كانت البيئة ضحية السياسة في حلقة “جورج صليبي” على تلفزيون الجديد، ليلة الأحد الفائت، كما هي في الحياة اللبنانية تماما. فقد أدى تمادي مدير الحلقة في سوء إدارة توزيع الوقت بين الضيوف ما أفقد البيئة فرصة تفصيل الإنتهاكات، التي تمارسها السلطة السياسية، بكل وزاراتها وإداراتها ومؤسساتها ومجالسها، وفي مقدمتها انتهاكات وزارة البيئة، حيال ملف النفايات والملفات البيئية الأخرى، من مقالع وكسارات ومرامل وسوء إدارة الشواطيء وتلويث كل الأوساط البيئية، هواء وبحرا ومياها سطحية وتهديد المياه الجوفية، والتربة والمحاصيل الزراعية التي تروى بمياه ملوثة.
ومع بدء الحديث عن انتهاكات قانون البيئة والمراسيم البيئية وغيرها من التشريعات ذات العلاقة، ولا سيما إدارة الظهر بالكامل لقانون حماية البيئة رقم 444 للعام 2002، ولمرسوم أصول تقييم الأثر البيئي للمشاريع رقم 8633 للعام 2012، ومرسوم التقييم البيئي الاستراتيجي لمشاريع السياسات والخطط والبرامج في القطاع العام رقم 8213 للعام 2012، التي تتجلى في قرارات وزارة البيئة حيال العديد من الملفات، وعلى رأسها ملف إدارة النفايات، والخطة وخارطة الطريق والاستراتيجية، التي لم توضع لها دراسة تقييم بيئي استراتيجي تحترم المواد المتعلقة بالعلانية ومشاركة الجمهور العام في مناقشتها ووضع الملاحظات عليها بعلانية وشفافية كاملة. وكذلك في القرار الخاص بمكب تربل العشوائي، تحت تسميات تضليلية متعددة، أتاح تساهل مدير الحلقة “جورج صليبي” للصحافي “غسان مسعود” أن يمارس التشويش وإغراق الحلقة بنقاش تشويشي يهدف إلى إزاحة الموضوع عن مساره واستنزاف الوقت، ومنع استمرار الحديث عن ما تعانية البيئة من خراب، والصحة العامة من تهديد خطير، والمال العام من نهب وتبذير وهدر. هكذا تمت التضحية بالبيئة في هذه الحلقة الطويلة لصالح الحسابات السياسية الخاصة، ومن أجل التعمية على حقيقة الإنتهاكات، التي تمارسها السلطة السياسية بقراراتها الجائرة والتعسفية تجاه الأزمة المتفاقمة للنفايات، وهي المتولدة عن السياسات، التي تعتمدها منذ عقود، وهي مستمرة بها حتى اليوم، وتخطط للإستمرار وفقها للعقود القادمة.
عدد كبير من الإنتهاكات يمكن ملاحظتها في كتاب وزارة البيئة إلى وزارة الداخلية بشأن اعتماد موقع تربل لإقامة مكب لتجميع و”طمر” النفايات.
ففي موضوع الرسالة، يمكن أن نلاحظ عدد من الإنتهاكات، حيث يقول باعتماد الموقع في تربل كحل مؤقت لتجميع و”طمر” النفايات المنزلية بطريقة صحيحة وسليمة بيئيا.
- إن الوزارة تقرر برسالتها اعتماد موقع تربل، وبمخالفة كل التشريعات الخاصة، التي تنظم إقامة منشآت لإدارة النفايات وفق مرسوم أصول تقييم الأثر البيئي. يحدد هذا المرسوم في الملحق رقم 1 لائحة بالمشاريع، التي تستلزم حكما تقرير تقييم أثر بيئي، حيث يذكر في النقطة 4 “النفايات الصلبة: إنشاء مراكز لإدارة ومعالجة والتخلص من النفايات الصلبة على أنواعها”. إذن موقع تربل، الذي تطلب وزارة البيئة اعتماده كموقع لتجميع و”طمر” النفايات يندرج في لائحة النقطة 4 من الملحق 1 للمرسوم، التي تستلزم حكما وضع تقرير تقييم الأثر البيئي، مع احترام كامل للعلانية ومشاركة الجمهور العام ولا سيما جمهور المتأثرين بالمشروع، أي السكان القاطنين في محيطة والمنطقة.
