قاعات مركز مؤتمرات الأمم المتحدة في بنكوك، العاصمة التايلاندية، تعج بالمندوبين من كل دول العالم. ممثلون عن الحكومات والمنظمات الدولية، وعدد كبير من ممثلي المنظمات غير الحكومية العالمية، “ممثلو المصالح العامة” كما يفضلون تسميتهم Public Interests Representatives، وذلك يوم واحد قبل افتتاح الدورة الثالثة لعملية نقاش آفاق ما بعد 2020 للنهج الاستراتيجي للإدارة العالمية للكيماويات SAICM2.0، حيث تقوم السكرتاريا اليوم مع الرؤساء المشاركين بعرض ملخصات تقنية عن الأوراق الرئيسة، التي سيتم بحثها خلال الأيام الأربعة القادمة لإجتماع الدورة الثالثة IP3.
كانت منظمة آيبن IPEN العالمية، وهي تحالف لعدد كبير جدا (حوالي 700) من المنظمات غير الحكومية وممثلي منظمات المجتمع المدني البيئية والصحية والإجتماعية والحقوقية والإنسانية من القارات الخمس، قد عقدت على مدى اليومين الماضيين إجتماعاتها التحضيرية لجولة المفاوضات الجادة لتحديد وجهة وآليات الإدارة العالمية للكيماويات والنفايات لمرحلة ما بعد 2020.
إن ما يجعل هذه المفاوضات قاسية وعلى درجة عالية من الجدية هو الحضور الكثيف والثقيل لممثلي كبريات إحتكارات الصناعة الكيميائية العالمية في أوروبا وأميركا، والذين يعارضون بقوة، تصل إلى حد الفجاجة، أي تقدم في الإطار التنظيمي والسياسي الاستراتيجي للإدارة العالمية للكيماويات السامة، ويعرقلون آليات التمويل المرتكزة على مبدأ “الملوث يدفع”، ويعملون على ترهيل وإضعاف الحوكمة، وتهميش دور الإتفاقيات الدولية، التي تعنى بإدارة الكيماويات والنفايات، مثل اتفاقية بازل وستوكهولم وروتردام وميناماتا.
من حيث الرؤية الإستراتيجية بعيدة المدى، لناحية آفاق ما بعد 2020 للنهج الاستراتيجي للإدارة العالمية للكيماويات SAICM2.0، التي يحتدم النقاش والتنافس بينها خلال هذه الدورة الثالثة للمفاوضات التحضيرية للمؤتمر الخامس لإدارة الكيماويات ICCM5، الذي سيعقد في بون، ألمانيا، في شهر تشرين الأول (أوكتوبر) 2020، بعد أن تكون اكتملت دورات التفاوض مع الدورة الرابعة IP4، المزمع عقدها في بوخارست، رومانيا، في شهر آذار (مارس) 2020، يمكننا تمييز ثلاثة إتجاهات رئيسة.
الإتجاه الأول، الذي يتجلى بمحاولات إضاعة الوقت والتسويف والتأجيل والإمتناع عن القيام بأي عمل جدي لتحديد معالم المرحلة المقبلة. هذا المنحى يسعى إلى إضعاف أي أداة سياسية لإطار دولي للإدارة السليمة للكيماويات والنفايات. إن هذا المسار سيؤدي حتما إلى الخسارة والتراجع عن ما كان قد تحقق مع “النهج الاستراتيجي للإدارة العالمية للكيماويات” SAICM حتى الآن على ضعفه ومحدوديته. وهذا طبعا يستجيب لمصالح الملوِّثين عبر العالم، والذين يتهربون حتى اليوم من دفع أثمان تلويثهم للبيئة العالمية، وتعريض صحة مليارات البشر لأكبر المخاطر.
