من المسلَّم به، أنه عند البحث الجدي في وضع سياسة واستراتيجية وخطط وبرامج إدارة النفايات، أن يتم ذلك بناء على رؤية واضحة.
الرؤية التي ندعو إليها، ترتكز على اعتبار النفايات “مجموعة من الموارد ذات قيمة”، علينا وضع منظومة الإدارة المناسبة لتحقيق استرداد هذه القيمة. هذه هي الرؤية، التي يرتكز عليها مفهوم الإقتصاد الدائري، الذي أصبح مؤخرا واحدا من أركان السياسات العالمية لإدارة النفايات.
هذه الرؤية، هي على نقيض تام، مع الرؤية، التي تبني عليها الحكومات اللبنانية منذ 1990، وحتى اليوم، بما في ذلك الحكومات الأخيرة والحكومة الحالية أيضا، كل ما تمخَّض عنها من “استراتيجيات وخرائط طرق وخطط”. حيث أن هذه الرؤية تختصر باعتبار النفايات “كتلة من المرفوضات مطلوب التخلص منها”. وبناء على ذلك، تختصر كل الاستراتيجيات والخطط وخرائط الطرق بوضع خطط طواريء مؤقتة، ترتكز على مجموعة من خيارات “التخلص”. أولا، المكبات العشوائية مع كل ما يرافقها من مخاطر كبيرة على البيئة والصحة العامة. وثانيا، المطامر التي تسميها “مطامر صحية” وهي في الحقيقة لا تستحق هذه التسمية، بل يناسبها في أحسن الحالات تسمية “مطامر هندسية”، مجهزة بنظام لجمع الغازات وإدارتها ونظام لجمع العصارة ومعالجتها. وثالثا، في عزِّ أزمة النفايات، التي انفجرت في العام 2015، ذهبت عبقرية الحكومة آنذاك لخيار “ترحيل” النفايات إلى الخارج. ورابعا، ما يخطط له حاليا ليكون واقعا بعد 4-5 سنوات، أي خيار المحارق.
ما هي القواسم المشتركة لخيارات “التخلص” الأربعة، التي تحصر الحكومات اللبنانية خططها بها؟
يمكننا ملاحظة قاسمين مشتركين هامين.
الأول، هو ضياع وهدر وتدمير الموارد الثانوية، التي تتكون منها النفايات. وبهذا يتم هدر قيمة هذه الموارد كلها، تلك القابلة لإعادة الإستخدام، والتدوير، والمعالجة، والتصنيع، والتحويل إلى منتجات جديدة ذات قيمة، بما فيها بيوغاز مولِّد للطاقة.
والثاني، هو الكلفات العالية لعقود جمع ونقل ورمي النفايات في المكبات العشوائية، وطمرها في المطامر “الصحية”، التي يتم اختيار مواقعها بتجاهل كامل لأي معايير بيئية، وتجاهل كامل أيضا لوضع دراسات حقيقية لتقييم الأثر البيئي لتلك المواقع والمنشآت، تطاول مرحلتي الإنشاء والتشغيل، وكذلك مرحلة التفكيك بعد الإقفال، التي يتم تغييبها بالكامل عن وعي كل واضعي الاستراتيجيات ومنفذيها. واليوم يعدوننا بالذهاب إلى المحارق، التي أقرها مجلس الوزراء مؤخرا وإقامة 3 منها. وهي تشكل الخيار الأعلى كلفة للإنشاء والتشغيل والصيانة، والأعلى خطورة على البيئة والصحة العامة، والأكثر تطلبا للمراقبة والصرامة باحترام المتطلبات التقنية العالية جدا.
حصيلة هذين القاسمين المشتركين، تتمثل بهدر مضاعف وكبير جدا، وعلى حساب ثلاثي البيئة والصحة العامة والمال العام.
يرفعون في السنوات الأخيرة، الشعار التضليلي “من نفايات إلى طاقة”. يُنظِّرون لأفضليات هذا الشعار الكاذب، على خلفية فشل كل الحكومات المتعاقبة منذ 1990 وحتى اليوم في توفير انتظام تزويد المجتمع اللبناني واقتصاده ومؤسساته بما يحتاجه من طاقة كهربائية. هذا الفشل، هو في الحقيقة واحد من أساليب نهب المال العام عبر الإستثمار على أزمات البلد في كل المجالات والقطاعات.
