عندما عجز السكان القدماء لمدينة حماة عن الإستفادة من مياه نهر العاصي؛ بسبب مجراه الذي انخفض مع مرور الزمن، الى مستوى أدنى من السهول المحيطة به، اخترعوا الناعورة. فكانت دائرية جميلة الشكل، حزينـــة الصوت، تشيخ قليلاً، لكنها لا تكل ولا تمـــل من خدمة الإنسان، كل ما تحتاجه، بعض الصيانة من حين إلى آخر، فأطلقو عليها لقب “خادمة ببلاش”.
اليوم، تدور في مياه نهر العاصي الذي يخترق مدينة، حماة سبعة عشر، ناعورةٍ أثرية، من أصل النواعير الأم (المقدرة بـ50 ناعورة)، من ضمنها أكبر وأشهر نواعير العالم على الإطلاق(الناعورة المحمدية)، والتي يصل قطرها الى 25متراً، فيما يبلغ قطر أصغرها سبعة أمتار.
وجدت أقدم رسوم للنواعير، في لوحة فسيفــساء، يعود تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، عُثر عليها في مدينة أفاميـــا السوريّـــة، فيما تُشير الكتابات القديمة للمهندس العسكري الروماني (ماركوس فيتروفيوس بوليو) إلى أنَّ الرومان هم البناة الأوائل للنواعير، حوالي القرن الأول قبل الميلاد.
تصدر النواعير أثناء دوارنها، صوتاً خاصاً يسمى (نعير)، ينتج عن احتكاك المحور الخشبي العملاق(قلب الناعورة)، مع الركيزة الحجرية العملاقة، ويعطي ما بين 120 و170 نغمة موسيقية، ومنه أخذت اسمها (الناعورة) .
قبل اختراع المولدات ومضخات المياه الكهربائية والتي تعمل بالوقود ، كانت النواعير الوسيلة الأولى للحصول على الطاقة الميكانيكيّة المتفوقة على طاقة الجهد العضلي للإنسان أو الحيوان، فهي تُولد طاقة بقوة الماء، فتنتقل الطاقة المتولدة إلى الآلة، من خلال عمود العجلة.
تدور الناعورة دورة كاملة كل عشرين ثانية، تعطي خلالها 2400 لتر من الماء، حيث تغطس فيه صناديقها منقلبة فارغة في النهر، لترتفع ممتلئة بالمياه، الذي تصبه في القنوات المائية، المحمولة على قناطر عالية جداً( تحتوي على 32 قوسا تسمـــى الحجريـــّة) ثم تقود الجاذبية الماء على طول القنوات، التي تتفرع الى قنواتٍ اصغر توصلها إلى البيوت والبساتين، بغرض تأمين مياه الشرب أو لري المحاصيل، طحن الحبوب، تزويد البيوت بمياه الشرب، داخل مدينة حماة وخارجها، ثم في ما بعد، استخدمت لتشغيل آلات نشر الخشب والمضخات، ومنافيخ الهواء اللازمة لصهر المعادن.
الناعورة ليست مجسماً جامداً بل عبارة عن جسد حيوي يضم آلاف القطع، من أخشاب الجوز (بشكل رئيسي)، والسنديان والتوت والشوح، تتفاوت في أحجامها بين 10 سنتيمترات و10 أمتار، تُثبَّت مع بعضها بواسطة مسامير مختلفة الأجحام بعضها صغير، وأخرى يتراوح طولها بين 40-60 سم، حسب قطر الناعورة، تثبت عليها صناديق يتراوح عددها بين 50 و120.
الكم الهائل منَّ القطع الخشبية الكبيرة والصغيرة، جعل من صناعة النواعير، عملاً مُربكاً ومُعقداً، يحتاج إلى دقة وتوازن عند تنفيذه، كونه يوضع على محور خشبي من أجل الدوران لذلك فإن أي خطأ يؤدي إلى توقفها وعدم دورانها مهما كانت قوة المياه كبيرة.
النواعير الحموية عمودية أفقية المحور، تُدار بالدفع السفلي، وهو أقدم أنواع النواعير، بينما النواعير الموجودة في نيبال وشمال الهند، عموديّة المحور، أي تتألف من مجاذيف متصلة بمحور خشبي يعمل تيار الماء على تدوير مجاذيفه، وتالياً تدوير محوره الذي يقوم مباشرة بتدوير الطواحين الحجريّة .
توجد طاحونة مياه في بلجيكا على نهر آوثر، استُنِبطت من فكرة الناعورة الحمويَّة، كما الكثير من الإختراعات، استندت على ذات مبدأ النواعير، كمضخات رفع المياه من الآبار العميقة، ومولدات الكهرباء. وطواحين انتاج الطاقة الهوائية.
أقل مايقال في الناعورة انها ابنة الطبيعة وصديقة البيئة والنموذج الاساسي لكل مولدات الطاقة المستدامة..محاربة شجاعة للجفاف، تعطي الحياة لكل ما تلامسه ويشهد على ذلك أهالي حماة والحركة التجارية والسكانية الكثيفة بجوار النواعير، التي تأن وتنعر، فيما تروي المياه تاريخ المدينة العريقة.