الإتجاه الثاني، يختصره تصريح ممثلة الصناعة الكيميائية السيدة سرفيت غورين Ms. Servet Goren خلال الإجتماع السابع لمكتب المؤتمر الدولي الخامس للإدارة الكيميائية ICCM5، حين عبرت بوضوح تام عن معارضتها لـ”بيئة خالية من السموم” Non-Toxic Environment في مؤتمر دولي رفيع المستوى في الإتحاد الأوروبي بداية تموز (يوليو) 2019. للعلم إن البرلمان الأوروبي والمجلس فوضوا المفوضية الأوروبية وضع استراتيجية للإتحاد الأوروبي من أجل “بيئة خالية من السموم” Non-Toxic Environment تؤدي إلى التجديد وإلى تطوير بدائل مستدامة تتضمن حلولا غير كيميائية. إن معارضة ممثلة الصناعة الكيميائية تظهر تعارضها العميق مع المفاهيم والأعمال الأساسية، التي تعتبر في غاية الأهمية لبناء إطار الإدارة الكيميائية لما بعد 2020. إننا نعتبر هذا الإتجاه انتحاريا، يذهب بعيدا في تجاهل التلويث الكيميائي الفظيع لمختلف أوساط البيئة العالمية، مع كل ما يترتب عن ذلك من تدهور بيئي ومخاطر صحية على مليارات البشر في مختلف بلدان العالم. يرتكز هذا المسار على حجب المعلومات عن الكيماويات في المنتجات، وعن التلوث الكيميائي للأوساط المائية، في البحر والأنهار، ويعمي النظر عن التوسع في استخدام المبيدات الزراعية عالية السمية، ويتجاهل التوسع الكبير في استخدام البلاستيك، والزيادة الهائلة في توليد النفايات البلاستيكية، التي يؤدي حرقها إلى انبعاث كميات هائلة من الملوثات الكيميائية عالية السمية البشرية والبيئية، ومديدة الثبات وعالية القابلية على التراكم الحيوي. يتمادى هذا المسار في غض النظر عن تزايد النفايات الإلكترونية والكهربائية، الغنية بالمكونات عالية السمية، ويلوذ بالصمت المريب عن العدد المتزايد من حالات التسمم المهني للعمال في المنشآت الصناعية الكيميائية، وتلك التي تستخدم الكيماويات بكثافة في عملياتها الصناعية. هذا المسار، الذي يذهب بعيدا في التلويث من مصادر صناعية، بما فيها محارق النفايات، التي تبث سمومها الغنية بالديوكسين والفوران والملوثات العطرية متعددة الحلقات، عالية السمية البشرية والبيئية. هذا المسار، الذي يرتكز أيضا على سياسات حكومية تدعم بالمال العام ممارسات التخلص من النفايات والكيماويات، بدل تحميل الملوِّثين الحقيقيين، أي الصناعة الكيميائية العالمية، أثمان الإدارة السليمة بيئيا لهذه النفايات الصناعية والكيميائية.
الإتجاه الثالث، والذي نعمل على تحقيقه، ونخوض المفاوضات بكل صعوبتها وقساوتها، جنبا إلى جنب مع العديد من حكومات العالم، في الدول النامية والمتقدمة، ويتمثل بالعمل على تحقيق الربط الفعال بين الإدارة العالمية للكيماويات والنفايات وبين أهداف التنمية المستدامة. يمكن لهذا الربط أن يتجلى عبر المشاركة المنفتحة والملتزمة والشفافة لكل الفرقاء المعنيين، وضمنا ممثلي المجتمع المدني – ممثلي المصلحة العامة، دون أي إقصاء أو تهميش أو تجاهل. ويتحقق أيضا عبر المساهمات القابلة للقياس والتقييم في أهداف التنمية المستدامة. وعبر تحميل المنتجين والملوٍّثين كلفة الإدارة السليمة بيئيا للكيماويات والنفايات الكيميائية. إن وضع إطار تنفيذي ملائم وفعال، يشكل مظلة جامعة لكل الإتفاقيات الكيميائية الدولية، ووضع رؤية استراتيجية بعيدة المدى، تشمل الإدارة السليمة للكيماويات على مدار دورة حياتها بما فيها النفايات. هذا هو المسار، الذي يؤمِّن السلامة والأمان للبيئة العالمية ولصحة البشرية، ولتقدمها وتنميتها المستدامة. هذا هو المسار، الذي نعمل على تحقيقه خلال هذه الدورة والدورة القادمة، وخلال المؤتمر الخامس للإدارة العالمية للكيماويات، ضمانة لفعالية العمل الدولي وحسن استخدام الأموال في خدمة تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ولا سيما تلك المتعلقة بالسلامة الكيميائية، وبالإدارة السليمة للكيماويات والنفايات، وحماية البيئة والصحة العامة.