاريع، وإفقادها روحها وأساس فلسفتها، التي تهدف إلى تكييف المشاريع كي تصب في أهداف التنمية المستدامة، في حماية البيئة والتنمية الإقتصادية والإجتماعية، وتحقيق رفاه العيش وتحسين جودة حياة الناس.
ليس صحيحا أن وزارة البيئة دورها إستشاري. هذا القول يفتقد إلى المصداقية العلمية والقانونية والسياسية. ولكنه ربما يلائم بعض الأدوار في وزارات ومؤسسات ومجالس أخرى تطغى على صلاحيات هذه الوزارة وكثير غيرها من الوزارات. هذا مشهد من مشاهد تعطيل الحياة الإدارية السليمة في كل مستويات هيكلية الدولة، لصالح قوى سياسية نافذة في السلطة، تطوِّع كل الأنظمة وتلتف عليها لتمرير مصالحها الفئوية، وهي بذلك تُخضع كل المشاريع لآلياتها ومصالحها، وفي غالب الأحيان على حساب الحماية البيئية والأمان الصحي وحفظ المال العام من الهدر والنهب والتبذير.
من حقنا الطبيعي نقاش الخيارات الاستراتيجية بشأن اعتماد محارق النفايات، التي يعلنها المسؤولون، ويخططون لإقامتها في بيروت وكل لبنان، لأن هذه الخيارات تتعلق ببيئة وصحة بلدنا وشعبنا لأجيال وعقود آتية. نحن نناقشكم، في بلدية بيروت وفي الحكومة والبرلمان اللبناني، في الأبعاد السياسية والإستراتيجية والإدارية والتنظيمية لخياراتكم في إدارة النفايات.
إن حصر المفاضلة في إدارة النفايات بين الرمي العشوائي والطمر والحرق، ينتمي فكريا وثقافيا إلى رؤية تاريخية قديمة جدا حيال النفايات باعتبارها “كتلة من المرفوضات مطلوب التخلص منها”. في حين أننا نرى في ذلك تشويها متعمدا لمنطلقات الرؤية، التي يتبناها المجتمع البيئي والمدني في لبنان، وتتبناها الاستراتيجيات الحديثة لإدارة النفايات في معظم بلدان العالم المتقدم والنامي على السواء. أي اعتبار النفايات “مجموعة من الموارد المطلوب استرداد قيمتها”.
وفق رؤيتكم، التي تنتمي إلى الماضي، أنتم تجهدون في التفتيش عن مكان أو طريقة للتخلص من النفايات، ولذلك عقلكم محصور بين المكبات العشوائية والمطامر والمحارق. ووفق رؤيتنا، التي تنتمي إلى الحاضر والمستقبل، نجهد لإرساء نظام متكامل لإدارة النفايات، يؤمِّن فصل مكوناتها من المصدر، ونقلها المنفصل، في شاحنات لا تضغط ولا “تخبص” النفايات ولا تعيد خلطها، إلى مراكز للفرز الإضافي والتعريب، وتحضير الموارد لتدويرها وإعادة إدخالها في الدورة الإنتاجية لصناعاتنا، تشجيعا لتوفير فرص عمل جديدة، وتوفيرا في الموارد الأولية، عبر إدخال الموارد الثانوية في حلقة الإنتاج، وتوفيرا للطاقة، وتنمية للصناعة اللبنانية باعتبارها قطاعا منتجا يولِّد قيمة مضافة حقيقية وليست وهمية كما بعض القطاعات الريعية الأخرى.
تفتقر خياراتكم وخططكم وخرائط طريقكم ومشاريع قراراتكم إلى أي تفعيل وتطوير حقيقي على أرض الواقع لإجراءات وأدوات اقتصادية ومالية وإدارية تؤدي إلى تخفيف كميات النفايات. ولا إلى اعتماد الفرز من المصدر بطريقة رسمية على مستوى السياسة الوطنية المتكاملة لإدارة النفايات. ولا هي تترافق بتعديل نظام ووسائل الجمع والنقل، بحيث تصل النفايات المفروزة، أو المعدة للفرز بوضع يسمح بمتابعة العمليات التالية. من جهة، لمعالجة المفروزات وتعريبها وتحضيرها للتدوير، ومن جهة أخرى، لتسهيل عمليات فرزها وفصل مكوناتها كميا ونوعيا في مراكز الفرز المنتشرة في مختلف المناطق اللبنانية، والتي وفق إحصاءات وزارة البيئة نفسها، تفوق قدرة استيعابها 7500 طن يوما، في حين أن مجموع ما يتولد من نفايات في كل لبنان لا يزيد عن 6000-6500 طن يوما. أي أن تفعيل وتطوير وتنشيط عمل مراكز الفرز من شأنه أن يشكل حلقة رئيسة في الإدارة المتكاملة للنفايات، بعد وضع نظام الفرز من المصدر، ونظام الجمع والنقل بوسائل مناسبة، لا تعيد خلط النفايات ولا تضغطها ولا “تخبصها”، موضع التنفيذ الفعلي.
