بلغ حجم التعدين العالمي للعملات الرقمية المشفرة أكثر من 4.05 مليارات دولار أميركي في عام 2020، ومن المتوقع أن يتجاوز 4.502 مليارات دولار في 2026 بحجم نمو سنوي مركب يصل 2.7% خلال السنوات الخمس القادمة، حسب ما ذكرت منصة “غلوب نيوز واير” (GlobeNewsWire) في تقرير لها مؤخرا.

وفرضت العملات المشفرة نفسها بقوة على الاقتصاد العالمي حاليا، خاصة مع ازدياد انتشارها وتداولها في مختلف أنحاء العالم عامة وعالمنا العربي خاصة، حيث بلغ حجم المعاملات عبر منصات تداول العملات الرقمية نحو 2.5 تريليون دولار في سبتمبر/أيلول الماضي، وهو في ارتفاع مستمر، وفقما ذكرت منصة “سي إن بي سي” (CNBC) في تقرير لها أخيرا.
وانتشر مؤخرا مصطلح تعدين العملات الرقمية المشفرة، وأصبح هذا القطاع الجديد والناشئ يجتذب سنويا آلاف الأشخاص حول العالم الباحثين عن العمل والربح السريع، وتنتشر مزارع ومنصات ومناجم التعدين في مختلف الدول، من أميركا الشمالية إلى الاتحاد الأوروبي وآسيا مرورا ببلدان الشرق الأوسط وعالمنا العربي.

قد يتبادر لذهن الكثير من الناس أن تعدين العملات المشفرة هو عملية تصنيعية يتم من خلالها صنع هذه العملات، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فالعملات المشفرة هي عملات رقمية بالكامل وليس لها وجود في العالم المادي، ولا يوجد هناك أي سجلات معروفة لحيازتها في عالم الواقع، كما أنه لا يتم التحكم بإصدارها بشكل مركزي كأي عملة أخرى في العالم مثل الدولار الأميركي أو اليورو الأوروبي، ولا يوجد هناك سجل رسمي لمعرفة من يمتلكها أو الشركات التي تتعامل بها.

بدلا من ذلك يتم حفظ جميع العملات المشفرة رقميا عبر شبكة “سلسلة الكتل” أو “البلوك تشين” (blockchain) في “دفاتر رقمية” (digital ledgers) خاصة بها، كما ذكر الكاتب شيتان ناياك في تقرير له نشرته منصة “آنديان إكسبرس” (IndianExpress) مؤخرا.

وأضاف الكاتب أن أهمية هذه الدفاتر تكمن في أنها تتبع وتسجل كافة المعاملات التي تجري على هذه العملات في جميع أنحاء العالم أولا بأول، وعلى ملايين أجهزة الحاسوب القوية بما يكفي للقيام بهذه العملية المعقدة، وبما أن هذه الشبكة هي شبكة لا مركزية، فلا يمكن لأي شخص أو شركة أو دولة أو كيان واحد التحكم فيها، وهذه الملايين من أجهزة الحاسوب التي تتعقب هذه المعاملات هي ما يمكن أن نطلق عليها أنظمة أو منصات التنقيب عن العملات المشفرة (crypto mining systems or rigs).

كيف يعمل التنقيب عن العملات الرقمية؟
لفهم كيفية التنقيب عن العملات الرقمية يجب فهم آلية عملها، فالناس يرسلون عملات رقمية لبعضهم بعضا عبر شبكة العملات الرقمية -مثل “البتكوين” (Bitcoin)- طوال الوقت، ولكن ما لم يحتفظ شخص ما بسجل لجميع هذه المعاملات، فلن يتمكن أي شخص من تعقب من دفع. وتتعامل شبكة العملات الرقمية مع هذه المعضلة من خلال جمع كل المعاملات التي تتم خلال فترة معينة في قائمة تسمى “كتلة” (block)، ومهمة المنقبين عن العملات تأكيد تلك المعاملات وكتابتها في دفتر أستاذ عام (سجل المعاملات) أو ما يسمى “سلسلة الكتل” أو “بلوك تشين” (block chain).

فعندما يتم إنشاء كتلة جديدة من المعاملات، تتم إضافتها إلى “سلسلة الكتل” أو البلوك تشين، مما يؤدي إلى إنشاء قائمة طويلة من جميع المعاملات التي جرت على شبكة العملات الرقمية، ويتم إعطاء نسخة محدثة باستمرار من البلوك تشين لكل من أعضاء الشبكة، حتى يعرفوا ما يجري.

ولكن للحصول على الموافقة لإضافة بلوك جديدة إلى البلوك تشين الخاصة بالعملة الرقمية، يجب حل أسئلة تشفير معقدة للغاية، وحلّ هذه الأسئلة يضمن أن العملية تمت بشكل صحيح وآمن ودون تلاعب، وهنا يأتي دور من يُطلق عليهم “المنقبون”، الذين يستخدمون حواسيب قوية وبرامج مكتوبة خصيصا للتنقيب عن هذه الكتل، من أجل حل تلك المعادلات الرياضية، وبالتالي التأكد من صحة المعاملات المالية، وعندما ينجحون في ذلك يتم منحهم عملات رقمية مكافأة لهم.

ولمزيد من التفاصيل حول كيفية التنقيب عن العملات الرقمية يمكن الاطلاع على المقال التالي المنشور لدينا في الجزيرة نت.