نقول أنه شعار كاذب، لأن نفايات لبنان فقيرة جدا بالقيمة الحرارية الدنيا، وذلك يعود إلى تركيب هذه النفايات ونسب مكوِّناتها، المختلفة تماما عن نفايات الدول الصناعية المتطورة، في أوروبا وأميركا وغيرها. فنفاياتنا تحتوي على ما بين 60 – 65 % مكونات عضوية، من منشأ نباتي بشكل رئيس، وكذلك من منشأ حيواني بنسبة أقل. وهذه النفايات العضوية تحتوي على ما يزيد عن 70% من وزنها ماء. هناك مكوِّنين فقط يحتويان على قيمة حرارية معقولة، هما الورق والكرتون والبلاستيك، وهما في الواقع، المكونان المطلوبان بإلحاح لصناعة إعادة التدوير في لبنان. إذن، الحرق هو منافس غير شرعي لصناعة إعادة التدوير. ونحن نعتبره خيارا اقتصاديا تدميريا، يتعارض كليا مع السياسة المطلوبة لتعزيز القطاعات المنتجة في الإقتصاد اللبناني.
شعار من نفايات إلى طاقة، هو شعار تضليلي كاذب، يحاول استغلال معاناة اللبنانيين من التقنين القاسي للكهرباء، ومن الفواتير المتعددة المطلوب دفعها لتوفير حد أدنى من الحاجة للكهرباء، في أسوأ حالة للخدمات وتعدد الإنقطاعات، وهذا ما ينغص حياة اللبنانيين ويؤثر سلبا على أنشطتهم الإقتصادية المختلفة.
إن الحكومة في قرارها الأخير بشأن المحارق، توغل بعيدا في التضليل في مسألة إيهام الناس أننا سنولِّد طاقة من هذه النفايات الفاقدة للطاقة، حين تختار مواقع المحارق على مقربة من معامل إنتاج الكهرباء، في دير عمار والزهراني.
نحن نقول، إن المحارق هي استمرار للخيارات الفاشلة، التي تعتمدها الحكومات اللبنانية منذ 1990 وحتى اليوم، وهي مرتكزة على الرؤية نفسها، وستؤدي إلى النتائج نفسها، أي هدر الموارد الثانوية، التي تتكون منها النفايات، على حساب الصناعة اللبنانية، وهدر المال العام في كلفة إنشاء المحارق، التي يقدر بما يزيد عن مليار دولار أميركي، هي ديون على اللبنانيين في إطار مؤتمر سيدر، وفي تشغيل وصيانة المحارق، التي تقاس بعشرات وربما بمئات ملايين الدولارات سنويا، مع ما سيرافق ذلك من كلفة باهظة على الهدر والتلويث البيئي وتهديد الأمان الصحي لعموم الشعب اللبناني.
ولذلك، نحن نرفع شعار “من نفايات إلى موارد” في مواجهة الشعار الكاذب “من نفايات إلى طاقة”.
نفاياتنا غير صالحة للحرق، ولا تحتوي كميات من الطاقة تستحق البحث الجدي والعلمي في هذا الخيار. ولكنها في الحقيقة تحتوي على موارد ثانوية ذات قيمة، وقابلة للاسترداد، عبر وضع نظام للفرز من المصدر، وعبر تجهيز وتشغيل مهني لمراكز الفرز، وعبر تعريب وتوضيب الموارد القابلة للتدوير، والصناعة اللبنانية قادرة على استيعاب كميات أكبر بكثير من محتوى نفاياتنا من هذه الموارد، من ورق وكرتون، ومعادن، وبلاستيك، وزجاج. وعبر وضع نظام للجمع المنفصل للمكوِّنات العضوية في النفايات، وتحويلها في مراكز مجهزة، تشغلها شركات متخصصة مهنيا، إن للتسبيخ الهوائي، أو الهضم اللَّاهوائي لتوليد البيوغاز والطاقة الأنظف، كما هو الحال في معمل صيدا على مستوى صناعي كبير ومتطور، وفي بكاسين على مستوى صغير وبلدي.
هناك خيارات عديدة لتصنيع متبقيات عمليات الفرز والمعالجة، عبر تصنيع منتجات جديدة ذات قيمة، وقابلة للإستعمال في مجالات عديدة، صناعية وغير صناعية. ونحن ندعو في هذا السياق إلى تفعيل وتنشيط دور البحث العلمي في المركز الوطني للبحوث العلمية، وفي جامعات لبنان الكثيرة، في إعطاء الإجابات والخيارات العلمية للتحديات، التي لا تزال تواجه التعامل مع بعض متبقيات النفايات. ونحن على ثقة بأن هذا هو طريق التطور الحقيقي للبنان.
إن التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة والصحة العامة، يفرضان الإنتقال الجدي والفوري إلى الرؤية الحديثة حيال النفايات، لما فيها من فوائد اقتصادية واجتماعية وبيئية وصحية. ولما فيها أيضا من عقلانية في كلفة إدارة النفايات، وإقفال فوري ونهائي لبازار نهب مئات الملايين من أموال البلديات والمال العام، والتخلي الكامل عن استحداث ضرائب جديدة على المكلف اللبناني، لملأ جيوب أصحاب العقود في إدارةٍ للنفايات غير سليمة بيئيا، تهدد الأمان الصحي للشعب اللبناني، وتبذر وتهدر وتنهب ماله العام.