لبنان بلد مجبول باليقين والمطلق وكل ما يقفل نوافذ التفكير وفرص البحث عن تعدد الخيارات. لذلك، تتحكم شهوة الالغاء بمعظم قواه، وكل متعطش للسلطة، هاجسه الأول والأخير أن يمارس تلك السلطة المطلقة، ولو تطلب ذلك التعامي عن كل البؤس والتهميش والفقر، وأن يعتقد للحظة أنه يعيش في عالم “لالا.. لاند”!
بات ممنوعاً علينا التفكير، اليوم، بأي حل خارج إطار صندوق النقد الدولي. كل محاولة من هذا النوع، تعتبر من وجهة نظر أهل القرار، مجرد مضيعة للوقت الثمين وعودة الى فكر “متخلف” لفظته البشرية، برغم ان هؤلاء أنفسهم، ولو بمسميات مختلفة، مارسوا الخيارات والمقاربات نفسها، لمدة تزيد عن ربع قرن، لكأنهم أرادوا أن يكونوا أوفياء لخيارات عمرها من عمر تأسيس الكيان المئوي.
في أحسن السيناريوهات، لن يعطي صندوق النقد الدولي لحكومة لبنان سوى حوالي ٩ مليارات دولار اميركي مقسمة على ٥ سنوات، اي ١.٨ مليار خلال السنة الواحدة، وسيسمح ختمه السحري للدول التي تنوي اقراض لبنان، أن تترجم قرارها، فتنطلق ورشة اعمارية ـ استثمارية، تقوم هذه المرة، على بيع أصول الدولة ومرافقها وقطاعاتها، بعنوان تحفيز الاقتصاد ومده بالأمصال والإنعاشات المطلوبة.
أما ضريبة هذا القرار، فسيصار إلى تحميلها إلى أوسع فئات المجتمع اللبناني وبالتالي، تدمير ما تبقى من طبقة وسطى، وتكريس الاختلالات الهيكلية في بنى الاقتصاد، وتأبيد القوى السياسية الأساسية في السلطة، من خلال تحكمها بتخصيص القطاعات وإعادة سيطرتها على التوظيف والاقتصاد من جديد، من دون نسيان أسلحة الطائفية والمذهبية الفتاكة والمستدامة، وذلك كلما شعر هؤلاء بالحاجة إلى إستخدامها لكبح أي حراك إجتماعي حقيقي في المستقبل.
هذا السيناريو “اللالاندي” الجميل، يفترض لإطلاقه معجزة ما، وأن نتغاضى عن الشروط السياسية والسيادية وأن نقبل بفصل لبنان عن محيطه وبفصل
المكونات اللبنانية عن بعضها البعض، بمعنى تعديل التوازنات التي تحكم العلاقات في ما بينها وصولًا الى تكريس موقع إقليمي ودولي جديد للبنان.
هل نتعاطى بقدرية مع هذا السيناريو أم علينا أن نتحلى بالجرأة، أقله الجرأة الفكرية والمعنوية في محاولة تقديم البدائل؟
قبل الخوض في الاقتراحات الممكنة، لا بد من الإشارة الى مقاربة مناقضة لما طرح في ورقة الحكومة أو ما أسميت “خطة لازار”، والتي تبين، حتى الآن، أنها مجرد صدى لبرنامج الصندوق. أما المقاربة البديلة، فترتكز إلى الآتي:
أولاً، المقاربة والحلول اقتصادية. لا هي مالية ولا معادلات نقدية.
ثانياً، المقاربة ليست محاسبية (خسائر وأرباح) بل إدارة موارد (الإنتاج والتنمية وحاجات المجتمع وغيرها).
ثالثاً، المقاربة يجب أن تنطلق من حقيقة أن لبنان وطن وليس دوراً او وظيفة او معبراً او محطة وهو أيضاً ليس جزيرة أو مقطوعاً عن شجرة مغتربيه وأسواقه العربية .
رابعاً، أية مقاربة يجب أن تنطلق من أن أزمتنا ليست أزمة تمويل بل تنظيم للإنفاق، حتى لو واجه البلد مشكلة سيولة، فلطالما دخلت إلى لبنان أموال تفيض عن حاجاته بأضعاف وأضعاف ولم تحل دون بلوغ الأزمة. يعني ذلك، أنه في ظروف مختلفة، يمكن للتدفق المالي أن يعود لكن المطلوب ضخ الأموال أولاً في شرايين الاقتصاد وليس في مجاري الاستهلاك والزبائنية السياسية.
ان هذه الركائز لأية مقاربة بديلة، يجب أن تنعكس في الخطط والبرامج ولا يجب التعامل معها بوصفها مسائل جانبية او هامشية .