عند متابعة خططكم نرى أنكم لا تتحضَّرون للفرز والتدوير ومعالجة موارد النفايات إلا بنسبة ضعيفة جدا، حوالي 5-15 بالمئة على أكبر تقدير. هذا يعني في الواقع أنكم تنوون نقل البلد من تحت “دلفة” المكبات العشوائية والمطامر إلى تحت “مزراب” المحارق، الأكثر تلويثا للبيئة، والأكثر تهديدا للأمان الصحي، والأكثر هدرا للمال العام. دون أي تغيير أو تعديل حقيقي في رؤيتكم حيال النفايات، ولا في استراتيجيتكم المعتمدة على اعتبار النفايات كتلة مرفوضات، تبحثون عن مواقع وطرق للتخلص منها، رميا أو دفنا أو حرقا للموارد ذات القيمة، التي تتكون منها بالفعل، بكلفات جنونية تقاس بمئات ملايين الدولارات سنويا، تقتطعونها من مال البلديات والمال العام، وترفقونها بمزيد من الضرائب والرسوم من جيب المكلف اللبناني، على حساب لقمة عيشه ورفاه حياته.
نحن ندعو إلى إرساء نظام متكامل للإدارة، يتضمن تشريعات تستهدف تخفيف النفايات عموما، وبالأخص منها تلك، التي تستعمل لمرة واحدة، والتي تتميز بصعوبة إدارتها والتخلص منها. ويتضمن تطبيقا حقيقيا وصادقا للفرز من المصدر، ووضع نظام للجمع المنفصل للنفايات، التي تم فرزها، ونقلها إلى مراكز للفرز الإضافي والتعريب، والتدوير في المصانع اللبنانية لإدخالها في دورتها الإنتاجية، نظرا لأثرها الإيجابي على النشاط الصناعي والإقتصادي عموما. ونقل المكونات العضوية، المجموعة بشكل منفصل أيضا، إلى معامل للتسبيخ Composting وفق تقنيات متقدمة، لتصنيع “كومبوست Compost” فئة A عالي الجودة، يستورده اليوم السوق اللبناني بملايين الدولارات. أو تنقل إلى معامل للهضم اللَّاهوائي Anaerobic digestion، كما في معمل النفايات في صيدا، لإنتاج البيوغاز الغني بالميثان، وذلك لتوليد الطاقة الأنظف.
إن إرساء نظام فعال للإدارة المتكاملة من شأنه أن يخفف قدر الإمكان من كمية المتبقيات المطلوب التخلص النهائي منها، ويكون ميل هذا النظام إلى التخفيف التدريجي لكمياتها، عبر استنباط طرق جديدة، وتطبيقات جديدة وخلاقة لتصنيع أجزاءا من مكوناتها. وأن يتم إشراك البحث العلمي والجامعات في البحث والتفتيش عن طرق مجدية وفعالة للتقليل من كمية المتبقيات، والتخلص منها بطرق سليمة وآمنة بيئيا وصحيا.
إن القراءة المعمقة في السياسات والاستراتيجيات الأوروبية، المجسَّدة في تشريعات إدارة النفايات، ومتابعة إحصاءات إدارة النفايات للعشرين سنة الماضية، توصلنا إلى الخط البياني للتناقص التدريجي للكميات الذاهبة إلى الطمر والحرق، والإزدياد المضطرد لكميات النفايات “أي الموارد”، المعاد تدويرها ومعالجتها وتحويلها وتصنيعها واسترداد القيمة المادية منها.
يتعرض اللبنانيون لحملات دعائية نشيطة، تستعمل فيها كل وسائل التضليل وتعويم الأوهام عن المحارق، وتنفق ملايين الدولارات على حملات إعلامية ومؤتمرات وحلقات وفيديوهات ومنتجات إعلامية فعالة، للترويج لها، وتصويرها على أنها الترياق الشافي لأزمة النفايات، التي تتوالى حلقاتها من سياساتهم وقراراتهم وممارساتهم حيال هذا الملف البيئي والصحي الحساس وعالي الأهمية.
