في الأسبوع الثالث من آذار (مارس) الماضي، سجّلت محطات بحثية في شرق القارة القطبة الجنوبية (أنتاركتيكا)، أعلى ارتفاع بدرجات الحرارة في أي شهر منذ بدء عمليات التسجيل. المحطة الروسية “فوستوك” وسط القارة المجمدة سجّلت حرارة 17.7 درجة سلسيوس سالبة، أي تحت الصفر، وحطمت بذلك الدرجة القياسية سابقاً (32.6 سلسيوس أو مئوية سالبة). ولم تكن المحطة الروسية وحيدة، بل أيضاً كانت هناك محطة بحثية فرنسية-إيطالية اسمها “دوم كونكورديا” سجلت درجة حرارة قياسية جديدة كذلك.
الصادم هناك أن درجة الحرارة تكون غالباً في مثل هذا اليوم 49 مئوية (سلسيوس) سالبة، ما يجعل الارتفاع مفاجئاً وقفزة نوعية تستدعي بعض التفكير بالتداعيات. لهذا السبب، سارعت وسائل الاعلام الغربية ومنها شبكة “سي أن أن” الاخبارية الأميركية وصحيفة “ذي غارديان” البريطانية وغيرها في العالم، إلى تغطية الحدث ومنحه اهتماماً خاصاً رغم طغيان أخبار الحرب.
واللافت كذلك تحذير وكالة الأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة من أن درجات الحرارة القصوى وتحولات الجرف الجليدي والأمطار، تُذكرنا بضرورة عدم التسليم باستقرار القارة القطبية الجنوبية بصفتها “عملاقاً نائماً” يتسم بالبرد والجفاف والرياح.
مخاوف العلماء من أثر الحرارة الزائدة على هذه القارة الباردة، ترتبط بثلاثة عوامل، الأولى هي أن الجليد يعكس أشعة الشمس بنسبة تصل الى 90 بالمئة، وبالتالي فإن ذوبانه يعني حتماً رفع نسبة حرارة المياه والكوكب ككل. والعامل الثاني هو انبعاثات الكربون المُخزنة تحت الثلوج والتي ستُطلق إذا ذابت، فيما العامل الثالث والأهم هو أن الذوبان وانضمام الكتلة الثلجية الصلبة للمحيط تعني عملياً رفع منسوب المياه بعشرات الأمتار، بما سيتسبب بكارثة وغرق مدن ومناطق ساحلية بأكملها.
بيد أن أسوأ التوقعات هي بارتفاع درجة الحرارة بنسبة 2.4 درجة مئوية (سلسيوس) في غضون العام 2050، ولذلك نتائج كارثية بالطبع، ومنها الطقس المتطرف والفيضانات وغير ذلك. لكن التعهدات الدولية في قمم المناخ تلتزم تحجيم الارتفاع وحصره بنسبة 1.5 درجة مئوية فحسب لتجنب هذه الانعكاسات.
والمشكلة تكمن في عدم التزام اغلب هذه الدول تعهداتها بالكامل، سيما في ظل تلقي التعاون الدولي ضربة مع غزو روسيا لأوكرانيا، والموقف الصيني المنحاز لموسكو في هذا النزاع. كيف بالإمكان التركيز على خفض الانبعاثات وضمان الالتزام بذلك، فيما يدور صراع مثل الحرب في أوكرانيا مع انعكاسات على أمن أوروبا؟
المفارقة هنا أن المجموعة الأممية المرجعية في هذا المجال، وهي الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، ستُصدر اليوم الاثنين تقريراً عن تقويمها السادس بعد 6 سنوات من العمل عليه، دون الاهتمام الدولي المطلوب بما سيأتي فيه. لا بل الواضح الآن، وفقاً لما تسرب الى وسائل اعلام غربية، أن الدول الفاعلة في الهيئة، تعمل على التخفيف من حدة اللغة المستخدمة في التقرير بهدف تجنب انعكاساته الاقتصادية.
بعض المشكلة هنا أن الهيئة هي جسم هجين يجمع بين العلماء والدول الأعضاء، وكانت إدارة الرئيس الأميركي الراحل دونالد ريغان أسهمت في تشكيلها منتصف ثمانينات القرن الماضي بهذه الطريقة للتخفيف من احتمال تأثير علماء مستقلين في توصياتها. والهيئة غالباً ترسم التوجهات العامة، ولا تُجري أبحاثاً مستقلة بل تعتمد على التوجهات العلمية العامة لتقديم تقديرات شاملة لحالة الفهم العلمي والفني والاجتماعي والاقتصادي لتغير المناخ وأسبابه وتأثيراته المحتملة واستراتيجيات التصدي.
خلاصة الأمر أن الهيئة شُكلت كي تسمح للدول بالتدخل في مثل هذه الظروف، وبالتالي يُتوقع التخفيف من حدة اللغة المستخدمة، رغم أن العالم بات يُسجل درجات حرارة قصوى تُنذر بانعكاسات مُضاعفة خلال العقود المقبل ستشعر بها أولاً الدول والشعوب الفقيرة الهشة التي تُعاني غالباً من شح في المياه وخطر على أمنها الغذائي. الفقراء هم من سيدفع ثمن جريمة لم يرتكبوها.