تقتضي الواقعية الإقتصادية منا القول أن لبنان بحاجة إلى كسر العجز المتأصل في ميزان المدفوعات، وبالتالي، تخفيف الحاجة للعملة الصعبة غير المتوفرة بالكميات المطلوبة لأسباب سياسية واقتصادية ومالية. من هنا يمكن أن نحرر أنفسنا بطرح بضعة أفكار قابلة للتحقيق وليست مستحيلة ويمكن عرضها على الشكل الآتي:
١- النفط: تأمين حاجات لبنان لمدة سنتين متتاليتين عبر تأجيل الدفع او استبدال السعر بحوافز استثمارية او استراتيجية في قطاع التنقيب عن الغاز والنفط، مع الدول المهتمة كالعراق، الكويت، الجزائر، روسيا، ايران وغيرها. التأجيل او المقايضة سيوفر سنوياً قيمة المشتقات المطلوبة للكهرباء والمولدات الخاصة والاستهلاك العام. هذه الفاتورة تكاد تقارب وحدها خلال سنتين فقط
الرقم المطلوب من صندوق النقد الدولي، اي حوالي تسعة مليارات دولار خلال خمس سنوات، علمًا ان الدولة ستستوفي كل الفارق من البيع للقطاع الخاص من خارج حصة الكهرباء، اي ستجبي الدولة اكثر من نصف المبلغ كتدفقات للخزينة.
٢- الكهرباء: تلزيم إنشاء معامل توليد الكهرباء لمستثمر استراتيجي على قاعدة تأمين التمويل، وفق آلية تجنّب الدولة ضخ المال او مراكمة دين مباشر، اي قبل تأمين بيع الكهرباء والاسترداد، وهذا من شأنه أن يعطي إشارة مفصلية الى وقف الثقب الأسود لنزف العملة الصعبة، وكذلك وقف كارثة تحميل الاقتصاد والمجتمع أثماناً باهظة تلقي على المكلف اعباء تعوق الحركة الإنتاجية والخدماتية وتلغي قطاعات برمتها لاعتمادها ما يفوق الـ ٥٠ بالمئة على ثمن الكهرباء، ناهيك عن توفير اكبر مؤشر جدي إصلاحي، وهذه العملية توفر مباشرة او بتداعياتها ما يقارب مليارين الى ثلاثة مليارات دولار اميركي سنوياً.
٣- المصافي: استقدام شركات تهتم بإعادة بناء المصافي وإستثمارها نظراً لأهميتها على شاطئ المتوسط وكذلك بحث اعادة الخطوط لا سيما خط شمال لبنان ـ العراق عبر سوريا، مع الأخذ بالاعتبار امكانية وجود النفط في لبنان، بحرًا وبرًا، وربط هذا الامر كسلة ممكنة مع الشركات المهتمة بالتنقيب .
٤- شبكة سكة الحديد والقطارات: ثمة اهمية لربط مناطق لبنان بعضها البعض وربط الموانئ اللبنانية ببعضها وكذلك بسوريا من جميع الجهات، مما سيغير جذرياً توزع الطاقة، حركة النقل وانتقال البضائع، تمركز الثقل السكاني والعمراني والنفايات والبيئة والمياه إلخ، وهي مسائل سيكون لها انعكاس اقتصادي واجتماعي وبيئي يفوق بأضعاف ثمن المردود المباشر للاستثمار في هذا القطاع الحيوي.
٥- الإستثمارات: السماح بتأسيس او دخول رساميل شرقية بالمفهوم الواسع الى المصارف او الشركات المالية، وهو اتجاه عالمي قائم ومتصاعد ويلقى رواجاً كبيراً، لا بل يمكن القول أننا أمام فرصة إذا إستفدنا منها يمكن تحويل لبنان الى مركز إقليمي لهذه الشركات.
٦- التصنيع: وهذا الأمر يشمل الدواء والمنتجات الطبية والصحية والمواد الغذائية، خاصة مع تغيير بنية الأكلاف العالية والفهم التمويلي المناقض لما ساد خلال العقود الماضية. ان السوق اللبناني الذي استورد بقيمة تقارب الـ٢٠ مليار دولار، في حقبة محددة، يمكنه ان يستوعب من الانتاج المحلي ما يكفي
لاطلاق ورشة صناعة داخلية وصولاً إلى تصدير ما يفيض عن السوق المحلي، ومهما انخفضت القدرة المالية على الاستهلاك، تبقى كافية لتأمين الحد الأدنى الضروري لنجاح الصناعة الوطنية.
٧- الزراعة: يكتشف اللبنانيون أرضهم من جديد وخيراتها ايضاً مع حالتي الفقر والكورونا، ويمكن التنويع بين زراعات تقليدية لا تموت وزراعات جديدة بقيمة مضافة وصولاً إلى اعادة خلق حيز ضروري لحصة الزراعة من الناتج المحلي ومن الاكتفاء الذاتي المطلوب، خاصة ان بعض الأنواع لم يعد بالإمكان استيرادها في الأفق القريب ويمكن إنتاجها على الصعيد المحلي بأكلاف قليلة.
٨- صناعة المعرفة والتكنولوجيا: استطاع لبنان خلال أعوام ٢٠٠٨ و٢٠١٢ خلق صناعة معرفية وإنشاء مشاغل للابتكار بلغ مردودها ما يفوق الـ٥٠٠ مليون دولار، وبتوظيفات بسيطة جدًا، ولكن سرعان ما إنهارت بسبب القيود والقوانين البالية، فهرب معظم أصحابها الى دول أخرى كشرق اسيا. ان تخفيف القيود ومعالجة الحواجز يسمح بعودة وتطوير هذه المشاغل لا سيما ان قروض المعرفة والابتكار الموظفة تتيح ذلك.