ليعلم اللبنانيون أن هذه المحارق المتطورة، التي لا تزال تعمل في أوروبا والبلدان الصناعية الأخرى، لا زالت مصدرا هاما لتلويث الهواء بالإنبعاثات الخطيرة على الصحة العامة، وكذلك ببعض أنواع الجزيئات متناهية الصغر ونانوية القياس، التي لا تزال تتفلت من أكثر أغشية الفلاتر تقدما. وليعلموا أيضا، أن إدارة النفايات الخطرة المتولدة عن المحارق، التي تلتقطها تجهيزات مكافحة التلوث، الصلبة منها والسائلة، يتم معالجتها والتخلص السليم بيئيا منها في منشآت خاصة، في مطامر متخصصة باستقبال النفايات الخطرة الصلبة، وفي محطات لمعالجة النفايات السائلة الملوثة كيميائيا. ليعلموا أن هناك حركات كبيرة من المجتمع المدني والأكاديميا وبعض مراكز الأبحاث البيئية والصحية، تعارض بقوة اعتماد المحارق، وتدعو إلى التخلص التدريجي منها، وتطالب بالإقفال الفوري للمحارق، التي لا تحترم المعايير البيئية والصحية، والعاجزة تقنيا عن الإمتثال لها.
إن استخدام أي تقنية يكون مقبولا عند توفر كل الشروط الضرورية والمناسبة لاستخدامها. على الرغم من أننا على قناعة علمية حازمة بالضرر البيئي والصحي لمحارق النفايات، حتى في أكثر البلدان الصناعية تقدما، نحن نحدد اعتراضنا عليها في مستويين:
المستوى الأول، عدم سلامة الخيار السياسي الاستراتيجي باعتماد المحارق لإدارة نفايات لبنان.
والمستوى الثاني، عدم توفر أي من الشروط الضرورية لإقامة المحارق في لبنان.
في المستوى الأول، نحن نقول بعدم سلامة الخيار السياسي الاستراتيجي لاعتماد المحارق في لبنان، لأن النفايات بنظرنا، هي موارد ثانوية علينا وضع منظومة الإدارة المناسبة لاسترداد قيمتها، توفيرا لهدر الموارد الطبيعية، وتوفيرا للطاقة، ولاسترداد جزءا من كلفة إدارتها السليمة بيئيا والآمنة صحيا. ما نقول به، هو على توافق تام مع فلسفة الحفاظ على البيئة بمواردها، وحماية أوساطها من التلوث، الذي تتسبب به خيارات الرمي العشوائي والطمر الكلي والحرق الكلي (أو شبه الكلي لـ 95 بالمئة من النفايات).
إن رمي وطمر النفايات وحرقها هو تحقيق خسارة مزدوجة. من جهة، هي هدر لقيمة الموارد الثانوية، التي تتكون منها النفايات، ومن جهة أخرى، كلفة الطمر والحرق العالية على البيئة وعلى الصحة العامة وعلى الإقتصاد والمال العام.
إن خيار رمي النفايات في المكبات العشوائية وفي المطامر، الذي اعتمدته الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ مطلع التسعينات حتى اليوم، أدى في الواقع إلى تلويث كبير للهواء والتربة والبحر والمياه السطحية وتهديد المياه الجوفية، وإلى تدمير المنظومة البيئية البحرية في مناطق عديدة من الشاطيء اللبناني. وأدى أيضا إلى هدر مئات ملايين، وربما مليارات الدولارات، على هذا القطاع، دون تحقيق نجاحات استراتيجية في إدارته. بل بقي ولا يزال يشكل أزمة مستمرة وضاغطة على كل المجتمع اللبناني وبيئته وصحة اللبنانيين ومالهم العام. ولكنه أدى، من جهة أخرى، إلى ملء جيوب العديد من المستفيدين من أتباع الفئات النافذة في السلطة السياسية.
إن الذهاب اليوم إلى خيار اعتماد محارق النفايات، هو أيضا مسار يتعارض كليا مع السياسة السليمة المفترضة حيال إدار النفايات. إن حرق النفايات هو على تعارض كامل مع استرداد الموارد الثانوية، أي تدويرها وإعادة إدخالها في الدورة الإنتاجية، توفيرا للموارد الأولية وللطاقة، وللتلوث البيئي والهدر. والحرق هو كما الطمر تماما يشكل خسارة مزدوجة، من جهة، خسارة وتدمير للموارد، ومن جهة أخرى، تسديد كلفات عالية جدا للقيام بهذا التدمير. كلفات مالية كبيرة، وكلفات عالية على المجتمع والإقتصاد، مرتبطة بالتلوث البيئي والتدهور الصحي والخسارة الإقتصادية.