- إنه موقع تجميع و”طمر” النفايات المنزلية، وفق موضوع رسالة وزارة البيئة. ماذا يعني مصطلح “طمر” النفايات في هذه الوثيقة، التي تحمل توقيع وزير البيئة؟ إنه استخدام تضليلي لهذا المصطلح، الذي يعني علميا طمر النفايات في منشأة تكتمل فيها المواصفات والمعايير الهندسية للعزل وتجميع العصارة الغنية بالمواد المركبات الملوثة للتربة والمياه السطحية والجوفية، وتجميع الغازات التي تتولد عن عمليات الهضم اللَّاهوائي للمواد العضوية للنفايات، وهي بنسبة عالية جدا تصل إلى 60% من مجمل النفايات، وإدارتها بشكل لا يؤدي إلى تلويث الهواء الجوي في المنطقة. فهل طمر النفايات في حفرة عارية لا تستجيب بالمطلق لأي من المواصفات الهندسية، ولم يخضع اختيار موقعها لأي من المعايير البيئية والجيولوجية والهيدروجيولوجية ولطبيعة التربة، يمكن لوزارة البيئة أن تعتبره طمرا صحيحا وسليما بيئيا؟ كنا لنتفهم أن يصدر هذا الكلام عن صحافي يسعى لتبييض صفحته عند زعمائه السياسيين، ولكن أن يتم استخدامه في وثيقة تحمل توقيع وزير البيئة، فهذا ما نراه انتهاكا فظيعا لا يمكن القبول به أو السكوت عنه.
- إن ما تحمله هذه الوثيقة من “مواصفات” للموقع تبينت بموجب الكشف الميداني لفريق من الوزارة، لا يرتكز على درس معمق لطبيعة الأرض ولجيولوجية وهيدروجيولوجية منطقة الموقع، بل الإكتفاء بتوصيفات بصرية سطحية، وباستخدام تعابير لفظية لا دلالة ولا قيمة علمية لها، يشكل انتهاكا إضافيا لجدية وعمق الإجراءات المطلوب اتخاذها في توصيف موقع تطلب وزارة البيئة اعتماده لتجميع و”طمر” النفايات. ماذا يعني تعبير “فسحة جرداء” في توصيف الموقع؟ وما هي المسافة التي تبعده عن مجاري المياه السطحية؟ وما هو عمق المياه الجوفية في منطقة الموقع؟ وماذا يعني منطقة ذات حساسية كارستية ضعيفة، وكيف تم قياس هذه “الحساسية”؟ وكيف تم التقرير بأن تشكيل الموقع هو بنفاذية ضعيفة؟ وكيف قيست هذه النفاذية؟ فهل يعقل أن يتم تحديد كل مواصفات التربة وجيولوجية الموقع من خلال زيارة كشف ميدانية لفريق من الوزارة؟ إذا كانت قد تمت دراسة هذه المؤشرات، فأين تقرير هذه الدراسة، الذي يجب أن يكون مرفقا بكتاب وزارة البيئة إلى وزارة الداخلية؟
- إن أكثر ما يثير الإستغراب في هذا الكتاب أن من وضع نصه يدرك أن المشروع المقترح يخضع لمرسوم أصول تقييم الأثر البيئي رقم 8633 للعام 2012، وبالتالي إلى أنه يستلزم حكما وضع دراسة تقييم أثر بيئي، ولكنه يستنتج من هذا الخضوع، ويبني عليه بشكل إعتباطي وتعسفي تماما لكي “تفيد” وزارة البيئة بالإنتهاكات الفظيعة التالية:
- “الموافقة على الإستخدام الفوري للموقع في تربل” ويضع بعض الشروط، التي يسوقها في النقطة (1)، بديلا عن دراسة تقييم الأثر البيئي. والسؤال هنا، من أين اكتسبت الحق في مسخ دراسة تقييم الإثر البيئي إلى مجموعة الشروط هذه؟ من معروف تماما أنها لا قيمة حمائية فعالة لها، وأنها مسخ للتصميم الهندسي الصحيح للمطمر الصحي، الذي يتعلمونه المهندسون في جامعاتهم.