٩- سوريا: لبنان ليس جزيرة في محيطه ولا هو مفصول عن واقعه، فكيف يمكن لخطة إنقاذ ان لا تلحظ موقعه وعلاقته مع سوريا الجارة والرئة والمصالح المتداخلة والمشتركة وكذلك المعبر الى الداخل العربي وربما الأبعد من ذلك. ان مكامن القوة في الاقتصاد السوري هي مكامن الضعف في الاقتصاد اللبناني.. والعكس صحيح، ان كل مشروع يلحظ القواسم المشتركة يخفف الكلفة والوقت للبلدين. ان لبنان يستطيع اليوم التبادل مع سوريا، وفق آليات مختلفة وتمويل بعيد من العملة الصعبة. يسري ذلك على قطاعات من الكهرباء الى المواد الغذائية وغيرها، ولا يوجد عاقل في أوقات الأزمات والانهيار يقفل منافذ الهواء على حاله الا إذا كان راغباً بالانتحار. ان العلاقة الاقتصادية في زمني الانهيار اللبناني والإعمار السوري تبدأ من ابسط المستلزمات التي يحتاجها البلدان الى اعقد تداخل يوفر الكثير على البلدين في سياق خطة متكاملة توفر الجهد والوقت وتحقق الأرباح للطرفين.
١٠- العراق: لطالما شكّل العراق على الدوام السوق الأربح للبنان، وكان مرفأ بيروت يعمل بأكثر من نصف طاقته حصرًا للعراق، وكانت معامل الزجاج وغيرها محتكرة لبلاد الرافدين، وكذلك الانتاج الزراعي اللبناني، ولا يمكن للبنان ان يرسم خطة من دون لحظ عمقه العربي، وخاصة العراق، حيث تتوفر
الإرادة السياسية لذلك مع القدرة الاقتصادية، ومن نافل القول أنه في ظل وجود ودائع عراقية في المصارف اللبنانية، يمكن لهذا الامر أن يتخذ بعدًا مختلفًا ويشكل حافزًا كبيرًا للجانبين.
١١- روسيا: إن دولة عظمى تقيم بجوار لبنان لخمسين سنة مقبلة، وصاحبة الدور الكبير في سوريا ومنها الى المحيط، والمستثمرة في بحرنا وعلى شاطئنا، ومع دخولها الى كل المنطقة من مصر والأردن الى العراق وقبرص واليونان، ومع وجود آلاف اللبنانيين الذين درسوا في معاهدها في زمن الاتحاد السوفياتي أو يدرسون حالياً، وجميعهم يعرفون لغتها وقيمها وتقاليدها، فكيف يمكن بناء خطة إنقاذ للبنان تتجاهل حقيقة وجود قوة اقتصادية دولية صاعدة يحلو للكثيرين التخفيف من وزنها ودورها؟ ولماذا لا نقتدي بجارتنا قبرص التي تبعد عنا عشرات الكيلومترات، وهي تعيش على السياحة والإستثمارات الروسية وتعتبر مصارفها أكبر مشغل للودائع الروسية، فهل يحق لنا التفكير بجذبها الى بلدنا، لا سيما في ظل الإهتمام الروسي المعلن بالإستثمار في قطاعات معينة كالطاقة والتصنيع وغيرها.
١٢- الصين: يعلم معظم المسؤولين اللبنانيين ماذا قدمت الشركات الصينية من عروض في أكثر من قطاع، وهذه العروض ما زال معظمها موجوداً، وقد فاقت المبالغ المقدمة قيمة أموال مؤتمر سيدر بالكامل وبشروط أفضل وأجدى.
وإذا كان عالم ما بعد كورونا مختلفاً عن عالم ما قبله، إلا أن العربة الصينية ثابتة وسنجد بلداناً متعافية تتجه اليها، فكيف الحال مع بلد مأزوم كبلدنا؟
هذه الخيارات هي عينة لما يمكن أن نضعه على طاولة الفرص وسنجد خيارات أخرى في قطاعات كالثقافة والفن والإبداع والإعلام والسياحة، وكلها تحاول أن تنبش أفضل ما عند شعبنا من إمكانات بدل الإصرار على جعلنا نجلس على رصيف المتسولين ننتظر من صندوق النقد فُتاته ووصفاته وشروطه.
لبنان عاش في زمن الحرب الأهلية ظروفاً أصعب بكثير من التي يعيشها في هذه الأيام، وبالتالي، لن يقبل شعبه أن تمر محاولات إذلاله مرور الكرام.
إذا كان الانفجار الاجتماعي لا مفر منه، فقد قد يطيح بكل شيء وان لم يستطع بناء شيء مختلف.
لنحاول ان نستفيد من بعض أوراق القوة والبدائل التي يمكن تطويرها ومرحلتها.
العبرة هي في الإرادة والإدارة، فهل هي مسلوبة ام مرهونة ام مؤجلة؟
بالتعاون مع موقع 180post