إن التفكير الاستراتيجي السليم والعقلاني، يدعونا إلى بحث كل هذه المسائل، وحسابات الربح والخسارة على كل المجتمع، باقتصاده وبيئته وصحته وماله، وتحديد الخيارات السليمة على ضوء ذلك.
علينا تقرير ما هي الأولويات والأفضليات في حلقات إدارة النفايات، التي تتوافق مع تحقيق الأهداف. هل تكون الأولوية والأفضلية لتدوير الموارد، التي تتكون منها النفايات والقابلة لاسترداد القيمة، عبر إعادة إدخالها في الدورة الإنتاجية كموارد ثانوية؟ أم الأفضلية لحرقها وتدميرها وتحويلها إلى رماد سام وغازات ملوِّثة وبضعة سعرات حرارية قليلة، سوف نضطر لحرق أضعاف وزنها من الفيول الأحفوري لتحقيقها؟ هذا سؤال استراتيجي على درجة عالية من الأهمية. نحن نسأل، من طرحه وناقشه وقرر الخيارات السليمة حياله، على مستوى الحكومة والبرلمان ومؤسسات الدولة والمجتمع بهيئاته ومنظماته على كل المستويات؟
إن الحديث عن استرداد الطاقة من نفايات لبنان هو كذبة كبرى، هدفها تضليل الرأي العام، وابتزازه بما يعانيه من ذل مع التقنين القاسي للطاقة الكهربائية.
إن نفايات لبنان، بتركيبها، ونسب مكوناتها، وخصوصا نسب الموارد الحاملة للقيمة الحرارية، وهي نفسها المطلوب تدويرها وإعادة إدخالها في الدورة الإنتاجية، ستتطلب لكي تحترق إدخال كميات كبيرة جدا من الفيول، لإطلاق عملية الحرق، ولاستمرارها، وللمحافظة على درجة حرارة الحرق فوق 850 درجة مئوية.
أنتم سوف تنتجون بضعة ميغاوات من الكهرباء، ولكن بكلفة باهظة جدا، وهذه الكهرباء في الحقيقة متأتية عن كميات الفيول الكبيرة، التي ستضطرون لاستخدامها في المحارق، وليس من نفايات لبنان الفقيرة جدا جدا بالطاقة. أو أنكم تتحضرون لاستيراد كميات من النفايات البلاستيكية غير القابلة للتدوير من البلدان الصناعية في أوروبا، لحرقها في محارقكم، وتحقيق أرباح إضافية لجيوبكم، غير آبهين لا ببيئة لبنان ولا بصحة شعبه ولأجيال قادمة.
أنتم بالفعل تحضرتم لهذا التطور الخطير، من خلال ما تم زجه في قانون النفايات رقم 80 للعام 2018 من مواد تتيح استيراد النفايات الخطرة، ورهنت هذا الأمر بموافقة وزارة البيئة، حيث جرى تعطيل ووقف فعالية قوانين وتشريعات كانت تحرم هذا الإستيراد، وتعتبره جريمة تصل عقوبتها في بعض الحالات إلى الإعدام. ومن جهة أخرى، جرى تمويل مشروع المحارق في إطار مؤتمر سيدر بقروض من دول أوروبية قدرت بمليار و400 مليون دولار، لإقامة ثلاثة محارق بكلفة 375 مليون دولار لكل منها. هكذا تتقاطع مصالح الشركات الأوروبية بالتخلص من نفاياتها البلاستيكية، التي تغرق تحت وطأتها بعد توقف الصين عن استيرادها في الأول من كانون الثاني 2018، مع منافع الفئات المسيطرة على قرار إدارة النفايات في لبنان، والتي تدعو اليوم إلى الإنتقال إلى المحارق عالية كلفة الإنشاء والتشغيل والصيانة وإصلاح الأعطال وقطع الغيار، موهمة الناس أنها تحضر الترياق الشافي لمعاناة اللبنانيين من كوارث إدارتهم للنفايات على البيئة والصحة العامة والمال العام.
نحن ندعو إلى أولوية المحافظة على الموارد الطبيعية، واسترداد قيمتها عبر تدويرها في الحلقة الإنتاجية، لما لذلك من نفع كبير على الصناعة اللبنانية، باعتبارها قطاعا منتجا للقيمة المضافة الحقيقية، وعمادا للإقتصاد الوطني، وتشغيل اليد العاملة واستحداث فرص عمل جديدة. وبالتالي لا لحرقها وتدميرها وتحويلها إلى ملوِّثات وبقايا سامة وخطرة على البيئة والصحة العامة، بكلفة عالية جدا، وبمستوى عالٍ جدا من المخاطر على كل المجتمع.