- إن الشروط المدرجة، ما هي إلا كلام يهدف إلى رفع العتب، وغسل اليدين، حيث أن ما حصل في الواقع هو تجاهل كامل لها، لدى نقل ألوف الأطنان من النفايات لرميها عشوائيا في هذا الموقع وحفرته ومحيطه.
- أما النقطة (2) من كتاب وزارة البيئة إلى وزارة الداخلية، تقول بـ”إلزام الجهات المعنية بوجوب إعداد خطة إدارة بيئية للمشروع”. إذن استبدلت وزارة البيئة الإلتزام حكما بمرسوم أصول تقييم الأثر البيئي بوجوب إعداد خطة إدارة بيئية للمشروع. وهذا تسخيف تعسفي للمرسوم، ومسخ له، حيث من المعروف أن خطة الإدارة البيئية لأي مشروع هي فصل من فصول دراسة تقييم الأثر البيئي، التي تبنى على أساس درس وتقييم الآثار البيئية السلبية المتوقعة للمشروع على كل عناصر المحيط البيئي، وعلى السكان ووضهم الإجتماعي والإقتصادي والصحي في المنطقة المتأثرة بهذه الآثار. كيف يمكن أن يتم وضع خطة إدارة بيئية للمشروع بمعزل عن درس معمق لموقعه وللبيئة الفيزيائية والبيولوجية والإجتماعية التي يقع فيها؟ بما في ذلك خصائص الموقع الجيولوجية والهيدروجيولوجية، وخصائص المنظومات البيئية لمنطقة المشروع، وتقييم مهني معمق للآثار البيئية المتوقعة للمشروع خلال فترة إنشائه وبنائه، وخلال فترة تشغيله وصيانته؟ هذا انتهاك فظيع وتصرف تعسفي حيال تطبيق مرسوم أصول تقييم الأثر البيئي للمشاريع.
- يستكمل كتاب وزارة البيئة إلى وزارة الداخلية بشأن مكب تربل، مسار تعطيل العمل بمرسوم أصول تقييم الأثر البيئي للمشاريع، بالطلب إلى “الجهات المعنية”، “التقيد بقرار وزارة البيئة رقم 189/1 تاريخ 13/4/2016 المتعلق بآلية مراجعة دراسات التدقيق البيئي”. إذن يذهب كتاب وزارة البيئة بعيدا في تعطيل العمل بمرسوم تقييم الأثر البيئي، ويجري استبداله بقرار وزاري يتعلق بآلية مراجعة دراسات التدقيق البيئي. وهذا يعني القفز فوق اعتبار المشروع لا يزال مشروعا يستلزم حكما وضع تقرير تقييم أثر بيئي قبل البدء بإنشائه، إلى اعتباره مشروعا قائما ويعمل، وبالتالي يتطلب وضع تقرير تدقيق بيئي له. هذه القفزة البهلوانية ما هي إلا انتهاك فظيع أيضا للتشريعات البيئية النافذة، وقفزة بهلوانية تعسفية تقفز عن آليات الترخيص المنصوص عنها قانونا لهذه المنشآت. بشطحة قلم وزير البيئة، يتم اعتبار المشروع أمرا واقعا قائما دون المرور بكل آليات الترخيص والموافقة المنصوص عليها في كل القوانين والتشريعات النافذة في لبنان. وهذا تعسف وانتهاك فظيع للتشريعات البيئية، بقرار من وزارة يعود لها تطبيق التشريعات البيئية في لبنان، والسهر على تطبيقها من قبل كل اللبنانيين في القطاعين العام والخاص.
مع هذه الإنتهاكات وهذا التعسف الإعتباطي في التعامل مع ملفات البلد الساخنة، والمرتبطة بسلامة البيئة والأمان الصحي للمواطنين وبحسن إنفاق المال العام، يبطل العجب لما وصل إليه حال البيئة في لبنان من تدهور فظيع، وتلوث خطير، وتهديدات متزايدة على الصحة العامة، واستمرار في هدر المال العام.