منصات التنقيب ومزارع التعدين
من الناحية النظرية يمكن لأي شخص في العالم العمل في تعدين العملات المشفرة، والمتطلبات الأساسية هي جهاز حاسوب قوي وبرامج خاصة للتعدين ومحفظة للعملات المشفرة، وبمجرد توفير هذه المتطلبات، سيتم توصيل هذا الحاسوب بشبكة التعدين العالمية حيث سيصبح جزءا من ملايين الحواسيب التي تعمل في إنتاج هذه العملات، كما سيتم استخدام قدرات هذا الحاسوب على المعالجة للحفاظ على الدفاتر الرقمية التي ناقشناها أعلاه، وذلك كما ذكر الكاتب في تقريره.
ولنتذكر هنا أن من الأفضل استخدام حواسيب تحتوي على وحدات معالجة رسوم (Graphics Processing Units) أو “جي بي يو” (GPU) من الفئة العليا، وهذا هو السبب في أن تعدين العملات المشفرة يصبح أكثر كفاءة وربحية على أجهزة حواسيب الألعاب التي تستخدم هذه النوعية، حيث تعد وحدات معالجة الرسومات الحديثة مثل سلسلة “إنفيديا آر تي إكس 30” (Nvidia RTX 30) أو “إيه إم دي راديون” (AMD Radeon) اختيارات شائعة جدا للعاملين في هذا المجال، وهذا أيضا هو السبب وراء ارتفاع الطلب على وحدات معالجة الرسومات هذه إلى مستويات عالية جدا خلال السنوات القليلة الماضية، مما أدى إلى زيادة أسعارها بشكل كبير.

من ناحية أخرى، يُعد التعدين باستخدام أجهزة الحاسوب المحمولة فكرة مروعة، فهذه النوعية ليست مصممة للتعامل مع درجات الحرارة العالية التي يمكن أن تتولد عندما يقوم الحاسوب بالتعدين لفترة طويلة من الوقت، وقد تتسبب هذه الحرارة الزائدة في تلف الحاسوب المحمول. ومن ثم، فإن أجهزة الحاسوب الثابتة والقوية هي الأنسب لعمليات التعدين لقدرتها الكبيرة على التعامل مع الطاقة والحرارة الزائدة، وفقما ذكر شيتان ناياك في تقريره.

ويمكن للمستخدمين الذين يريدون كسب المزيد من الأرباح إنشاء أجهزة حاسوب أكثر قوة مع إضافة العديد من بطاقات الرسوم إليها، وتُستخدم هذه الأجهزة بعد ذلك للتعدين فقط، ويمكن أن تحتوي على ما يصل إلى 8 وحدات معالجة رسومات مرتبطة ببعضها بعضا.

وهناك العديد من “عمال المناجم” الذين يملكون مجموعة كبيرة من هذه الحواسيب المتصلة ببعضها بعضا التي تم إعدادها للعمل معا في وقت واحد، حيث تسمى هذه المجموعة من الحواسيب المرتبطة بـ”مزارع التعدين” (crypto mining farms).

تكلفة عالية وأرباح أكبر
ويؤكد شيتان ناياك في تقريره أن إنشاء مزرعة أو منصة تعدين قوية للعملات المشفرة قد يكلف ثروة كبيرة من المال، ويضاف إلى هذا فواتير الكهرباء المرتفعة، إذ إن التعدين يستهلك كميات كبيرة من الطاقة اللازمة لتشغيل الحواسيب لفترات طويلة، كما يستخدم التعدين المشفر بشكل أساسي وحدات معالجة الرسومات الخاصة بأقصى إمكاناتها، وهو ما يؤدي إلى تقليل العمر الافتراضي لهذه الوحدات، ولكن، وعلى الرغم من كل ذلك فإن عددا كبيرا من الشباب من مختلف أنحاء العالم ينضمون لهذه العملية في كل يوم بسبب الأرباح والمكاسب الكبيرة التي يتقاضها عمال المناجم هؤلاء.
لكن كيف يكسب عمال المناجم المال؟
عندما “تتبرع” بحاسوبك أو مجموعة حواسيبك، وتدخلها في نظام تعدين عملة رقمية محددة مثل البتكوين مثلا، فإن هذا النظام يكافئك بإعطائك جزءا من العملات التي قمت بتعدينها، وذلك تعويضا ومكافأة لك على جهودك، وبما أن ثمن هذه العملات مرتفع جدا، فإن التعدين عملية مربحة للغاية، ويمكن للأشخاص الذين يملكون أجهزة حواسيب قوية أن يجنوا الكثير من المال، أكثر مما استثمروه في بناء مزارعهم ومناجمهم الرقمية.

مخاطر تعدين العملات
ومثلما أن هناك أرباحا، فإن هناك مخاطر في تعدين العملات، وأبرز هذه المخاطر هي تقلب أسعار العملات الرقمية، والتي يمكن أن تتغير نزولا أو ارتفاعا في أي لحظة، كما أن عدم وجود مؤسسة اعتبارية تعد مرجعية لتنظيم عمليات التعدين يجعلها مخاطرة أو ربما فقاعة من فقاعات التكنولوجيا الكثيرة التي خسر فيها العديد أموالهم ولم يستطيعوا استرداد حتى جزء منها.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This