في المستوى الثاني، إن محارق النفايات، الكبيرة منها والصغيرة، تشكل تحديا كبيرا يرتبط بمخاطر كبيرة جدا على البيئة والصحة العامة، ويثير اعتبارات عالية الأهمية من الناحية التقنية والإقتصادية والمالية والتشريعية والمؤسسية والتطبيقية. ولذلك على أي صاحب قرار يتصدى لاعتماد المحارق أن يدرس كل تلك الأبعاد، وأن يتحقق من توفر كل الشروط الضرورية، قبل السير بهذا التوجه الخطير جدا على سلامة البيئة وأمان الصحة العامة والمال العام.
واحد من أهم شروط التطبيق الناجح للإستعانة بالمحارق في إدارة النفايات يتمثل بوجود نظام مستقر ومجرب وناضج لإدارة النفايات، يرتكز على نظام للجمع المنفصل ومعالجة مختلف أنواع النفايات. هذا الشرط غير متوفر في لبنان.
تتطلب المحارق تغذيتها بأنواع محددة من النفايات، تلبي الحد الأدنى من مواصفات التركيب والقيمة الحرارية. إن النفايات الغنية بالمكونات العضوية وبكمية الماء فيها، وكذلك الغنية بالمواد الصلبة غير القابلة للحرق، هي نفايات غير ملائمة لخيار المحارق. هذه هي النفايات الصلبة المنزلية اللبنانية، تحتوي على حولي 60 بالمئة منها مكونات عضوية، التي تحتوي على 70 بالمئة ماء، وتحتوي على حوالي 14-15 بالمئة مواد صلبة غير قابلة للحرق، من معادن وزجاج وسيراميك ورمل وحجارة. وتحتوي فقط على حوالي 23-25 بالمئة ورق وكرتون وبلاستيك، هي وحدها الحاملة لقيمة حرارية متوسطة، ولكن هي نفسها موارد ثانوية للتدوير في المصانع اللبنانية.
إذا انطلقنا من اعتبار الأولوية والأفضلية للتدوير على التدمير، إن بالطمر أم بالحرق، كما هي الحال مع الاستراتيجية الأوروبية للإدارة المتكاملة للنفايات، لسقط تماما البحث في خيار الحرق لنفايات لبنان.
تولِّد المحارق كميات كبيرة جدا من الملوثات عالية الخطورة على الصحة البشرية والبيئة. إن التحكم بهذه الملوثات الخطيرة يتطلب وضع وتشغيل وصيانة تجهيزات معقدة لمكافحة التلوث، ويتطلب إدارة دقيقة وعالية التأهيل، ويتطلب أيضا تخلصا سليما من المواد السامة المتولدة عن عملية الحرق، من رماد متطاير ورماد القاع، في مطمر صحي مجهز خاص باستقبال النفايات الخطرة.
هذا كله غير متوفر في لبنان، لا البنية التحتية الهندسية الضرورية من مطامر صحية خاصة لاستقبال النفايات السامة، التي تنتجها محارق النفايات، ولا القدرات البشرية المؤهلة لإدارة هذا النوع من المنشآت عالية الدقة التقنية وعالية المخاطر. أما القول بأن الأجانب سوف يشغلون ويديرون محارق لبنان، ويصدِّرون النفايات السامة إلى الخارج، هذا قول لا يُطَمئن أحدا من اللبنانيين الغارقين في آثار وانعكاسات إهمال الدولة وتلكؤها وعجزها عن التحكم بمخاطر صناعية وغير صناعية، هي أقل تعقيدا بكثير من تلك، التي ترافق عمل محارق النفايات.
تتطلب محارق النفايات بنية تشريعية ومؤسسية متكاملة، تبدأ بآلية وشروط الترخيص، مرورا بلوائح المقاييس والمواصفات للتحكم بالتلوث، وصولا لهيكليات المراقبة والرصد والمتابعة والتقييم، وللتجهيزات المخبرية القادرة على القيام بكل تلك العمليات. وكذلك آليات إلزام الإمتثال بالتشريعات، وقدرة إدارات الدولة على تنفيذها، لتفادي مخاطر المحارق الكبيرة على الصحة البشرية والبيئة والمال العام.
نحن نرى أن كل الشروط الضرورية للبحث في احتمال اعتماد المحارق في لبنان، هي غير موجودة على الإطلاق. وبالتالي، إن الإصرار على السير في هذا الخيار يشكل مغامرة كبرى، واستهتارا غير مقبول بصحة اللبنانيين وبيئتهم ومالهم العام.